آخر الأخبارحديث الجمعةشهر شوال

حديث الجمعة 605: الإفساد في الأرض – كلمة أخيرة حول انتشار العُهرِ والفجور

حديث الجمعة 605 | الموافق 18.5.2023 | التاريخ 28 شوال 1444

الإفساد في الأرض

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيّدِ الأنبياء والمرسلين محمّدٍ وآلِهِ الهداةِ الميامين.
السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.

الإفساد في الأرض

قال الله تعالى في سورة الأعراف/ الآية 56:
{وَلَا تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا…}.

◊ متى وقع أوَّلُ إفسادٍ على وجه الأرض في تاريخ الإنسان؟
وما نوع هذا الإفساد؟

وقع هذا الإفسادُ حينما أقدم قابيلُ على قتل أخيه هابيل.

◊ لماذا حَدَث هذا القتل؟
ما دوافعه؟
وكيف تمَّ؟

وهنا أنبِّه إلى أنَّ قصص القرآن حقائق وليست أوهامًا وأساطير وخرافات كما يزعم بعضُ الضَّالين والمنحرفين والمبتدعين، خارجين عمَّا أجمع عليه المسلمون، ولست هنا في صدد مناقشة هذا الزَّيغ والضَّلال، ويكفي أنَّه يُصادم مُسَلَّماتِ المسلمين بكلِّ مذاهبِهم وانتماءاتِهِم.
أعود إلى قصَّة القتل التي حدثت في مرحلةٍ مبكِّرة من تاريخ الإنسان المنتمي إلى آدم وحوَّاء.

◊ لماذا أقدمَ قابيلُ على قتلِ أخيه هابيل؟

القرآن لم يُحدِّثنا عن الدَّوافعِ والأسباب لهذا القتل، أول جريمة قتل في تاريخ هذا الإنسان.
ما تتحدَّث عنه طائفة من الرِّوايات أنَّ الدافع لهذه الجريمة هو الحسد.
• في الكلمة عن الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) قال: «وبالحسدِ وقع ابن أدم [يعني قابيل] في حسرة الأبد، وهلك مهلكًا لا ينجو منه أبدًا». (1)

• وفي الكلمة عن الإمام الباقر (عليه السَّلام) قال: «لما قرَّبَ ابنا آدم القربان {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمٰا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ اَلْآخَرِ} – قال تُقُبِّلَ من هابيل ولم يُتَقَبَّلْ من قابيل- أدخله من ذلك حسد شديد وبغى على هابيل، فلم يزل يرصده ويتبع خلوته حتى ظفر به متنحِّيًا عن آدم، فوثب عليه فقتله، فكان من قصَّتهما ما قد أنبأ الله في كتابه ممَّا كان بينهما من المحاورة قبل أنْ يقتله، …». (2)

◊ كيف تحدَّث القرآن عن هذه القصَّة؟

• قال الله تعالى في سورة المائدة/ الآية 27:
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ}.
الخطاب هنا إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله).
والآية لم تذكر اسمي ابني آدم، إلَّا أنَّ الرِّوايات ذكرت أنَّ اسمهما قابيل وهابيل.

◊ كيف بدأت القصَّة؟

إنَّ قابيل وهابيل قدَّم كلٌّ منها قربانًا إلى الله؛ من أجل أنْ يحقِّق كلٌّ منهما ما يطلبه من حاجات:
• {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا}
كلٌّ منها قدَّم قربانًا.
ماذا كان قربان قابيل؟
وماذا كان قربان هابيل؟
القرآن لم يذكر لنا ذلك.

تقول الرِّوايات:
إنَّ قابيل كان صاحبَ زرعٍ فاختار أسوء زرعه.
وإنَّ هابيل كان صاحب ماشية فأخذ من خير غنمه.
• {فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ}.
تقبل قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل.
أتت النَّار فأكلت قربان هابيل، وهذه علامة قبول القربان.
وتجنَّبت قربان قابيل، وهذه علامة عدم القبول.
وهنا بدأ الحسد يتحرَّك في داخل قابيل فقرَّر قتل أخيه هابيل.
ودار بين الأخوين حوارٌ دوَّنه القرآن.
قال قابيل لأخيه هابيل: {لَأَقْتُلَنَّكَ}
هكذا بدأ قرار الجريمة جَريمة أوَّلِ قتل في تاريخ البشر، وهي التي أسَّست لجرائم القتل عبر تاريخ الإنسان، وهي التي أسَّست لمشاريع العنف والتَّطرُّف والإرهاب.

كيف واجه هابيل هذا القرار؟
هل واجهه بقرار تطرُّفٍ آخر؟
هل واجهه بقرار عنفٍ آخر؟
هل واجهه بقرار إرهابٍ آخر؟

کان جواب «هابیل» جوابًا مسالمًا، جوابًا متسامحًا، جوابًا معتدلًا، جوابًا ناصحًا.
قال هابيل بكلِّ محبَّةٍ مخاطبًا أخاه قابيل:
• {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (المائدة/28)
هكذا الخوفُ من الله يصنعُ المحبَّة، يصنع التَّسامح، يصنع الاعتدال، يصنع الأمن، يصنع السِّلم،
يصنع كلَّ الخير في الأرض.
فإذا وجدَنا صُنَّاعَ كراهية
وإذا وجدَنا صُنَّاعَ تطرُّفٍ
وإذا وجدنا صُنَّاعَ عصبيَّةٍ
وإذا وجدنا صُنَّاعَ رُعبٍ
وإذا وجدنا صُنَّاع تأزُّمٍ
وإذا وجدنا صُنًّاعَ شرٍ
فهؤلاءَ قطعًا لا يؤمنون باللَّه حقًّا
فهؤلاء لا يحملون الدِّينَ حقًّا
فهؤلاء كذَّابون أفَّاكون عابثون بالدِّين وبمفاهيم الدِّين، وبقِيَم الدِّين.
وهذا لا يعني أنَّ حملة الدِّين الحقّ مطالبون أن يجاملوا أهلَ الضَّلال، وأهلَ الباطلِ،
وأهلَ العبث، وأهلَ البدع.

• عن رسولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله): «إذا ظَهَرتِ البِدعُ في أمَّتي فلْيُظهِرِ العالِمُ علمَهُ، وإلَّا فعليه لعنةُ اللهِ والملائكةِ والنَّاسِ أجمعين». (3)
كيف يُظهر العالم علمه؟
كيف يواجه البدع والمبدعين؟
كيف يواجه الضَّلال والضَّالين؟
كلُّ ذلك وفق ضوابط الشَّرع، وربَّما يكون لنا حديث آخر في معالجة هذا الموضوع.
نعود إلى جواب هابيل، وإلى قوله: {إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}.
فالخوف من الله يصنع كلَّ المسارات الخيِّرة في الحياة.
الخوف من الله يحمي الحياة من كلِّ الانزلاقات.
ونجد في النَّص القرآني الذي بين أيدينا أنَّ هابيل مارس أسلوب الموعظة مع قابيل، حيث
قال له:
• {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة/27)
فالمسألة ليست مسألة أشخاص، ومسألة عناوين ومسألة انتماءات وولاءات.
إنَّها مسألة التَّقوى، تقوى العقل، تقوى القلب، تقوى القِيَم، تقوى الممارسات، تقوى المواقف.

ويستمر الحوار بين هابيل وقابيل:
قال هابيل مخاطبًا أخاه قابيل والذي اتَّخذ قراره الخطير بقتل أخيه هابيل:
{إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ} (المائدة/29)
هكذا حاول هابيل أنْ يخاطب ضمير قابيل إنْ كان فيه بقيَّة من إيمان، بقيَّة من خوف الله
بقيَّة من رحمة، بقيَّة من أخوة.
إلَّا أنَّ هذا القلب قلب قابيل قد نضبت فيه كلُّ هذه المعاني.
وامتلأ بكلِّ نوازع الشَّرِّ هكذا الإنسان حينما يصبح طاقة دمار.
فأقدم على جريمته النَّكراء أوَّل جريمة قتل في تاريخ الإنسان.
• {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (المائدة/30)

◊ أمَّا كيف قتل أخيه؟

ذهبت بعض الأقوال إلى أنَّ قابيل لمَّا عزم على قتل أخيه لم يدرِ كيف يقتلُهُ حتى ظهر له إبليس في صورة طير، فأخذ طيرًا آخر وترك رأسه بين حجرين فشدخه ففعل قابيلُ مثله.

◊ وماذا بعد أنْ وقعت جريمة القتل؟

لما قتل قابيل هابيل تركه بالعراء لا يدري ما يصنعُ به كما تقول الرِّواية عن الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) فقصدته السِّباع، فحمله في جراب على ظهره حتى أروح [أنتن]، وعكفت عليه الطَّير والسِّباع،
فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثمَّ صفَّر له بمنقاره وبرجله ثمَّ ألقاه في الحفيرة وواراه وقابيل ينظر إليه فدفن أخاه.
تقول الآية: {فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} (المائدة/31)
يبدو أنَّ هابيل كان أوَّل ميِّت من النَّاس فما كانت في ذلك المجتمع أيَّةُ تجربةٍ مماثله سابقه، لذلك لم يعرف قابيل كيف يتعامل مع هذا الحدث، فبعث الله غرابًا قام بدفن غراب ميت، فتعلم منه قابيل كيف يواري سوءة أخيه.

◊ ما نستنجه من هذه القصَّة القرآنيَّة:

أوَّلًا: ضرورة العمل على دعم ثقافة السِّلم، ومواجهة ثقافة العنف والتَّطرُّف والإرهاب بكلِّ أشكالها وألوانِها، فلا يدمِّر الأوطان ثقافة كما تدمِّرها هذه الثَّقافة.

ثانيًا: القرآن حينما اعتمد أسلوب القصَّة ليس من أجل التَّرف الفكري والتَّرفيه النَّفسي؛ وإنَّما من أجل خلق الوعي، وبناء القِيَم، وتصحيح كلِّ ألوان السُّلوك، وحماية الحياة من كلِّ الانزلاقات.

ثالثًا: قصص القرآن قصص واقعيَّة وليست مجرَّد خيالات أدبيَّة تهدف للوعظ والإرشاد.

رابعًا: ربما يفهم البعض من خلال سياقات هذه القصَّة القرآنيَّة أنَّ هابيل كان يحمل روحًا استسلاميَّة انهزاميَّة.
الأمر ليس كذلك وإنَّما يريد أنْ يؤسِّس للنَّهج السِّلمي الرَّافض لكلِّ أشكال العنف والتَّطرُّف.
وللعلم أنَّ قابيل مارس أسلوبَ الاغتيال وليس المواجهة المباشرة.
وما صدر من هابيل كان محاولة لاقتلاع نوازع الشَّر في داخل أخيه قابيل.

 

♦ كلمة أخيرة

إنِّي بكلِّ صدقٍ وإيمانٍ وغَيرةٍ على سُمعةِ هذا الوطنِ، أثمِّن كلَّ كلمةٍ جريئةٍ شجاعةٍ مخلصةٍ رافضةٍ لكلِّ أشكالِ الدَّعارةِ والعُهرِ والفجور، والتي باتتْ فاضحةً في مناطق معروفةٍ، أصبحتْ مَقْصَدًا للعابثين، والسَّافلين، وصُنَّاعِ الرَّذيلةِ، والمتاجرين بكلِّ أشكالِ الهَوى الفاجر.

فإلى متى تُعطى كلُّ الحُرِّيَةِ لهؤلاء وهُمْ يُلوِّثُونَ سُمعةَ هذا الوطنِ المعروفِ بتاريخهِ الإيماني النَّظيفِ، وبشرفِ أبنائِه، ونزاهةِ شعبه.

فلماذا يُسمح لمجموعةٍ من العابثينَ والعابثاتِ أنْ يتلاعبوا بشرف هذا الوطنِ، هذا الشَّرف الذي تجذَّر عبر تاريخ قديم صنعته أحكام شرعٍ، وقيم دينٍ، ومُثُل شعب.

فمن أجلِ رغباتٍ فاسقةٍ هل يُضحَّى بسمعةِ وطنٍ، وشرفِ وطنٍ، وسمعةِ شعبٍ، وشرفِ شعبٍ، هذا الشَّعبُ المعروف بغيرتِه الكبيرةِ على دينهِ وقِيَمه ومُثُلِهِ، وعلى شرفِهِ وعرضِهِ؟!

فمن الجناية الكبرى أن تَصْمت الكلماتُ الغيورة على الدِّينِ والقِيَم والمُثُلِ والطُهرِ والشَّرفِ، والغيورةِ على الوطنِ والشَّعب.
وهنا تبقى لعنةُ التَّاريخ.
وتبقى لعنةُ الأجيال.
واللَّعنةُ العظمى هي لعنةُ اللهِ العظيم.
فأين هي مؤسَّسات الدَّولةِ المعنيَّة بحراسةِ مكوِّناتِ هذا الوطنِ، ولا أعظم ولا أكبر من الدِّين والمُثُل والقِيَم، ولا أعظم من السُّمعة والشَّرف، ولا أعظم من الغيرة الإيمانيَّة.
• قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «إنَّ الغيرة من الإيمان». (4)
• وقال (صلّى الله عليه وآله): «كان أبي إبراهيم (عليه السَّلام) غيورًا وأنا أغيَر منه، وأرغم الله أنف من لا يغار من المؤمنين». (5)
• وقال الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): «إنَّ الله تبارك وتعالى غيور يحبُّ كلَّ غيور، ولغيرته حرَّم الفواحش ظاهرها وباطنها». (6)
هنا يأتي دور الخطاب في صناعة (الغيرة) الخِطابُ الدِّيني، الخِطاب الثَّقافي، الخِطاب الإعلامي، الخِطاب السِّياسي.
إنَّنا لا نريدُ خِطابًا يقتل الغيرةَ، الغيرةَ على الدِّين، الغِيرةَ على القِيَم، الغيرةَ على الوطن.
حيما تموت الغيرةُ أصبح الدِّين مُهدَّدًا، وأصبحتْ القِيم مُهدَّدةً، وأصبحَ الوطنُ مُهَدَّدًا.
فقتلةُ الغَيرةِ هُمْ أعداءٌ للدِّينِ، للقِيَمِ، للوطنِ.
نعم نريد خطابًا يصنعُ الغَيرة على الدِّين والقِيَم والوطن.
هنا الفارقُ بين خطابين، وبين ثقافتين، وبين منهجين.
خِطابٌ يُؤصِّل الغَيرةَ الخيِّرة، وخطابٌ يَقتُل الغَيرة الخيِّرة.
خِطابٌ يُؤصِّل القِيَم الخيِّرة، وخطابٌ يُؤصِّل القِيَم الفاسدة.
ثقافة تبني وثقافة تهدم.
منهجٌ يُحصِّن ومنهجٌ يُدمِّر.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

————————————–

الهوامش:

1- المجلسي: بحار الأنوار 70/255، ح 23.

2- العياشي: تفسير العياشي 1/306، 77.

3- المجلسي: بحار الأنوار 54/234.

4- الصَّدوق: من لا يحضره الفقيه 3/444، باب الغيرة، ح 4541.

5- الصَّدوق: من لا يحضره الفقيه 3/444، باب الغيرة، ح 4540.

6- الكليني: الكافي 5/535، ب: الغيرة، ح1.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى