حديث الجمعةشهر رجب

حديث الجمعة 540: عمَى الأبصار والبصائر! – مشاريع الإفساد تدمَّر أجيال الأمَّةَ!

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الهُداةِ الميامين.

عمَى الأبصار والبصائر!

وبعد، فقد قال تعالى في كِتابه المجيد: ﴿… فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾. (سورة الحج: الآية 46).

أوَّلًا: في الدُّنيا
الفارق كبيرٌ وكبيرٌ جدًّا جدًّا بين (عمى الأبصار)، و(عمى البصائر)!

كلاهما يحجبانِ الرُّؤية، إلَّا أنَّ عمى الأبصار يحجب الرُّؤية المادِّيَّة، وأمَّا عمى البصائر فيحجب الرُّؤية عن الحقائق.

فعُمْيُ البصائر لا يُفرِّقُون بين الهُدى والضَّلال، ولا بين الحقِّ والباطل، ولا بين الخير والشَّرِّ، ولذلك يتخبَّط هؤلاء في أفكارهم، وفي مواقفهم، وفي كلِّ أوضاع حياتِهم.

وإذا كان عَمَى الأبصار يحرم الإنسان من التَّمتع ببعض مظاهر الجمال المادِّيِّ، فإنَّ عَمَى البصائر يحرم الإنسان من التَّمتُّع بجمالِ الإيمان، وجمالِ الحقِّ، وجمالِ الهُدى، وجمال الفضيلةِ، وجمال الخير.
هذا في الدُّنيا.

ثانيًا: في الآخرة
أمَّا في الآخرة، فإنَّ عُمْيَ البصائر مَحرُومُونَ من التمتُّع بنِعَمِ اللهِ الوافرةِ والتي أعدَّها لعبادِهِ الأبرار.

1-﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾. (سورة المطففين: الآية 22 – 28).

﴿الْأَبْرَارَ﴾: الأخيار الصَّالحون، الطَّائعون لله تعالى.

﴿لَفِي نَعِيمٍ﴾: أعدَّ الله سبحانه لهم كلَّ ألوان الملاذ، والنِّعم الوافرة في الجنَّة.

﴿عَلَى الْأَرَائِكِ﴾: الأريكة، تعنى: السَّرير.

﴿يَنظُرُونَ﴾: وهم يعيشون أقصى درجات الرَّاحة، والاسترخاء، والأنس، بلا كَدَرٍ، ولا غَمٍّ، ولا هَمٍّ.
﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾: وجوه كلُّها إشراق، ونضرةٌ، وحُسْنٌ، ورونُقَ، وجمال.

﴿يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ﴾: من شراب خالصٍ مصفَّى، لا غشَّ فيه، ولا كَدر.

﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾: رائحته طيِّبة، تنعش الرُّوح.
﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾: في الفوز بمقامات الآخرة، ورضوان الله سبحانه يكون التَّنافس الحقيقيُّ، وليس من أجل عناوين الدُّنيا الزَّائلة.

فمطلوبٌ من الإنسان المؤمن أنْ يبحث – دائمًا – في كلِّ أقوالِهِ، وأعمالِهِ، وعلاقاتِه عن رضى الله سبحانه، والذي يقوده الى الفوز بالنَّعيم الأبديِّ.
أمَّا الفجَّار، فلا يفكِّرُون إلَّا في الأرباح الزَّائلة الفانية، ولذلك فكلُّ اهتماماتهم مشدودة إلى عناوين الدُّنيا، مفصولةً عن عطاءات الآخرة.

لا مشكلة أنْ يعيش الإنسان اهتماماتِ الدُّنيا، بل مطلوب ذلك، ولكن بشرط أنْ تكون هذه الاهتمامات في سياق التَّأسيس لمقامات الآخرة.

وهل كلُّ جرائم العالم إلَّا نتيجة الانفصال عن معايير الآخرة، والانسجان في زنزانات الأهواء، والشَّهوات، والأطماع، والمصالحة الفانية، والأغراض الزَّائلة.

وتتابع الآيات وصف ما أعدَّ الله تعالى للأبرار من نعيم الآخرة: ﴿وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾

﴿تَسْنِيمٍ﴾: عين في الجنَّة، وشرابها أشرف شراب أهل الجنَّة!

وهذا الشَّراب خالص للمقرَّبين.

أخلص إلى القول: إنَّ عُمْيَ البصائر في الدُّنيا سوف يكونون محرومين في الآخرة من التَّمتُّع بهذه النِّعم الوافرة، والتي أعدَّها الله تعالى للأبرار، والأخيار هم أصحاب البصائر.

العَمَى الحقيقيُّ
أيُّها الأحبَّة: إنَّ العَمَى الحقيقيَّ هو عَمَى القلوب، وليس عَمَى الأبصار، ﴿… فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾. (سورة الحج: الآية 46).

وعَمَى القلوب، يعني: عَمَى العقول، وعمى البصائر.

وفي تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾. (سورة الإسراء: الآية 72).

ورد:
1-عن الإمام الباقر (عليه السَّلام) أنَّه قال: «مَنْ لم يَدُّلُه خلقُ السَّماواتِ والأرضِ، واختلافُ اللَّيلِ والنَّهار، ودورانُ الفَلَكِ بالشَّمسِ والقمر، والآياتُ العجيبات على أنَّ وراءَ ذلك أمرًا هو أعظمُ منها، فهو في الآخرة أعمى، …، فهو عمَّا لم يعاين أعمى وأضلُّ سبيلًا». (ميزان الحكمة 3/2609، محمَّد الريشهري).

2-وعن الإمام الرِّضا (عليه السَّلام): في تفسير الآية: «يعني أعمى عن الحقائق الموجودة». (ميزان الحكمة 3/2609، محمَّد الريشهري).
وهكذا كلُّ الذين يسقطون في متاهات الضَّلال، والانحراف، والغِواية، والفساد هم من عُميِ القلوب والبصائر.

3-قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «شرُّ العَمَى عَمَى القلب». (ميزان الحكمة 3/2609، محمَّد الريشهري).

4-وفي حديث آخر قال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «أعمى العَمَى عمى الضَّلالةِ بعد الهدى.
وشر العَمَى عَمَى القلب». (ميزان الحكمة 3/2609، محمَّد الريشهري).

مشاريع الإفساد تدمَّر أجيال الأمَّةَ!
أيُّها الأحبَّة، إنَّ مشاريع الإفساد الرُّوحيِّ، والأخلاقيِّ، والسلوكيِّ هي التي تُدمِّرُ (أجيال الأمَّة)!

وقد مارست قوى الإفساد أخطر الوسائل؛ من أجل العبث بقِيم هذه الأجيال، وخاصَّة الأجيال النَّاشئة.

مَنْ المسؤول عن حماية هذه الأجيال؟
1-مؤسَّسات التَّربية، والتَّعليم، والثَّقافة في أوطاننا العربيَّة والإسلاميَّة تتحمَّل المسؤوليَّة الأولى في حماية هذه الأجيال من خلال مناهج كفوءة، وصالحة، وقادرة على بناء النَّاشئة من بَنينَ وبناتٍ، ومن خلالِ التَّوفُّر على نخب (كوادر) تعليميَّة مؤهَّلة كلَّ التَّأهيل، ونظيفة كلَّ النظافة، ومن خلال أجواء مدارس نقيَّة كلَّ النَّقاء، ومُحصَّنَة كلَّ التَّحصين.

فغياب أحد هذه العناصر الثَّلاثة:
العنصر الأوَّل: المناهج الكفوءَة، والصَّالحة.
العنصر الثَّاني: النخب (الكوادر) التَّعليميَّة المؤهَّلَة، والنَّظيفة.

العنصر الثَّالث: الأجواء النَّقيَّة، والمحصَّنة.
يعني وقوع الأجيال في منزلقات الفساد، والانحراف، وهنا تتحمَّل الأنظمةُ الحاكمة، ومؤسَّساتها التَّعليميَّة، والتَّربويَّة مسؤوليَّة كبرى تُعرِّضُها للمساءلةِ والمحاسبة.

2-وإلى جانب ذلك تأتي مسؤوليَّة الأُسَر، وأولياء الأمور، وهي مسؤوليَّة يجب أنْ تتكامل مع مسؤوليَّة الأنظمة، ومؤسَّساتِها التَّعليميَّة، والتَّربويَّة، فغياب الإشراف الواعي، والجادِّ، والصَّادق من قبل أولياء الأمور يُعرِّض الأبناء والبنات إلى السُّقوط في هَيْمَنة مشاريعِ العبثِ، والإفساد، والتي وظِّفت لها أخطر الوسائل، والأدوات، والإمكانات في هذا العصر!
فإذا كانت مؤسَّسات الأنظمة مسؤولة.
وإذا كانت الأُسَرُ مسؤولة.

3-فإنَّ مواقع التَّوعية، والتَّوجيه هي الأخرى مسؤولة.

فأصحاب الخطاب الدِّينيِّ من علماءَ، وخطباءَ، وكتَّاب مسؤوليَّتُهم كبيرةٌ وكبيرة جدًّا في صناعةِ وعي الأجيال، وفي حمايتهم إيمانيًّا، وروحيًّا، وأخلاقيًّا، وسلوكيًّا.

وإنَّ غياب الخطاب الدِّينيِّ عن ممارسة دوره في التَّصدِّي لمشاريع الإفساد، والتَّدمير يضع هذا الخطاب أمام محاسبة عسيرة من قبل الله تعالى، في يوم الحساب الأكبر.

مطلوب جدًّا أنْ يمارس العلماءُ وحَمَلَةُ الخطابِ الدِّينيِّ مسؤوليَّاتِهم التَّبليغيَّة، لا يخشون في ذلك إلَّا الله ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا﴾. (سورة الأحزاب: الآية 39).

إنَّها وظيفة الأنبياءِ (عليهم السَّلام)، وكلِّ الَّذينَ يتحرَّكون في خطِّ الأنبياء (عليهم السَّلام).
4-وفي هذا السِّياق تتحرَّك مسؤوليَّة كلِّ مَن يحمل علمًا، وثقافة، ووعيًا من رجال فِكر، ومؤسَّسات وجمعيَّات.

هذه المواقع معنيَّة برعاية الأجيال، وحمايتها في مواجهة كلِّ الانزلاقات، والانحرافات، وفي التَّصدِّي لكلِّ أشكال العَبَث بأخلاقِ النَّاشئة من أبناء وبنات، هؤلاء أمانة كبرى في أعناق الأنظمة، وأولياء الأمور، وجميع حرَّاس الفكر، والأخلاق، والسُّلوك.

وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى