حديث الجمعةشهر محرم

حديث الجمعة 314: من دروس عاشوراء – بلدُنا يمرُّ بأصعب منعطفٍ سياسي وأمني

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وعلى آله الطاهرين…


أتناول في حديثي هذا العنوان:


من دروس عاشوراء:
أبدأ بطرح هذا السؤال: لماذا نصرّ على إحياء عاشوراء؟
هناك أربع غاياتٍ رئيسة:
الغاية الأولى: الامتثال لتوجيهات أئمَّتنا الطاهرين، حيث أمرونا بإحياء عاشوراء..
• روي عن الإمام الصَّادق عليه السَّلام قال لفضيل:
«يا فضيل تجلسون وتتحدَّثون؟»
قال: نعم سيدي، قال عليه السَّلام: «يا فضيل هذه المجالس أحبّها، أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا».


الغاية الثانية: الاستحضار الدائم لتاريخ عاشوراء..
وهذا الاستحضار التاريخي الدائم لعاشوراء يحقِّق أهداف مهمَّة جدًا:
(1)  لكي لا تُطمس هذه القضية، ولكي لا تحرَّف، كما طمست وحرِّفت الكثير من وقائع التاريخ.
(2)  لكي تستمر وثيقة الإدانة ضدَّ صنَّاع الجريمة في كربلاء.
(3)  لكي تكون عاشوراء مصدر إلهامٍ مستمرٍ يغذِّي الأجيال…


الغاية الثالثة: لكي يبقى الحزن العاشورائي..
ربَّما يرفض البعض استمرار الحزن العاشورائي، والرافضون صنفان:
1- الذين يحاربون كلَّ المراسيم العاشورائيَّة.
2- الذين لم يستوعبوا فلسفة الحزن العاشورائي، واعتبروه ظاهرة سلبية تكرِّس الضعف والهزيمة والانكسار في النفسية الشيعية…
وليست هنا في صدد مناقشة هذه الإشكالية، وأكتفي بالقول أنَّ الروايات الصحيحة الثابتة، الصادرة عن أئمَّة أهل البيت عليهم السَّلام أكَّدت بقوة على هذه المسألة (الحزن والبكاء من أجل الحسين)، إضافة إلى بكائهم (ع)، وهذا يكفينا سندًا شرعيًا لهذه الشعيرة العاشورائية.
• جاء في كامل الزيارات لابن قولويه: أنَّ الإمام الصَّادق عليه السَّلام قال لأبي هارون المكفوف:
«يا أبا هارون أنشدني في الحسين».
قال: فأنشدته، فبكى…
ثمّ قال (ع) زدني… فأنشدته، فبكى وسمعت البكاء من خلف الستر…
فلما فرغت قال لي: «يا أبا هارون مَنْ أنشد في الحسين شعرًا فبكى وأبكى عشرة كتبت له الجنَّة، ومن أنشد في الحسين شعرًا فبكى وأبكى خمسة كتبت له الجنَّة، ومن أنشد في الحسين شعرًا فبكى وأبكى واحدًا كتبت له الجنَّة».


الغاية الرابعة: لكي نتمثَّل دروس عاشوراء..
وهذه أهم الغايات وهي التي تعطي لبقية الغايات قيمتها، فلا قيمة لامتثالٍ لتوجيهات الأئمَّة لا يحوِّل هذه المجالس إلى منطلقات بناءٍ وتغيير، ولا قيمة لاستحضارٍ تاريخي لا ينتج تمثّلًا علميًا لأهداف عاشوراء، ولا قيمة لحزنٍ لا يعبِّر عن التزامٍ بقيم عاشوراء…


أطرح هنا نموذجًا من دروس عاشوراء:
على أمل أن أتابع في اللقاء القادم – إنْ شاء الله – طرح النماذج الأخرى…
فما أحوجنا أن نتمثَّل دروس عاشوراء…
النموذج الذي نطرحه هنا، قدَّمه لنا أحد أبطال كربلاء وهو (الحر بن يزيد الرياحي)..
حينما اكتملت الاستعدادات في يوم عاشوراء لمقاتلة الإمام الحسين (ع)، كان الحر بن يزيد الرياحي في الجبهة المناوئة للحسين، وفجأةً أخذته رعدة، فقيل له: ما هذا الذي نرى منك، وأنت أشجع أهل الكوفة؟
فقال: إنِّي أخيِّر نفسي بين الجنَّة والنار، واللهِ لا أختار على الجنَّة شيئًا ولو أحرقت… ثمَّ ضرب جواده نحو الحسين، منكِّسًا رمحه، قالبًا ترسه، وقد طأطأ رأسه حياءً من آل الرسول (صلَّى الله عليه وآله) بما أتى إليهم، وجعجع بهم، ورافعًا صوته: «اللهمَّ إليك أنيب فتب عليَّ فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيِّك… يا أبا عبد الله إنِّي تائب فهل لي من توبة؟ فقال الحسين عليه السَّلام: « نعم يتوب الله عليك».
وقاتل بين يدي الحسين، وسقط شهيدًا، وأبَّنه الحسين بقوله: «أنت الحرّ كما سمَّتك أمُّك، وأنتَ الحرُّ في الدّنيا والآخرة».


ماذا يُعطينا هذه النموذج العاشورائي من دروس؟
هذه بعض الدروس:


الدرس الأول:
لا حياد في معركة الحقِّ والباطل:
الحياد هو خذلان للحقِّ…
لا معنى للوقوف على التلِّ حينما يحتدم الصراع بين الحقِّ والباطل…
يحدِّثنا التاريخ: أنَّه حينما احتدم القتال بين الإمام عليّ ومعاوية في معركة صفين، كان أحد الصحابة واقفًا على التلِّ… وحينما يهدأ القتال وتقام الصَّلاة ينضم إلى صلاة عليّ، وحينما تفرش موائد الطعام ينحاز إلى معاوية، فسأل عن ذاك فقال: الصَّلاة مع عليّ أتم، والأكل مع معاوية أدسم، وإذا وقع القتال فالوقوف على التلِّ أسلم».
إنَّ الوقوف على التلِّ في معارك الحقِّ والباطل مع وضوح الرؤية يُعدُّ خيانة للحقِّ، ودعمًا للباطل…


الدرس الثاني:
المعركة في يوم عاشوراء وضعت الناس بين خيارين الجنَّة أو النَّار…
الانحياز إلى الحسين يعني (خيار الجنّة).
والتخلِّي عن الحسين مع القدرة على النصرة يعني (خيار النّار).
معارك الحقِّ والباطل تتكرَّر في كلِّ عصر…
وهكذا خيارات الجنَّة والنَّار تتكرَّر في كلِّ عصر.
ما أحوجنا إلى درجاتٍ عالية من البصيرة لكي لا ننحاز ضدَّ الحقِّ، الحقّ العقيدي، الحقّ الفكري، الحقّ الاجتماعي، الحقّ السِّياسي… ولكي لا يكون خيارنا النَّار وخسران الجنَّة…


الدرس الثالث:
في اللحظة الحاسمة يجب اتخاذ القرار الصائب…
خشية فوات الأوان، خاصَّة في المنعطفات التي تتجاذب الإنسان صراعات الحقِّ والباطل، وتتنازعه خيارات الجنَّة والنَّار.
عمر بن سعد مرَّ بلحظةٍ حسم، وخيَّر نفسه بين الجنَّة والنَّار، فاختار النَّار وخسر الدنيا والآخرة.
الحرّ بن يزيد الرياحي مرَّ بلحظة حسم، وخيَّر نفسه بين الجنَّة والنَّار، فاختار الجنَّة، وربح الدنيا والآخرة.
هكذا يصنع القرار الصائب في اللحظة الحاسمة…
كم يتكرَّر نموذج عمر بن سعد…
وكم يتكرَّر  نموذج الحرّ بن يزيد الرِّياحي…
قد تواجهنا لحظات حسمٍ في صراعات الحياة، فهل يكون نموذجنا عمر بن سعد، أم يكون نموذجنا الحرّ بن يزيد الرياحي؟
هذا درسٌ من أعظم الدروس التي قدَّمتها عاشوراء..
فما أحوج العالم اليوم وهو يمرّ بأعقد وأخطر المنعطفات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسِّياسية والأمنية إلى تمثِّل هذا الدرس العاشورائي العظيم…
نتابع دروس عاشوراء – إن شاء الله – في لقاءاتٍ قادمة…



بلدُنا يمرُّ بأصعب منعطفٍ سياسي وأمني:
هذا البلد الصغير في مساحته، الكبير في قيمته، يمرُّ في الوقت الراهن بأصعب منعطفٍ سياسي وأمني، ونتيجة قراراتٍ خاطئة، ونتيجة أوضاعٍ مغلوطة…
فما لم يُعاد النظر في هذه القرارات، وهذه الأوضاع فالمآلات خطيرة ومدمِّرة، والاتجاه إلى المزيد من التأزيم والتعقيد والاحتقان…
اللحظة الراهنة بكلِّ أخطارها في حاجةٍ إلى قرارٍ جريئ لإنقاذ هذا الوطن، ولإيقاف هذا التداعي المدمِّر.
 
مَنْ بيده هذا القرار؟
النظام بيده هذا القرار، ولن اتَّجه إلى القول بأنَّ القرار مرهونٌ لقوى من خارج الحدود…
ما المطلوب في هذا القرار؟
المطلوب الإصلاح السِّياسي الحقيقي، الذي يستجيب لمطالب الشعب العادلة المحقَّة، ويؤسِّس لمرحلةٍ جديدةٍ لا تحكمها أجواء البطش الأمني…
وما دام هذا القرار غائبًا، فلا خيار أمام الشعب إلَّا مواصلة الحراك السِّياسي، معتمدًا كلَّ الأساليب والأدوات المشروعة التي تبيحها منظومات الحقوق الإنسانية، وتسمح بها مواثيق الدول في الأنظمة المتحرِّرة من هيمنة القهر والاستعباد ومصادرة الحريات…
وما دام هذا القرار غائبًا، فلا خيار أمام الشعب إلَّا الثبات والإصرار مهما كلَّفه ذلك ثمنٍ باهض..


لن يمارس شعبنا عنفًا، ولا إرهابًا، ولا تطرّفًا، لكنه لن يتنازل إطلاقًا عن حقوقه، ولن يتراجع عن مطالبه، ما دام مؤمنًا بمشروعيَّة هذه الحقوق، وحقَّانية هذه المطالب، وبعدالة هذا الحراك…
إذا كان قرارُ السُّلطةِ الاستمرار في الخيار الأمني، فإنَّ خيارَ الشعب الاستمرار في الدفاع عن حقوقه العادلة…


فالحكمة كلّ الحكمة، والعقل كلّ العقل أن تتحمَّل السلطة المسؤولية في الإصلاح السِّياسي الحقيقي، وليس إنصافًا أنْ يُطالب الشعب بإيقاف حراكه المشروع، المطالب بالحقوق، لكي تفكر السُّلطة في الاستجابة أو عدم الاستجابة لبعض المطالب ووفق قناعاتٍ محدودةٍ لا ترقى إلى الحدِّ الأدنى من متطلَّبات الإصلاح، خاصة وأنَّ الشعب يجد نفسَه قد بذل تكلفة كبيرة وثمنًا باهضًا من أجل أنْ يحدث تغيير حقيقي، لا من أجل ترميمات شكليَّة لا قيمة لها.


إنَّ خارطة الطريق لإنقاذ الوضع تبدأ بمبادرةٍ جادَّة من النظام، ولن تتردَّد كلُّ القوى السِّياسية المعارضة، ولن يتردَّد الشارع في الاستجابة لأيِّ مبادرةٍ حقيقية وصادقة، ومحكومة لضماناتٍ يطمئن لها النَّاس…


لا يوجد مخلصٌ لهذا الوطن يريد أنْ تستمر الأوضاع المأزومة، ولا يوجد حريصٌ على مصالح هذا الشعب يسعى لتعقيد الأمور، وتوتير الأجواء، غير أنَّ ما يحدث على الأرض من تصعيدٍ مستمر للإجراءات الأمنية الضاغطة على أوضاع النَّاس، ومن استفزازات متواصلة حتى للشعائر الدينية كما حدث في موسم عاشوراء لهذا العام، كلُّ الذي يحدث لا يطمئن بوجود نيّة صادقة لدى السلطة في اتجاه التهدئة، وهي اتَّجاه الإصلاح الحقيقي، والتغيير الجدِّي، بل العكس هو الصحيح، فالنيَّة تتَّجه إلى المزيد من التأزيم والتعقيد، وإلى المزيد من مصادرة الحقوق والحرايات، رغم كلّ الإدانات والمناشدات الصادرة عن العديد من الدول، والعديد من المنظَّمات الحقوقية في العالم…


ونتمنَّى أنْ لا يموت الأمل لدى أبناء هذا الشعب فإنَّ لذلك نتائج في غاية الخطورة، حمى الله هذا الوطن من كلِّ الكوارث والمحن والشدائد.


وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربِّ العالمين…

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى