حديث الجمعةشهر ربيع الأول

حديث الجمعة 558: قراءةٌ في حياة الأئمَّة من أهل البيت عليهم السَّلام

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وعلى آلِهِ الهُداةِ الميامين.

وبعد:
قراءةٌ في حياة الأئمَّة من أهل البيت عليهم السَّلام.

فقد تقدَّم القول أنَّ الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام) قد اعتمدوا في بناء الأمَّة روحيًّا وأخلاقيًّا وسلوكيًّا ثلاث وسائل:
الوسيلة الأولى: القُدوة
الوسيلة الثانية: الموعظة
الوسيلة الثالثة: الدُّعاء

تقدَّم الحديث عن الوسيلتين الأولى والثانية
وتتناول الكلمةُ الليلةَ (الوسيلة الثالثة) وهي (الدُّعاء)

الدُّعاء يُمثِّل أسلوبًا تربويًّا فاعلًا ومنهجًا تثقيفيًّا أصيلًا، ونمطًا عباديًّا واعيًا.

وقد أكَّدت النُّصوصُ الدِّينية (قرآنًا وسُنَّةً) على قيمة الدُّعاء:

•قال تعالى في سورة غافر/ الآية 60: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ…﴾.

•وقال تعالى في سورة البقرة/ الآية 186: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ…﴾.

•وقال تعالى في سورة الفرقان/ الآية 77: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ…﴾.

وأمَّا نصوص السُّنَّة فمستفيضة في التأكيد على قيمة الدُّعاء، أذكر طائفةً منها:

•قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «الدُّعاء مُخُّ العبادة». (وسائل الشِّيعة 7/27، الحر العاملي، أبواب الدُّعاء، ب2، ح9)
المخُّ يمثِّل الموقع المركزي في جسيم الإنسان، فكذلك هو (الدُّعاء) يمثِّل الموقع المركزي في جسم العبادة.

•وقال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «الدُّعاء سلاح المؤمن وعمود الدّين ونور السَّموات والأرض». (الوسائل الشِّيعة 7/38، الحر العاملي، أبواب الدُّعاء، ب8، ح3)

إذا كان الدُّعاء سلاح المؤمن فلا يعني هذا أنْ يتخلَّى المؤمنُ عن الوسائل الطبيعية، مطلوبٌ أنْ يحرِّك هذه الوسائل وفق قدراتِه وإمكاناته، ويبقى التوفيق والتسديد بيد الله تعالى، فقد تتعطَّل كلُّ الوسائل والقدرات، وقد تفشل، وقد تنحرف، هنا الحاجة كلُّ الحاجة إلى اللجوء إلى الله، إلى الدُّعاء في كلِّ الحالات في السِّلمْ والحرب، في الرَّخاء والشِّدَّة، في الصِّحة والمرض، في الغنى والفقر.

وكلُّ البشر وحتى الأنبياء يحتاجون إلى الدُّعاء.
•في الكلمة عن الإمام الرِّضا (عليه السَّلام) قال: «عليكم بسلاح الأنبياء.
فقيل: وما سلاح الأنبياء؟
قال: الدُّعاء». (الوسائل الشِّيعة 7/39، الحر العاملي، أبواب الدُّعاء، ب8، ح6)

إنَّ كثرة الدُّعاء تعطي للمؤمن مقامًا كبيرًا في الآخرة.
•في الحديث عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «يدخل الجنَّة رجلان كانا يعملان عملًا واحدًا، فيرى أحدهما صاحبه فوقه.
فيقول: يا ربِّ بما أعطيته وكان عملُنا واحدًا؟
فيقول الله تبارك وتعالى: سألني ولم تسألني». (الوسائل الشِّيعة 7/24، الحر العاملي، أبواب الدُّعاء، ب1، ح7)

الدُّعاء عبادة بكلِّ ما يحمل مضمون العبادة من دلالات كبيرة.

وهذا ما أكَّدته الآيات والرِّوايات:
•﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ (غافر/60)

إذا كان الدُّعاء عبادةً، فإنَّ الامتناع عن الدُّعاء يُمثِّل (استكبارًا عن عبادة الله)
وماذا ينتظر المستكبرين عن عبادة الله؟
﴿سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾

ما معنى ﴿دَاخِرِينَ﴾؟
يعني: صاغرين، محتقرين، أذلَّاء.

وقد أكَّدت الرِّوايات على أنَّ الدُّعاء عبادة:
•قال النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «أفضلُ العبادة الدُّعاء». (الوسائل الشِّيعة 7/31، الحر العاملي، أبواب الدُّعاء، ب3، ح7)

فإذا كانت العبادة مراتب ودرجات فإنَّ أفضل هذه المراتب والدَّرجات (الدُّعاء)

•وفي قول آخر للنبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «عملُ البِّر كلُّهُ نصفُ العبادة والدُّعاء نصف». (ميزان الحكمة 2/ 869، الريشهري، الدعاء)

فإذا وضعنا أعمالَ البِّر كلَّها في كَفَّة، ووضعنا الدُّعاء في الكفَّة الأخرى تساوت الكفَّتان، فكم هو ثقل الدُّعاء، وكم هو ثواب الدُّعاء بحيث يوازي أعمالَ البِّر كلَّها؟!

•وفي كلمة ثالثة للنبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «أفضل العبادة الدُّعاء، فإذا أذِنَ اللهُ للعبد في الدُّعاء فتح له بابَ الرَّحمةِ إنَّه لن يهلك مع الدُّعاء أحد». (ميزان الحكمة 2/ 869، الريشهري، الدعاء)

من أعظم أبواب الرَّحمة الدُّعاء.
•وفي كلمة رابعة له (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «الدُّعاء مخُّ العبادة، ولا يهلك من الدُّعاء أحد». (ميزان الحكمة 2/ 869، الريشهري، الدعاء)

تلاحظون تنوع الحديث عن (عباديَّة الدُّعاء)
(1) الدُّعاء عبادة
(2) الدُّعاء نصف العبادة، وأعمال البِّر كلُّها تمثِّل النصف الآخر.
(3) الدُّعاء أفضل العبادة، فإذا ميِّزت العبادات كان الدُّعاء له موقعه المتميِّز
(4) الدُّعاء مخُّ العبادة.
وهذا تعبير يُعطي للدُّعاء موقعًا مركزيًّا في جسم العبادة.

وإذا تابعنا الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وجدناها تعطي للدُّعاء قيمة عظمى،
وهذه بعض كلماتهم (أختار ثلاث كلمات):

الكلمة الأولى:
قال أمير المؤمنين (عليه السَّلام) – في وصيَّته لابنه الحسن عليه السَّلام-:
«اعلم أنَّ الَّذي بيده خزائن ملكوت الدُّنيا والآخرة قد أذِنَ لدعائك وتكفَّل لإجابتِك، وأمرك أنْ تسألَهُ ليعطيك، وهو رحيم كريم، لم يجعل بينَك وبينَه مَنْ يحجبُكَ عنه، ولم يُلجئك إلى مَنْ يشفع لكَ إليه، …، ثمَّ جَعَل في يدِكَ مفاتيح خزائِنهِ بما أذن فيه مِن مسألتِه، فمتى شئت استفتحت بالدُّعاء أبواب خزائنه». (ميزان الحكمة 2/ 868، الرَّيشهري، الدعاء)

الكلمة الثَّانية:
قال الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): «مَنْ كانت له حاجة إلى الله عزَّ وجلَّ فليبدأ بالصَّلاة على محمَّد وآلِهِ، ثمَّ يسأل حاجتَهُ، ثمَّ يختم بالصَّلاة على محمَّدٍ وآلِ محمَّدٍ، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ أكرم من أنْ يقبل الطَّرفين ويدع الوسط إذا كانت الصَّلاةُ على محمَّدٍ وآلِ محمَّد لا تحجب عنه». (ميزان الحكمة 2/ 877، الرَّيشهري، الدعاء)

الكلمة الثَّالثة:
في حديث عن الإمام الباقر أو الإمام الصَّادق (عليهما السَّلام): «مَنْ دعا لأخيه في ظهر الغيب نادى مَلَكٌ من السَّماء الدُّنيا: يا عبد الله لك مائة ألف ضعفٍ ممَّا دعوت.

وناداه مَلَكٌ من السَّماء الثَّانية: يا عبد الله ولك مائتا ألف ضعفٍ ممَّا دعوت.

وناداه مَلَكٌ من السَّماء الثَّالثة: يا عبد الله ولك ثلاثمائة ألف ضعفٍ ممَّا دعوت.

وناداه مَلَكٌ من السَّماء الرَّابعة: يا عبد الله ولك أربعمائة ألف ضعفٍ ممَّا دعوت.

وناداه مَلَكٌ من السَّماء الخامسة: يا عبد الله ولك خمسمائة ألف ضعفٍ ممَّا دعوت.

وناداه مَلَكٌ من السَّماء السَّادسة: يا عبد الله ولك ستمائة ألف ضعفٍ ممَّا دعوت.

وناداه مَلَكٌ من السَّماء السَّابعة: يا عبد الله ولك سبعمائة ألف ضعفٍ ممَّا دعوت.

ثمَّ يناديه الله تبارك وتعالى: أنا الغني الَّذي لا أفتقر، يا عبد الله لك ألف ألف ضعفٍ ممَّا دعوت». (بحار الأنوار 90/388، المجلسي، ب26 (الدُّعاء للإخوان بظهر الغيب …) ح19)

أدعية القرآن، وأدعية النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وأدعية أهل بيته (عليهم السَّلام) تمثِّل أرقى نماذج الأدعية.

تقدَّم القول أنَّ الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام) اعتمدوا في بناء الأمَّة روحيًّا وأخلاقيًّا وسلوكيًّا ثلاث وسائل (القدوة/ الموعظة/ الدُّعاء)

صحيح أنَّ الدُّعاء ممارسة عباديَّة يتقرَّب بها العبد إلى ربِّه، إلَّا أنَّ الدُّعاء وسيلة مهمَّة من وسائل التحصين الرُّوحي والأخلاقي والسُّلوكي.

ولذلك مطلوب ونحن نمارس الدُّعاء
1-أن نملك وعي الدُّعاء
2-أنْ نملك عشق الدُّعاء
3-أنْ نملك فاعلية الدُّعاء
فلا قيمة للدُّعاء إذا فقد هذه العناصر، أو إذا فقد إحداها.
فالدُّعاء الذي يفقد الوعي يبقى متخلِّفًا.
والدُّعاء الذي يفقد العشق يبقى راكدًا.
والدُّعاء الذي يفقد الفاعليَّة يبقى نظريًّا.
أطرح هذه الفقرات من دعاء كميل لأمير المؤمنين (عليه السَّلام) نموذجًا.

•«اللَّهُمَّ اغفر ليَ الذُّنوبَ التي تهتِكُ العِصَمَ».
•«اللَّهُمَّ اغفر ليَ الذُّنوب التي تُنزل النِّقم»
•«تغيِّر النِّعم»
•«تحبس الدُّعاء»
•«تنزل البلاء»
•«تقطع الرَّجاء» (مصباح المتهجِّد، ص ٨٤٤، الشيخ الطُّوسي)
تهتك العِصَم: تفضح السِّتر
في الحديث عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «للمؤمن اثنان وسبعون سِترًا، فإذا أذنب ذنبًا انهتك عن سترٌ، فإن تاب ردَّه الله إليه وسبعة معه.
فإنْ أبى إلَّا قُدُمًا قُدُمًا في المعاصي تهتَّك عنه أستاره.
فإنْ تاب ردَّها الله إليه ومع كلِّ سِتر سبعة أستار.
فإن أبى إلَّا قُدُمًا قُدُمًا في المعاصي تَهتَّكت عنه أستاره وبقي بلا ستر.

وأوحى الله تعالى إلى ملائكته أن استروا عبدي بأجنحتكم فإنَّ بني آدم يُعيرون ولا يُغيرون، وأنا أغير لو أعير.

فإن أبى إلَّا قُدُمًا قُدُمًا في المعاصي شكت الملائكةُ إلى ربِّها ورفعتْ أجنحتَها، وقالت: يا ربِّ أنَّ عَبدك قد أقدمنا [أقذرنا] ممَّا يأتي من الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

فيقول الله تعالى: كفُّوا أجنحتَكم فلو عَمِلَ بخطيئة في سواد اللَّيل أو ضوء النَّهار أو في مفازة أو قعر بحر لأجراه الله على ألسنة النَّاسِ، فسلوا الله أنْ لا يهتك أستاركم». (النوادر، ص97، الراوندي، ح49)

من الذنوب التي تهتك العِصَم (تَهتِك السِّتر):
(1) شرب الخمر:
•في الحديث عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «لعن اللهُ الخمر، وعاصرَها، وغارسَها، وشاربَها، وساقيها، وبائعها، ومشتريها، وآكلَ ثمنها، وحامِلَها، والمحمولة إليه». (ميزان الحكمة 1/812، الرَّيشهري، الخمر)

(2) الغيبة
•قال الله تعالى في سورة الحجرات/ الآية 12: ﴿… وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾.
•قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «مررت ليلة أُسرِيَ بي على قومٍ يخمشون وجوههم بأظفارهم فقلت: يا جبرئيل مَنْ هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الَّذين يغتابون النَّاس ويقعون في أعراضهم». (ميزان الحكمة 3/2328، الرَّيشهري، النَّهي عن الغِيبة)

•وعنه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «يؤتى بأحد يوم القيامة يوقف بين يدي الله ويدفع إليه كتابه فلا يرى حسناته فيقول: إلهي ليس هذا كتابي! فإنِّي لا أرى فيه طاعتي؟! فيقال له: إنَّ ربَّك لا يضلُّ ولا ينسى ذهب عملُك باغتياب النَّاس.
ثمَّ يؤتى بآخر ويُدفع إليه كتابه فيرى فيه طاعات كثيرة فيقول: إلهي ما هذا كتابي، فإنِّي ما عملت هذه الطَّاعات؟
فيُقال: لأنَّ فلانًا اغتابك فدُفعت حسناته إليك». (ميزان الحكمة 3/2330، الرَّيشهري، الغِيبة والدين)

(3) السُّخرية:
•قال الله تعالى في سورة الحجرات/ الآية 11: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ…﴾.
•قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «كان بالمدينة أقوام لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب النَّاس، فأسكت الله عن عيوبهم النَّاس فماتوا ولا عيوب لهم عند النَّاس، وكان بالمدينة أقوام لا عيوب لهم فتكلَّموا في عيوب النَّاس فأظهر الله لهُمْ عيوبًا لم يزالوا يُعرفون بها إلى أنْ ماتوا». (أمالي الطوسي ص44، ح49/18)

للحديث تتمَّة إن شاء الله
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى