آخر الأخبارحديث الجمعةشهر ذي القعدة

حديث الجمعة 606: في رحاب الآية 11 من سورة الأعراف (سجود الملائكة لآدم وتمرُّد إبليس) – الإفراج عن العلَّامة الكبير الشَّيخ محمَّد صنقور حفظه الله ورعاه

حديث الجمعة 606 | الموافق 25.5.2023

في رحاب الآية 11 من سورة الأعراف
(سجود الملائكة لآدم وتمرُّد إبليس)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وآلِهِ الهُداةِ الميامين.
السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.

• قالَ اللهُ تعالى في سورة الأعراف/ الآية 11:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ}.
هنا سُؤالانِ كبيرانِ يُطرحان:
السُّؤالُ الأوَّل: لماذا أُمِرَ الملائكةُ بالسُّجودِ لآدمَ، والسُّجودُ لا يكونُ إلَّا للهِ وحدَهُ؟
السُّؤالُ الثَّاني: لماذا شَمَلَ الأمرُ بالسُّجودِ إِبْليسَ وهُوَ ليسَ مِن الملائكةِ؟

الإجابة عن السُّؤالِ الأَوَّل:
لماذا أمرَ الملائكة بالسُّجودِ لآدمَ والسُّجُود لا يكونُ إلَّا للهِ وحده؟
هناك نمطان مِن السُّجود:
(1) السُّجودُ العبادي: وهذا السُّجود لا يكون إلَّا للهِ وحدَهُ؛ لأنَّ اللهَ سُبحانه لا يَرضى لخلقِهِ
أنْ يَعبُدوا غيرَه.
(2) سُجودُ التَّحيَّة والتَّكريم: فسجود الملائكة هو سجودُ عبادةٍ للهِ، وتحيَّةٍ وتكريمٍ لآدم.
• في الحديث عن الإمام الرِّضا (عليه السَّلام):
«…، وكان سجودُهم [يعني الملائكة] لله عزَّ وجلَّ عبوديَّةً، ولآدمَ إكرامًا وطاعة».
وهذا شبيه ما نقرأه في سورة يوسف الآية 4، والآية 100:
• {إِذْ قَالَ يُوْسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}.
• {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا …}.
• قالَ ابن عباس: إِنَّ يوسف (عليه السَّلام) رأى في المنام ليلة الجمعة ليلة القدر أحَدَ عَشر كوكبًا نزلن مِن السَّماءِ فسجدن له، ورأى الشَّمس والقمر نزلا مِن السَّماءِ فسجدا له.
قال: فالشَّمس والقمر أبواه.
والكواكب إخوتُه الأحد عشر.
أمَّا تفسير السُّجود فهو ليس سجودَ عبادة قطعًا، وإنَّما سجودُ شكرٍ وتكريم.
وهكذا سجود الملائكة لآدم (عليه السَّلام).

الإجابة عن السُّؤَالِ الثَّاني:
لماذا شَمَلَ الأمرُ بالسُّجودِ إبليسَ وهُوَ ليس مِن الملائكة؟
الآية تقول: {… ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ …}.
تقول كتب التَّفسير:
كان إبليس يعيش مع الملائكة حتَّى كاد أنْ يُحسب منهم، بينما هو مِن الجِنِّ وليس مِن الملائكة.
كما ينصُّ القرآن:
{… إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ …}. (الكهف/50)
ونظرًا لهذا التَّواجدِ الدَّائم مع الملائكة مِن قِبلِ إبليس شمله خطابُ السُّجود.
واستدل الرَّافضون لكون إبليس مِن الملائكة بعِدَّة أدلةٍ أوردها الطَّبرسي في تفسيره مجمع البيان:
(1) قوله تعالى: {… إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ …}. (الكهف/50)
(2) الملائكة {…لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التَّحريم/6)، وإبليس قد عصى الله.
(3) إبليس له نسلٌ وذريَّة {… أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء …} (الكهف/50)، والملائكة لا يتناسلون.
(4) الملائكةُ رُسُلُ الله {… جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا …} (فاطر/1)، ورسل الله لا يجوز عليهم الكفر والفسق.

لماذا تَمرَّدَ إبليسُ على أمرِ الله تعالى؟
وفي سؤالٍ موجَّهٍ من قِبَلِ الله سبحانه إلى إبليس:
• {… مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ …}. (الأعراف/12)
الله عالمٌ لا يخفى عليه شيئ، فحين يسأل إبليسَ لا يعني أنَّه لا يعلم بدوافع إبليس وإنَّما أراد سبحانه أنْ يستنطق إبليس، وليعلم كلّ الإنس والجنّ بالدَّوافع الخبيثة المختزنة في داخل إبليس.
بماذا أجاب إبليس؟
قال: {… أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}. (الأعراف/12)
هكذا استخدم إبليسُ قياسًا باطلًا.
وضع كبرى القياس من عنده.
وصورة القياس الذي جاء به إبليس هي كالتي:
(إبليس مخلوق مِن نار).
(آدم مخلوق مِن طِين).
(النَّارُ أفضل مِن الطِّين). [في منطق إبليس]
النَّتيجة وفق هذا القياس الإبليسيُّ:
«إبليسُ أفضل من آدم».
فكيف يسجد الفاضلُ للمفضول؟
هكذا أسَّسَ إبليس قياسه الباطل؛ ليبرِّر تمرَّدهُ على الأمر الإلهيِّ بالسُّجود لآدم.
وهكذا أسَّسَ لمنهج الضَّلالِ والتَّضليل عبر مسيرة الحياة، فكلُّ الضَّالين عبر هذه المسيرة هم صناعة هذا المنهج الإبليسيُّ والشَّيطانيُّ.

هل يَصحُّ اعتمادُ القياسِ مصدرًا للتَّشريع؟
وقف الأئمَّة مِن أهلِ البيت (عليهم السَّلام) موقفًا متشدِّدًا مِن القياس، ومِن اعتمادِهِ أداةً مِن أدواتِ استنباطِ الأحكامِ الشَّرعيَّة.
وللتَّدليل على هذا الموقفِ الرَّافضِ للقياسِ مِن قِبَلِ الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام) نقرأ هذا الحِوار الذي دَارَ بين الإمامِ الصَّادقِ (عليه السَّلام) وأبي حنيفة إمامِ المذهبِ الحنفي، وكان يَتبَّنى القياسَ مَصْدرًا من مصادر التَّشريع.
• «قالَ الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): أيُّهما أعظم عند الله القتل أو الزِّنا؟
قالَ الإمام أبو حنيفة: بل القتل.
قال الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): فكيف رضي [الله] في القتل بشاهدين ولم يرض في الزِّنا إلَّا بأربعة؟
قالَ الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): الصَّلاة أفضلُ أم الصِّيام؟
قالَ: بل الصَّلاة أفضل.
قالَ الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): فيجب على قياسك قولك على الحائض قضاء ما فاتها مِن الصَّلاة في حالِ حيضها دون الصِّيام، وقد أوجب الله تعالى عليها قضاءَ الصَّومِ دون الصَّلاة.
ثُمَّ قالَ له: البول أقذر أم المني؟
قالَ: البول أقذر
قالَ الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): يجب على قياسِكَ الغسلُ مِن البول دون المني، وقد أوجب الله تعالى الغُسْلَ من المني دون البول».  – انتهى الحوار –

ونستنتج مِن هذا الحوار نتيجتين مهمَّتين جدًّا:
النَّتيجة الأولى:
كان هناك تواصلٌ كبيرٌ بين من أهلِ البيت (عليهم السَّلام) وأئمَّة المذاهب الإسلاميَّة الأخرى، ولم تكن هناك أيَّة قطيعة أو أيَّة حساسيَّة مِن التَّواصل.
كان الإمام أبو حنيفة وهو قِمَّة من قِمم العلم والفقه.
وكان الإمام مالك بن أنس وهو قِمَّة من قِمم العلم والفقه.
وكان الإمام سفيان الثَّوري وهو أحد الأعلام الكبار.
كان هؤلاء مِن حُضَّار مجلس الإمام الصَّادق (عليه السَّلام).
وقد أكَّدت كلمات الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام) الموجهة إلى أتباعهم أن يتواصلوا مع كلِّ المسلمين، وحذَّروا مِن أيِّ شكلٍ مِن أشكالِ القطيعة، ومِن أشكالِ العداوة والصِّراع.
هكذا كان الأئمَّة من أهلِ البيت (عليهم السَّلام) دُعاة وحدةٍ وتقارب، ودُعاة محبَّة وتآلف، وليسوا دُعاة فرقةٍ وتباعد، ولا دُعاة كراهية وتخالف.
هكذا كان أئمَّة أهل البيت (عليه السَّلام)، وهكذا كان أئمَّة المذاهب.
فما أحوج المسلمين في كلِّ الأعصر والأزمنة إلى التَّواصل والتَّقارب والائتلاف.

النَّتيجة الثَّانية:
ما أجمل الحواراتِ العلميَّة التي كانت تنشط بين الأئمَّة مِن أهلِ البيت (عليه السَّلام)، وأئمَّة المذاهب الإسلاميَّة الأخرى.
– كانت حوارات تحمل كلَّ الشَّفافيَّة.
– وتحمل كلَّ الموضوعيَّة.
– وتحمل كلَّ المصداقيَّة.
– وتحمل كلَّ الصَّراحة.
– وتحمل كلَّ النَّظافة.
فما أحوج أُمَّتنا في هذا العصر، وما أحوج أوطاننا، وما أحوج شعوبنا، وما أحوج أنظمتنا، وما أحوج علماءَنا، وما أحوج مثقَّفينا، وما أحوج كلَّ القوى الفاعلة …
ما أحوج كلَّ المواقع إلى الحوار.
وأيِّ حوار؟
– الحوار الذي ينطلق من نوايا صادقة.
– الحوار الذي يحمل أهدافًا صادقة.
– الحوار الذي يعتمد أدوات صادقة.
وإلَّا كان حوارًا منافقًا.
وإلَّا كان حوارًا زائفًا.
وإلَّا كان حوارًا ضائعًا.
إذًا هناك حوارات غير مشروعة.
هناك حوارات مرفوضة.
هناك حوارات خاسرة.

وتبقى الحوارات الجادَّةُ الهادفة مطلوبة جدًّا:
– حوارات الدِّين
– حوارات الثَّقافة
– حوارات السِّياسة
– وأيَّة حوارات تخدم الأوطان والشُّعوب

بعد هذه الانعطافة مِن الحديث سوف نتابع في الجمعة القادمة – إنْ شاء الله تعالى – سياقات الآيات من سورة الأعراف، والتي تحدَّثت عن سجودِ الملائكةِ لآدم (عليه السَّلام)، وامتناعِ إبليسَ اللَّعينِ عن السُّجود، وكيف كان مصيرُهُ بعد هذا التَّمرُّدِ على الأمرِ الالهيّ، وكيف بدأتْ المعركةُ بين الإنسانِ والشَّيطانِ، والتي لا زالت مستمرَّةً حتَّى الآن، وهل لهذه المعركةِ مِن نهاية؟

كلمة أخيرة:
إنَّنا نُصِرُّ وبكلِّ صدقٍ وإيمانٍ، أنْ يبقى هذا الوطنُ آمنًا.
أنْ يبقى وطنَ دينٍ وقِيَم.
أنْ يبقى وطنَ محبَّةٍ وتسامح.
أنْ يبقى وطنَ وحدةٍ وتآلف.
أنْ يبقى وطنَ عِلْمٍ وفكر.
أنْ يبقى وطنَ خيرٍ وعطاء.
وانطلاقًا من هذه المبادئ الخيِّرة.
وبنيَّةٍ تحملُ كلَّ الإخلاص لهذا الوطن.
أبهجنا كثيرًا الإفراج عن العلَّامة الكبير الشَّيخ محمَّد صنقور حفظه الله ورعاه.


ونتمنَّى الإفراج عن جميع السجناء.
الشَّيخ أحدُ مفاخرِ العلمِ في هذا الوطن.
وأحدُ قِممِ الفقهِ والدِّين.
وأحدُ قِممِ المُثل والأخلاق.
وأحدُ قِممِ العطاءِ والخير.
هكذا عرفناه نموذجًا صالحًا مخلصًا لدينه ووطنه.
داعية وحدة وتقارب، وداعية حبٍّ وتآلف.
وتبقى قُلوبُنا، وتبقى عُيونُنا على هذا الوطنِ؛ على دينِهِ، على قِيمِهِ، على أمنِهِ، على وحدتِهِ، على كلِّ كفاءاتِهِ وقُدراتِهِ، على كلِّ مصالحِهِ وأهدافِه العادلة.
إنَّنا نريد لهذا الوطن كلَّ الخير.
نريدُ لهُ كلَّ الاستقرار والأمان.
نريدُ أنْ تتأصَّلَ فيه كلُّ القِيمِ الصَّالحةِ.
نريدُ أنْ تتأسَّسَ كلُّ المناخاتِ الطَّيِّبة.
نريد أنْ تتآزرَ كلُّ القُوى على الخيرِ والهُدى.
نريدُ أنْ تتقاربَ الإرادات في البناءِ والإعمار.
نريدُ أنْ تنتهي كلُّ المُكدِّراتِ، كلُّ المُنغِّصاتِ، كلُّ الأزمات.
هكذا يكونُ الوطن كبيرًا.
وهكذا يكونُ الوطنُ جميلًا.
وهكذا يكونُ الوطنُ صَالِحًا.
وهكذا يكون الوطنُ عَزِيزًا.

ولا شكَّ أنَّ وطنًا يحتضنُ قِممَ عِلمٍ وفقهٍ، وقِممَ أخلاقٍ وقِيمٍ، وقِممَ ثقافةٍ وأدبٍ، وقِممَ خيرٍ وصلاح، وقِممَ تقوى وورع، وقِممَ محبَّةٍ وتسامحٍ… هو وطنٌ يملكُ كلَّ العِزَّةِ والسُّؤدد، وكلَّ القوَّةِ والمناعة، وكلَّ الشَّرفِ والكرامة، وكلَّ الصَّلاحِ والفلاح.
وإذا ماتتْ هذه المعاني كان مآلُ الأوطان إلى الدَّمارِ، والفَسادِ، والانهيار.
وإذا ماتت هذه المعاني عاشت الشُّعوب كلَّ الكدر، وكلَّ العناءِ، وكلَّ الشَّقاء، وكلَّ البلاءِ، وكلَّ التَّفكُّك، وكلَّ التَّأزُّم، وكلَّ الضَّياع.
– إنَّ سياسات حكم
– وعزائمَ شعب
– وكفاءات علمٍ وثقافة وفكر
إذا صلحتْ صَلحتْ الأوطان.
وسَمت الأوطان.
وقويت الأوطان.
وإذا فسدت كانت المآلات مُدمِّرة ومُرعبة.

نسأل الله القدير أنْ يُصلح كلَّ أوطانِ المسلمين، وأنْ يَدفع عنهم كلَّ البلايا والمِحن، إنَّه تعالى نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النَّصير.

وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

———————–
الهوامش:
1- الصَّدوق: كمال الدِّين وتمام النِّعمة، ص 285.
2- الطبرسي: تفسير مجمع البيان 5/359.
3- انظر: الطَّبرسي: تفسير مجمع البيان 1/162 – 163.
4- الطَّبرسي: الاحتجاج 2/101-102، (احتجاج الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) في أنواع شتى من العلوم).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى