حديث الجمعةشهر ربيع الأول

حديث الجمعة 417: الأئمة من أهل البيت ودورهم في تحصين الأمة – الإرهابُ الراهن ومسؤوليات المواجهة – كلمة أخيرة: المالُ الديني

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وعلى آلِهِ الهداةِ الميامين، وبعد فهذه بعض العناوين:




 


الأئمَّة من أهل البيت ودورهم في تحصين الأمَّة:
مارسَ الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام) دورهم الكبير في تحصين الأمَّة عقيديًا وثقافيًا وروحيًا وأخلاقيًا وسلوكيًا…
في هذا السِّياق كان موقفهم صلبًا وجريئًا وصريحًا في مواجهة (تيار التكفير) الذي قاده منشقون، و(تيار النصب) الذي حرَّكته أغراض سياسية، و(تيار الغلو) الذي تبنَّاه جماعة متطرِّفون.
في البداية يجب أنْ نؤكِّد أنَّ هذه التيارات التي تشكِّل انحرافًا صريحًا عن مسار الرسالةِ لا تعبِّر عن هوية الأمَّة، فالأمَّة بكل مذاهبها وطوائفها لا تنتهج (التكفير) ولا تتبنَّى (العداء لأهل البيت) ولا تمارس (غُلوًّا في الولاء والدِّين).
فالمسلمُ الحقُّ ليس تكفيريًا.
والمسلمُ الحقُّ يحملُ ولاءً لأهل البيت.
والمسلمُ الحقُّ معتدل غير متطرف ولا غالٍ.
والمسلمون بكلِّ تعدّداتهم المذهبية – إلَّا مَنْ شذَّ – يؤمنون كلَّ الإيمان بهذه المرتكزات، فلا يجوز اطلاق الاتهامات التي تفرِّق المسلمين، وتؤسِّس للصراعات والخلافات والمعتركات الطائفية والمذهبية.
مَنْ يمارس ذلك فهو يشكِّل (استثناءً) مرفوضًا، ويجب أنْ يُعرَّى ويُكشف وأنْ تحاصرَ أدوارَه الخطيرة والمدمِّرة لهوية هذه الأمَّة…


هذا ما كان يمارسه أئمَّة أهل البيت (عليهم السَّلام) في مواجهة (تيارات التكفير والنُصب والغُلو).
تيار التكفير قاده جماعة انشقوا عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السَّلام) بعد (قضية التحكيم) المعروفة في التاريخ، حيث اجتمع الحكمان أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص، والأول يحمل منتهى الغباء السِّياسي، كما لا يملِك انتماءً صادقًا لقيادة الإمام عليٍّ (عليه السَّلام)، وأمَّا الثاني فيحمل منتهى المكر السِّياسي ومنتهى العداء لخط الأئمَّة من أهل البيت…
تمَّ الاجتماع بين الحكمين لتحديد الموقف في الشأن السِّياسي، وكان اجتماعًا قصيرًا جدًّا، استطاع عمرو بن العاص من خلال مكره السِّياسي ومن خلال سذاجة وغباء الأشعري، استطاع أنْ يكسب الموقف لصالح معاوية بن أبي سفيان…
اتفق الطرفان في هذا الاجتماع المُغلق على خلع الإمام علي ومعاوية عن الخلافة، وترك الأمر للمسلمين…
وحدّد الوقت لإعلان النتيجة واجتمع المسلمون…
وطلب عمرو بن العاص من أبي موسى الأشعري أنْ يتقدَّم لإعلان ما تمَّ الاتفاق عليه…
وهنا انتبه ابنُ عباس إلى اللعبة الماكرة فخاطب أبا موسى الأشعري محذِّرًا له من الوقوع في هذه اللعبة وخاطبه:
“ويحك، واللهِ إنِّي لأظنُّه قد خَدَعكَ إنْ اتفقتما على أمر، فقدِّمه، فليتكلَّم بذلك الأمر قبلك، ثمَّ تكلَّم أنت بعده، فإنَّ عَمْرًا رجلٌ غادر، لا آمن أنْ يكون قد أعطاك الرِّضا فيما بينك وبينه، فإذا قمتَ في النَّاس خالفك”.


هذا الموقف من ابن عباس يحمل وعيًا سياسيًا متقدِّمًا، فهو حبرُ الأمَّة، وهو الخبير بكلِّ أوضاع المرحلة، وهو البصير بمعرفة عقولِ الرجال، وهو الحادق في قراءة كلِّ الأوضاعِ والمساراتِ والمتغيِّرات، وهو الذي لا ينخدع بكلِّ لعب السِّياسة مهما تلوَّنت وتمظهرت. وكان هو مرشح عليّ للحوار إلَّا أنَّ الأمور جرت على خلاف رغبة الإمام.
هكذا تصدَّى ابن عباس للعبة السِّياسية الماكرة التي خطط لها عمرو بن العاص ووقع في حبائلها أبو موسى الأشعري إلَّا أنَّ محاولة ابن عباس لم تحظ بالقبول من أبي موسى الأشعري…
قدَّم عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري باعتباره الأكبر سنًا، وصاحب المكانة والقداسة والزهد والفضل والشرف… انخدع هذا الرجلُ بهذه العناوين والألقاب والإطراءات الكاذبة، فسارع إلى المنبر ليلقي هذا البيان السِّياسي الخطير، والذي جاء فيه أنَّه (يخلع عليًا) كما يخلع خاتمه من يده – وخلع الخاتم).
وجاء دور عمرو بن العاص فصعد المنبر وأعلن أنَّه يؤكِّد خلع عليٍّ، إلَّا أنَّه يثبِّت معاوية لولاية الأمر- وثبَّت خاتمه في يده…
كانت الصدمة قاسية لأبي موسى ولكلِّ الجمع الحاضر، وعاد أهلُ الشام مزهوين بالنصر وراحوا يبايعون معاوية بأمرة المؤمنين، وعاد أهلُ العراق مختلفين، متلاومين، غارقين في الفتنة… وهرب أبو موسى إلى مكة…
وعاد ابن عباس إلى أمير المؤمنين ليخبره بما حدث فخطب (عليه السَّلام) في الناس يحثُّهم على إصلاح الخطأ الذي تورَّطوا فيه، حيث خالفوا أمره فقال (عليه السَّلام): «إنَّ مخالفةَ الناصح الشفيق المجرِّب تورث الحسرة، وتعقب الندامة، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة [التحكيم] أمري، ونخلت لكم مخزون رأيي لو كان يطاع لقصير أمر، فأبيتم عليَّ إباء المخالفين الجفاة المنابذين العصاة…».
ثم أعطى رأيه في الحكمين وما صدر عنهما فقال:


«إلَّا أنَّ هذين الرجلين – أبا موسى الأشعري وابن العاص – اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا ما أمات القرآن واتَّبع كلُّ واحدٍ منهما هواه بغير هدى من الله، فحكما بغير حجَّة بيِّنةٍ، ولا سُنَّةٍ ماضية، واختلفا في حكمهما وكلاهما لم يرشد، فبريئ الله منهما ورسولُهُ وصالحُ المؤمنين».
أمَّا كيف تشكَّل (تيار التكفير) الذي قاده المنشقون عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام)؟، وماذا كان موقف عليّ (عليه السَّلام) من هؤلاء التكفيريين المنشقين؟ وكيف حاول أن يعالج الموقف بالحكمة والنصيحة إلَّا أنَّ ذلك لم يجد معهم، فاضطر الإمام إلى مواجهتهم بالقوة العسكرية…
هذا ما يأتي توضيحه في حديث قادم إنْ شاء تعالى.



الإرهابُ الراهن ومسؤوليات المواجهة:
يُشكِّل الإرهابُ (الهاجسَ) الأكثر رُعبًا في العصر الراهن، وعلى مستوى كلِّ العالم، وهو ليس (هاجسَ شعوبٍ) فقط، بل هو قبل ذلك (هاجس أنظمة).
والمأزق الكبير الذي يواجهه العالم وهو يعيش (رُعبَ الإرهاب) أنّ هُناك تناقضًا كبيرًا تحمله المواقف المتصدِّية للإرهاب…
ولا أعني بالتناقض هنا (تباين المواقف) ضدَّ الإرهاب، فالعالم أنظمةً وشعوبًا مجمع على رفض الإرهاب وعلى حرب الإرهاب.
ما أعنيه بالتناقض والذي يشكِّل مأزقًا في الحرب ضدَّ الإرهاب هو أن يجتمع الدعم والحرب في آن واحد…


فها هي أنظمة في العالم تعلنُ حَربها ضدَّ الإرهاب، وتوظِّف كلَّ قدراتها العسكرية والأمنية والاقتصادية والإعلامية في مواجهة الإرهاب، بل وتُشكِّل تحالفاتٍ عظمى في التصدِّي للإرهاب…
في الوقت ذاته هذه الأنظمة نفسُها بقصدٍ أو غيرِ قصدٍ تغذِّي إنتاج الإرهاب، ومن خلال توفير البيئاتِ والمناخات الملائمة لتفريخ مُتطرفين يتحولون فيما بعد إلى إرهابيين…
وأعني بالبيئات والمناخات التي تفرِّح التكفيريين والمتطرفين:
– مناهج تعليم تغذِّي الصراعات المذهبية والطائفية…
– برامجُ إعلامٍ تحرِّض على الكراهية والإلغاء…
– مؤسَّسات حكم تمارس تمييزًا ينشِّط الخلافات والأحقاد…
– سياسات فاسدة توفِّر المبرِّرات لولادة المتشدِّدين والمتطرِّفين…


هنا يتشكَّل التناقض:
الأنظمة السِّياسية تخوض حروبًا صعبة مع الإرهاب والإرهابيين معتمدة كلَّ أدوات الحرب الممكنة، والكثير من هذه الأنظمة جادَّة في حربها ضدَّ الإرهاب، كونهُ يُشكِّل تهديدًا حقيقيًا لتلك الأنظمة، ولوجودها ممَّا يفرض أنْ تكونَ صادقةً في مواجهتها للإرهاب وفي حربها ضدَّ الإرهابيين.
ولكن لكي تحقِّق هذه الأنظمة نجاحاتٍ حقيقيةً في معاركها ضدَّ الإرهاب يجب أنْ تراقب (مناهجها) و(إعلامَها) و(سياساتِها) لكي لا توفِّر (حواضن) تفرِّخ إرهابًا وإرهابيين، وتطرفًا ومتطرفين…
هذا دور أنظمة الحكم…


وإلى جانبه يأتي (دور علماء الدِّين) من أتباع كلِّ المذاهب الإسلامية، فلا يوجد مذهب من مذاهب المسلمين (يُبيح) الإرهاب، و(يُشرعن) للإرهابيين…
فمنابرُ الدِّين يجب أنْ تمارسَ دورًا فاعلًا في التصدِّي للإرهاب، فالخطاب الدِّيني مطلوب أنْ يكون له حضورٌ جادّ في هذا المعترك، وهو دور يعتمد (الكلمة)، وكم هو خطير وخطير (دور الكلمة) وهي تحملُ (رسالة الدِّين).
• يقول تعالى في سورة فاطر [الآية 10]: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾.
حينما تكون الكلمةُ طيبةً، نظيفةً، صادقةً، هادفةً، تَنشرُ الهدى والصَّلاح، وتزرعُ المحبَّة في القلوب، وتغرس الطهر في الأرواح، وترفض الظلم والباطل والفساد وتواجه المنكر والشرَّ والضَّلال… هذه الكلمة تصعد إلى الله سبحانه، والصعود كناية عن الرضا والقبول.


• وجاء عن نبيِّنا الأكرم (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) أنَّه قال: «إنَّ الرجل ليتكلم بالكلمةَ من رضوان الله ما كان يظن أنْ تبلغ ما بلغت، يكتب الله تعالى له بها رضوانَه إلى يوم يلقاه، وإنَّ الرجلَ ليتكلم بالكلمة من سخطِ الله ما كان يظن أنْ تبلغ ما بلغتْ يكتبُ الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه».
والخطرُ كلُّ الخطر حينما تتعطَّل منابرُ الدِّين عن أداءِ مسؤولية الكلمةِ، أو حينما ينّحرف هذا الأداء. 


• قال الله تعالى في سورة البقرة [الآية 159]:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾.


إذا كانت الآية نازلةً في أهل الكتاب أو اليهود منهم خاصة، فإنَّها لا تتجمَّد في مورد النُزول، بل تتحرك لتلاحق كلَّ الذين يتحملونَ مسؤولية الكلمةِ في إيصال الحقائق الإيمانية والشرعية والحياتية، هؤلاء حينما يكتمون هذه الحقائق التي أراد الله أن تصل إلى النَّاسِ يتعرضون إلى اللعنة الإلهية فيما تعنيه من الإبعاد عن رحمة الله، وكذلك يتعرضون إلى لعنةِ النَّاس بالدعاء أنْ يبعدهم الله عن رحمته.


• جاء في الحديث الشريف المأثور عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «إذا ظهرت البدع في أمَّتي فليُظهر العالم علمَهُ وإلَّا فعليه لعنة الله».


• وورد عنه (صلَّى الله عليه وآله) قوله: «كاتمُ العلم يلعنه كلُّ شيئ حتَّى الحوتِ في البحر، والطير في السَّماء».


• وعنه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «أيّما رجل آتاه الله علمًا فكتمه وهو يعلمُهُ لقي الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة مُلجمًا بلجامٍ مِن نار».


وأمَّا إذا انحرفت المنابر الدِّينية في أداء مسؤولية الكلمة فمسألة يأتي الحديث عنها إنْ شاء الله تعالى.


كلمة أخيرة:
المال الديني كالزكاة والخُمس والكفارات والصدقات ونحوها شأن شرعي تحكمه الضوابط والمعايير الفقهية فلا يصح إطلاقًا أن يكون خاضعًا للمؤسَّسات الوضعية وتحت أيّ ذريعة من الذرائع، بل يعتبر من التعدي الصريح على شرع الله أن تفرض الهيمنة الوضعية على المال الديني. 


وكم هو تناقض أن تُصِرّ الجهات الرسمية في بلدان المسلمين على فصل الدِّين عن السِّياسة إلَّا أنَّها في هذا الشَّأن (المالي الديني) تُحاول أن تُقحم السِّياسة في الدِّين، بل تعتبر السياسة قيِّمة على شؤون الدِّين.
فإذا كان هناك أيّ قلقٍ حول نمط توظيف هذا المال فإنَّنا نؤكِّد أنَّه لا يجوز إطلاقًا توظيف المال الديني فيما فيه إضرار بالأوطان أو مصالح العباد والشعوب وهذا أمر من أغلظ المحرمات في دين الله.


وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى