آخر الأخبارحديث الجمعةشهر ذي الحجةملف الحج

حديث الجمعة 611: حجَّة الوداع وما بعد الرَّحيل – هل يملك المسلمون حضورًا حقيقيًّا في هذا العصر؟

حديث الجمعة 611 | الموافق 6 يوليو 2023 - التاريخ 17 ذو الحجَّة 1444 | مسجد الإمام الصادق(ع) القفول - البحرين

حجَّة الوداع وما بعد الرَّحيل

 

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيم

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وآلِهِ الهُداةِ الميامين.

السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.

 

♦ حجَّة الوداع وما بعد الرَّحيل

في السَّنةِ العاشرةِ من الهجرة توجَّه النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى مكَّة المكرَّمة قاصدًا بيتَ اللهِ الحرام في حجَّة سُمِّيت (حجَّة الوداع). 

وحجَّ معه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أعداد كبيرة من المسلمين، يشدُّهم الشَّوقُ إلى حجِّ رسول اللهِ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، أحرموا كما أحرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ولبُّوا بتلبياته، وطافوا بطوافِهِ، وسَعَوا بسعيه، وفي عرفات وقفوا كما وقف رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وهكذا في المشعر ومنى، وأنهوا حجَّهم كما أنهى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حجَّه.

 وعاد النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) راجعًا من حجَّة الوداع وهو يعدُّ نفسَه للرَّحيل من هذه الدُّنيا مشدودًا إلى الآخرة، وقد أدَّى رسالته بكلِّ صدق وأمانة، وعانى ما عانى، وتحمَّل ما تحمَّل، وما وَهَنَ ولا ضَعُفَ.

وكانَ أعظم نبيٍّ شهدته الدُّنيا، وكان الرَّسول الخاتم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وبقیت مهمَّة كبرى تنتظره في هذه الأيام الأخيرة من حياته.

ألم يُبلِّغ الرِّسالة؟ 

بلى بلَّغ وصدَقَ في التَّبليغ. 

ألم يُعرِّفَ النَّاس أحكام الله؟ 

بلى عَرَّفَ وأوضَح كما أمَره اللهُ تعالى. 

هكذا وهو في طريق العودةِ من حجَّة الوَداع حاملًا كلَّ هموم الرِّسالة، وكلَّ هموم الأمَّة، وقد نُعيت له نفسه، فهو إذًا على مشارفِ الوَداعِ لهذه الدُّنيا.

نعم وهو في هذه اللَّحظات يُثقله همٌّ كبير كبير.

 

♦ ماذا بعد رحيل الرَّسول الكريم (صلَّى الله عليه وآله)

ماذا بعد رحيله؟

أيترك الأمَّة هَمَلًا، بلا راعٍ يرعى المسيرة؟ 

ألم يَتحدَّث (صلَّى الله عليه وآله) عن الفتنِ التي تنتظرُ المسلمين؟

ألم يتحدَّث عن خلافاتٍ وصراعاتٍ مرعبةٍ ومدمِّرة؟

  • في الكلمة عن النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «لَيَغشَيَنَّ أمَّتِي مِن بَعدي فِتَن ‌ٌكَقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ، يُصبِحُ الرَّجُلُ فيها مؤمِنًا ويُمسِي كافِرًا، ويُمسِي مؤمِنًا ويُصبِحُ كافِرًا، يَبيعُ أقوامٌ دِينَهُم بعَرَضٍ مِن الدُّنيا قَليلٍ». (الحاكم النيسابوري: المستدرك 4/438) 
  • وفي كلمة أخرى له (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «سَتَكُونُ فِتَنٌ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، إِلَّا مَنْ أَحْيَاهُ اللهُ بِالعِلْمِ». (القزويني: سنن ابن ماجة 5/444، ح 3954) 

فهل يبقى (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) صامتًا دون أن يحدِّد للمسلمين مَسَارًا يحميهم من الفتن والخلافات والصراع؟!

هكذا كانت الهمومُ الكبيرة تزدحم في ذهن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو في طريق العودة من حجَّة الوداع. 

وعند منعطف من الطَّريق يُسمَّى (الجُحفة)، وفي منطقة تُسمَّى (غدير خمٍّ) هبط الأمينُ جبرائيلُ (عليه السَّلام) حاملًا هذا النَّص من الله سبحانه: 

  • ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِنْ لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ …﴾. (المائدة: الآية 67)  
  • روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن البراء بن عازب، قال:

“كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ) فِي سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا بِغَدِيرِ خُمٍّ، فَنُودِيَ فِينَا: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، وَكُسِحَ لِرَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ) تَحْتَ شَجَرَتَيْنِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، وَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)، فَقَالَ: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟».

قَالُوا: بَلَى. 

قَالَ: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ؟».

قَالُوا: بَلَى. 

قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ، فَقَالَ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ».”

(مسند الإمام أحمد بن حنبل 30/430، ح 18479) 

ولست هنا بصدد استقصاء المصادر فهي متظافرة، بل متواترة كما صرَّح بذلك الكثير من الأعلام. والسُّؤال الكبير الذي يُطرح: ماذا يعني حديث الغدير؟ 

وماذا يعني حدث الغدير؟ 

ربما يُقال:

إنَّ المسألة هنا فيما هو هذا الحديث، وفيما هو هذا الحدث ليست أكثر من إشارة إلى منقبة من مناقب علي بن أبى طالب (عليه السَّلام) ومناقبه متظافرة، ولا ينكرها أحدٌ من المسلمين.

إنَّنا نحترم أيَّ رأيٍ يُطرح، ولكنَّنا ندعو إلى محاسبة الآراء:

– ما دامت المحاسبة علميَّة. 

– وما دامت المحاسبة نظيفة. 

– وما دامت الأدوات المعتمدة مشروعة.

المشكلة التي تواجهنا: 

– حينما نختلفُ دينيًّا 

– وحينما نختلف مذهبيًّا 

– وحينما نختلف ثقافيًّا 

– وحينما نختلف اجتماعيًّا 

– وحينما نختلف سياسيًّا 

أنَّنا نتحوَّل إلى أعداء محاربين ومتقاتلين، ويتعبَّأ كلُّ فريق ضدَّ الآخر.

الحوار العلمي مطلوب:

– مادام الهدف نظيفًا.

– وما دام الأسلوب نظيفًا.

– وما دامت اللُّغة نظيفة.

لا ضَير في الاختلافِ ما لم يتحوَّل إلى خِلاف.

ولا ضَير في التَّعدُّدِ ما لم يتحوَّل إلى كاب تصدُّع.

ولا ضَير في الحوارِ ما لم يتحوَّل إلى شَرار.

ولا ضَير في الكلام ما لم يتحوَّل إلى صِدام.

أنت تؤمن بالسَّقيفة لك خيارك. 

وغيرك يؤمن بالغدير له خياره.

فما أحوجنا في هذا العصر الذي ازدحمت فيه (المُؤزِّمات والمُوتِّرات) إلى النَّهج الحواري الرَّاقي فيما هي قضايانا المذهبيَّة.

وفيما هي قضايانا الثَّقافيَّة والاجتماعيَّة.

وفيما هي قضايانا السِّياسيَّة.

إذا غابَ الحِوارُ النَّظيفُ: 

– تراكمتْ الخِلافاتُ المؤزِّمة. 

– وتأسَّست الصِّراعاتُ المُشَّتِتِة.

– وتمَزَّقتْ العلاقات.

– وتباعدتْ القناعات.

– وارتبكتْ الخيارات.

– وخارتْ الإرادات.

فالمحبَّة المحبَّة، والتَّسامح التَّسامح، والرِّفق الرِّفق، هكذا نصنع الوحدة والتآلف والتَّقارب، وهكذا نحاصر كلَّ المؤزِّمات في أوطاننا. 

 

♦ كلمة أخيرة (هل يملك المسلمون حضورًا حقيقيًّا في هذا العصر؟)

هل يملك المسلمون حضورًا حقيقيًّا في هذا العصر، أم أنَّهم أصبحوا بلا حضور، وأصبحوا الموقعَ المُستَهدفَ من قبلِ كلِّ القُوى الظَّالمة، والقُوى الفاسدة؟! 

أليسَ من الذُّلِ والعَارِ أنَّ شخصًا في غايةِ الدَّناءةِ والسَّفاهةِ والحقارةِ يتحدَّى هذه الأمَّة، أمَّة الملياري مسلم بعمل يحمل كلَّ الحماقةِ والوقاحة وبدعمٍ من دولةٍ تضع نفسَها في قائمةِ الدُّولِ العصريَّة، والدُّولِ المتحضِّرة؟!

 

◊ ما المطلوبُ من المسلمين؟ 

مطلوبٌ من علماء وخطباء الأمَّة أنْ يقولوا الكلمة الجريئة التي يفرضها موقف الدِّين تجاه العابثين والمارقين والمنتهكين لحرمة المقدَّسات، وتجاه كلِّ الدَّاعمين والمؤيِّدين لهم مهما كانت مواقعهم، ومهما كان شأنهم. 

ومطلوبٌ من كلِّ المفكِّرين والمثقَّفين وحملة الرَّأي أنْ يكونوا حرَّاسًا أمناء لمقدَّسات الأمَّة.

ومطلوبٌ من كلِّ المؤسَّسات الثَّقافيَّة والاجتماعيَّة أنْ يكون لها موقفها الغيور على الدِّين وعلى كلِّ قِيَمِهِ ومقدَّساتِه.

ومطلوبٌ من جماهيرِ أمَّتنا أن يكون لها غضبتُها لانتهاكِ مُقدَّسَاتِها.

مطلوبٌ من هذه الجماهير أن تعلن صرخَتها بكلِّ قوّةٍ، وبكلِّ وسيلةٍ مشروعة في مواجهة هذا العمل السَّافل. 

فجماهيرُنا تُقدِّسُ القُرآن 

وجماهيرُنا تَعْشقُ القُرآن

وجماهيرُنا تُدافعُ عن القُرآنِ 

وجماهيرُنا تضحِّى من أجل القُرآنِ 

 

ويبقى السُؤَال الأَصْعب:

ما المطلوبُ من حُكومَاتِ المُسْلِمين؟ وأنظمةِ المُسْلِمين؟

لا شكَّ أنَّ الاستنكاراتِ الرَّسميَّة مطلوبة جدًّا. 

ولكنَّ هذه الاستنكارات يجب أن تترجِمها مواقفُ عمليَّةٌ جادَّةٌ وقويَّةٌ وفاعلة وشجاعة 

وإلَّا كانت مجرَّد كلماتٍ، ومجرَّد بيانات. 

مطلوبٌ من الأنظمةِ في أوطانِ المسلمين أن يملكوا غيرةً حقيقيَّةً على كتابِ الله، وعلى مُقدَّساتِ الإسلام، وعلى كرامةِ هذه الأمَّةِ. 

هناك ضرورة إلى مُؤتمراتٍ ومُلتقياتٍ تؤسِّسُ لحضورٍ فاعلٍ، ومواقِفَ واثقةٍ تُعطي لهذه الأمَّةِ عنوانًا كبيرًا يتحدَّى كلَّ أشکالِ الذُّلِ والهَوانِ والضَّعفِ والهَزيمةِ.

حينما تتحرَّكُ كلُّ الخياراتُ وحينما تضغطُ كلُّ الإرادات، وحينما تتشكَّل كلُّ التحدِّيات.

إذًا مطلوبٌ من الأنظمة ما هو أكبر من (البيانات)، وما هو أكبر من (الإدانات). 

لا نريد أنْ نُنظِّر لهذه الأنظمة فهم الأعرف بوسائل التَّعبير في مواجهة هذا اللَّون من الاعتداءِ على مقدَّساتِ الإسلام والمسلمين. 

ربَّما أنَّ هذا الإنسان الوقح الَّذي أساء إلى كتاب الله لا يُمثِّل قيمة، ولا يحملُ عنوانًا، ولا يُشكل خطرًا، إلَّا أنَّ هذا العملَ اللَّئيم يُشكِّل اعتداءً سافرًا، ولُؤمًا، وخبثًا، ودناءةً، وحقارةً، وهبوطًا، لا يجوز الصَّمت أمامَه، والسُّكوتُ تجاهَهُ، خاصَّة ممَّا يكون مدعومًا من مواقع رسميَّة، ودولٍ تتبجَّح باحترام حقوق الإنسان، وحقوق الأديان.

إنَّ هذا اللَّونَ من الاعتداءاتِ الحمقاء تمتحن مواقفَ أمَّتِنا، ومَواقفَ شعوبِنا، ومواقف أنظمتِنا:

– فإمَّا الضَّعفُ والهوانُ والانهزام.

– وإمَّا القُوَّةُ والعِزَّةُ والانتصار. 

  • ﴿كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ. (المجادلة: الآية 21)
  • ﴿… أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾. (النِّساء: الآية 139)

فمطلوبٌ من أمِّتنا أنْ تعبِّر بكلِّ ثقةٍ عن هذه العزَّة والكرامة، خاصَّة في مواجهةِ الصَّلفِ الصُّهيوني المتكرِّر، فها هي (مذبحة مخيَّم جَنين) واحدة من أشرسِ عمليَّاتِ هذا الصَّلفِ الوقح، وإنَّنا نحيي مواقَفَ الصُّمودِ في فلسطين، هذا الصُّمود الَّذي يستصرخ ضمائر المسلمين أنظمة وشعوبًا. 

فإذا كان حرق المصحف الشَّريف قد فجَّر غضبَ المسلمين وهذا مطلوبٌ جدًّا، فالقرآن يستصرخ لدى المسلمين عزمة الإرادة والكرامة في مواجهة عبث الصَّهاينة ووقاحتهم، خاصَّة والمسلمون قد أنهوا أعظم ملتقى عند بيت الله، هذا الملتقى الَّذي يصنعُ عَزْمةَ الشُّموخِ والكَرامةِ، وعَزمةَ الإباءِ والتَّصدِّي في مواجهةِ كلِّ الباطلِ، وفي مواجهة كلِّ الضَّلالِ ومهما تعملقت مواقف الشَّرِّ، فكما يقول المرجعُ الراحل السَّيد محمَّد حسين فضل الله والذي نعيش ذكرى رحيله في هذه الأيام: أنَّ هذه المواقف الشِّريرة قد تؤدِّي دورها وقد تصنع المأساة في تاريخ الإنسان ولكنَّها لا تلبث أن تنطفئ وتتحوَّل إلى ﴿… كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ …﴾. (إبراهيم: الآية 18)، وتبقى المواقف الطيِّبة خالدة خلودَ الحقيقة في الحياة. 

فما أحوجَ واقعنا بكلِّ تحدِّياتِهِ الصَّعبةِ إلى فكرِ هذا المرجعِ العظيم؛ والذي ترك للأجيالِ رصيدًا كبيرًا من الوعي، والقِيَمِ، والصَّلاحِ، والعطاءِ، والجهاد.

وهذه المناسبة الكبيرة محطَّة بناءٍ وإعدادٍ وتوجيهٍ في مرحلةٍ تمركزتْ كلُّ قوى الفسادِ والضَّلالِ والعبثِ لتسرقَ كلَّ واقِعنا وكلَّ مسيرتِنا، وكلَّ خياراتِنا. 

هكذا علَّمتنا مدرسة العلَّامة فضل الله أن نكون الحاضرين في كلِّ قضايا الأمَّةِ، وفي كلِّ هُمومِها وفي كلِّ تَحدِّياتِها، وفي كلِّ آلامِها وآمالِها.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى