حديث الجمعةشهر صفر

حديث الجمعة 29: ثَقافة التَّقوى ضرورة مِن أجل صِياغة الإنسان المُتَّقي ج2

حديث الجمعة 29 | 8 صفر 1424 هـ | 10 ابريل 2003 م | المكان: مسجد الإمام الصادق (ع) | القفول - البحرين

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين محمد وآله الصفوة الميامين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

نتابع الحديث حول «ثقافة التقوى»، ونتناول هنا العنوان التالي:
«ثقافة التقوى ضرورة من أجل صياغة الإنسان المتقي».
كيف تصنع من نفسك إنسانا تقياً، إذا كنت لا تملك ثقافة التقوى، إذا كنت لا تفهم ضرورة التقوى، إذا كنت لا تفهم معنى التقوى، إذا كنت لا تفهم مكوّنات التقوى.

صحيح أن الثقافة النظرية وحدها لا تكفي لصناعة الواقع العملي، فما أكثر من يملكون ثقافة الدين ولكنهم غير متدينين، لأن التدين سلوك وممارسة وليس مجرد ثقافة..
وما أكثر من يملكون ثقافة التقوى، ولكنهم غير متقين، لأنّ التقوى إلتزام عملي وليس مجرد ثقافة..
هذا الكلام صحيح، ولكن في الوقت نفسه هل يمكن لأيّ إنسان أن يكون متدينا أو يكون متقياً، إذا كان لا يملك الأسس والمكونات لهذا التدين ولهذه التقوى، هذا لا يمكن أبداً، إلا أن يكون تديناً فارغاً من المضمون الصحيح، وإلا أن تكون تقوى فارغة من المضمون الأصيل.

إن ممارسة التطبيق العملي للتدين وللتقوى تفرض التوفر على ثقافة التدين وثقافة التقوى، وبشكل أكثر وضوحاً أقول لك أيها المؤمن: إذا أردت أن

تتعاطى مع التقوى فيجب عليك أن تحقق العناصر التالية:
العنصر الأول:  أن تؤمن بضرورة التقوى:
ولاشك أن قراءة الآيات والروايات تخلق لديك هذه القناعة الإيمانية بضرورة وأهمية التقوى، وسوف نتناول في حديث قادم – إن شاء الله – طائفة من هذه الآيات والروايات..

العنصر الثاني: أن ترتقي إلى مستوى الحب والعشق للتقوى:
فإذا كان العنصر الأول يمثل حضور التقوى في العقل، فإن العنصر الثاني يمثل حضور التقوى في القلب والوجدان والعاطفة، إن بقاء الفكرة في العقل وحده، إذا لم تدخل القلب، يجعلها فكرة جامدة راكدة لا تملك حرارة الانطلاق، أما إذا دخلت الفكرة القلب فإنها تتعبأ بفيض من الأحاسيس والمشاعر مما يعطيها حرارة وحيوية وفاعلية وحركية..

العنصر الثالث: أن تملك ثقافة التقوى:
وهذا العنصر يمنحك الرؤية والفهم التفصيلي حول أسس ومكوّنات التقوى، وهنا تملك حركة التقوى الوعي والبصيرة، ولا قيمة لهذه الحركة إذا كانت فاقدة للوعي والبصيرة:
جاء في الحديث: (العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق، لا تزيده سرعة السير إلا بعداً).
وجاء في حديث آخر: (قصم ظهري إثنان: عالم متهتك، وجاهل متنسك).
وجاء في حديث ثالث: (إذا أراد الله بإنسان خيراً فقهه في الدين).
والتفقه في الدين – أيها الأحبة – لا يعني فقط معرفة الأحكام الشرعية، وإنما يعني امتلاك الرؤية والبصيرة بكل شؤون الدين، كون الدين عقيدة، وفقهاً، وأخلاقاً، وإقتصاداً، وإجتماعاً، وسياسة، الدين هو الحياة بكاملها..

العنصر الرابع:  التطبيق العملي للتقوى:
قد تتوافر العناصر الثلاثة الأولى، ومع ذلك لا يمارس الإنسان التقوى، فالممارسة والتطبيق هو المضمون الحقيقي للتقوى، سوف أتناول في حديث قادم – إن شاء الله – موضوعاً بعنوان (التقوى وأزمة التطبيق).
أيها الأحبة: هذه العناصر الأربعة هي مكوّنات التعاطي مع التقوى..
وحديثنا كما تعلمون يتركز على ثقافة التقوى وضرورتها من أجل صياغة الإنسان المتقي، فيجب عليك أيها المؤمن أن تجتهد في التوفر على هذه الثقافة من خلال السؤال أو القراءة أو الدراسة أو الاستماع إلى المحاضرات الروحية والأخلاقية..

أذكر لكم هذا المثال من التاريخ وهو يعطينا درساً عملياً عن أهمية البحث والسؤال عن ثقافة التقوى..
روي أن صاحباً لأمير المؤمنين (عليه السلام) يقال له «همّام»، كان من خواص أمير المؤمنين، وكان معروفاً بالعبادة والنسك والإجتهاد،
قال له: يا أمير المؤمنين صف لي المتقين كأني أنظر إليهم.
إنّه يريد أن يملك بصيرة التقوى، وثقافة التقوى، وحقيقة التقوى ليصنع من نفسه الإنسان المتقي الحقيقي، ومنْ غير أمير المؤمنين (عليه السلام) أقدر على أن يعرّف التقوى ويعرّف المتقين وهو إمام المتقين وسيد المتقين بعد سيد النبيين وخاتم المرسلين محمد (صلى الله عليه وآله)..

ورغم أن هذا الرجل الصالح وهو همّام كان عابداً ناسكاً مجتهداً في الله إلا أنه يحاول أن يتوفر على المزيد من المعرفة والبصيرة حول التقوى وحول التدين..
وهكذا يجب أن يكون الإنسان المؤمن، أن يحاول دائماً أن يرتقي بمستوى إيمانه، وبمستوى تدينه، وبمستوى تقواه، وبمستوى وعيه وثقافته ومعرفته «من تساوى يوماه فهو مغبون».

لا يقل أحدكم أنه ملتزم ومتدين ومتفقه فلا يحتاج إلى المزيد، لا إن مستويات الالتزام والتدين والتفقه مستويات متعددة، فإذا كنت متديناً فهناك من هو اكثر منك تديناً وإذا كنت ملتزماً فهناك من هو أكثر منك إلتزاماً، وإذا كنت متفقهاً فهناك من هو أكثر منك تفقهاً، وإذا كنت مثقفاً فهناك من هو أكثر منك ثقافةً وأكثر وعياً، فحاول دائماً أن تحصل على مستوى أرقى من التدين والالتزام والتفقه والوعي والثقافة..

ومهما توفر أحدنا على مستوى من العلم والثقافة والدين والتقوى فيجب أن لا يعيش شعوراً بالاستعظام والزهو والتكبر، وأن لا يعيش شعوراً بالغرور والعجب بنفسه..

من الناس  منْ يأسره غرور العلم..
ومن الناس منْ يأسره غرور الموقع الإجتماعي..
ومن الناس منْ يأسره غرور المنصب والوظيفة..
ومن الناس منْ يأسره غرور العبادة فيصل إلى حد الزهو والمنة على الله سبحانه بعبادته، وأنه أدّى لربّه كامل حقه، هذا الشعور يحبط العمل ويعرض الإنسان إلى الخسران في الدنيا والاخرة.

قال الإمام الباقر (عليه السلام): دخل رجلان المسجد أحدهما عابد والآخر فاسق، فخرجا من المسجد والفاسق صدّيق، والعابد فاسق، وذلك أنّه يدخل العابد المسجد مدلاً بعبادته، يدل بها فتكون فكرته في ذلك، وتكون فكرة الفاسق في الندم على فسقه ويستغفر الله مما صنع من الذنوب.
وقال الله مخاطباً داود: يا داود بشر المذنبين وأنذر الصديقين،
قال: كيف أبشر المذنبين وأنذر الصديقين؟
قال: بشر المذنبين أنى أقبل التوبة أعفو عن الذنب، وأنذر الصدّيقين ألا يعجبوا بأعمالهم فإنه ليس عبد أنصبه للحساب إلا هلك. (ربما أتحدث عن العجب والغرور في حديث مستقل إن شاء الله).
وهنا أنبه إلى ملاحظة وهي أن مجرد سرور الإنسان بعلمه أو بموقعه أو بعبادته ليس عجبا.

نعود إلى (همّام) صاحب أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد طلب من أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يصف له المتقين كأنه ينظر إليه، إنه لا يريد وصفاً عادياً إنه يريد وصفاً يرتقي به إلى مستوى المعاينة والنظر حتى يتمثل أوصافهم وسلوكهم ليكون أحدهم.
فماذا كان موقف أمير المؤمنين (عليه السلام)؟
لقد تثاقل وتباطأ عن جوابه..

لماذا تثاقل وتباطأ أمير المؤمنين عن الجواب؟
توجد عدة احتمالات:
الاحتمال الأول: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يخاف على همّام أن تزهق روحه لشدة تأثره وتفاعله مع المواعظ..
الاحتمال الثاني: لعل الأجواء غير مناسبة فأخر أمير المؤمنين (عليه السلام) الجواب إلى وقت آخر يكون اكثر ملائمة للموعظة..
الاحتمال الثالث: كان الغرض من التثاقل والتباطئ هو خلق حالة من الشوق عند همّام لسماع الموعظة فيكون تأثيرها أكبر أقوى..
والاحتمال الأول هو الأنسب..

تقول الرواية أنه لما ختم أمير المؤمنين خطبته صعق همّام صعقة كانت نفسه فيها،فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أما والله لقد كنت أخافها عليه) ثم قال: (أهكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها؟)، وبعد أن تباطأ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أجاب بقوله: (يا همّام اتق الله وأحسن «إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون»).

لم يكتف همّام بهذا القول الموجز حتى عزم عليه_ أيّ أقسم وألح عليه في السؤال  _فأجابه أمير المؤمنين (عليه السلام) بجواب مفصل تحدث فيه عن صفات المتقين (قد أتناول بعض مقاطع هذه الخطبة في أحاديث قادمة) وأنصح الأحبة بالمداومة على قراءة الخطبة وهي موجودة في نهج البلاغة لمولانا أمير المؤمنين (عليه السلام).

ذكرى شهادة الإمام الحسن المجتبى… والوصية بالتقوى
أعزائي: ما دمنا نتحدث عن ضرورة التقوى فهذه وصية للإمام الحسن بن علي المجتبى (عليه السلام) – ونحن نعيش هذه الأيام ذكرى شهادته (عليه السلام) – تكلم فيها عن التقوى وحث عليها، قال (عليه السلام): (إن الله لم يخلقكم عبثا وليس بتارككم سدى، كتب آجالكم وقسم بينكم معائشكم ليعرف كل ذي منزلة منزلته، وأن ما قدر له أصابه، وما صرف عنه فلن يصيبه، قد كفاكم مؤونة الدنيا فزعكم لعبادته وحثكم على الشكر وافترض عليكم الذكر، وأوصاكم بالتقوى، وجعل التقوى منتهى رضاه والتقوى باب كل توبة، وراس كل حكمة، وشرف كل عمل، بالتقوى فاز من فاز من المتقين، قال الله تبارك وتعالى: (إن للمتقين مفازاً) وقال: (وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسّهم السوء ولا هم يحزنون).

فاتقوا عباد الله واعملوا أن من يتق الله يجعل له مخرجاً من الفتن ويسدده في أمره، ويهيئ له من رشده، ويفلجه بحجته، ويبّيض وجهه، ويعطيه رغبته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً).

نداء الدين ونداء الضمير ونداء القيم
من الواجب أن نحمل همّ اخوتنا في العراق

وفي ختام حديثنا يجب أن لا تنسى شعبنا المسلم في العراق وهو يعيش نتائج حرب مدمرة ظالمة، ومرحلة إنتهاء نظام هو الأسوء في تاريخ الأنظمة، فمن الواجب أن نحمل هم اخوتنا في العراق، انه نداء الدين ونداء الضمير ونداء القيم يفرض علينا أن نكون معهم بعواطفنا ومشاعرنا وأحاسيسنا، أن نكون معهم بموافقنا وإمكاناتنا وقدراتنا، أن نكون معهم بدعواتنا وتضرعاتنا وابتهالاتنا..

ربنا – وأنت القادر الذي لا يقهر – كن عونا لهذا الشعب المظلوم الذي عانى وعانى ولا زال يعاني، والأيام المثقلة لا زالت حبلى وحبلى..
ربنا – وأنت القادر الذي لا يقهر – بعينك ما جرى لهذا الشعب، بعينك ما جرى في أرض المقدسات أرض علي والحسين، بعينك أطفال العراق الأبرياء، بعينك نساء العراق الثاكلات، بعينك كل تاريخ العراق، وكل حاضر العراق، وكل مستقبل العراق..

ربنا – وأنت القادر الذي لا يقهر – فكما خلّصت عبادك المؤمنين في العراق من نظام الظلم والقهر والإستبداد ونظام البطش والموت والإرهاب، فخلّصهم من هيمنة الكفر الأمريكي، وهيمنة العدوان الأمريكي، وهيمنة الاستعمار الأمريكي..

ربنا – وأنت القادر الذي لا يقهر – أنزل نقمتك وغضبك وعذابك على القوم الكافرين الذين يريدون لهذا الشعب المسلم، ولكل الشعوب المسلمة الذل والهوان والشر والاستعباد..

ربنا – وأنت القادر الذي لا يقهر – ردّ كيد المعتدين إلى نحورهم، بدد شملهم، أقطع عنهم المدد، وانقص منهم العدد، وأملأ أفئدتهم رعباً وخوفاً، ونكل بهم من ورائهم، فإنهم يريدون الفساد في الأرض، ويريدون الظلم بين العباد..
ربنا – وأنت الرحمة التي لا تنتهي والفيض الذي لا ينفذ – ظلل على أبناء العراق وأبناء فلسطين وأبناء الإسلام في كل مكان فيوضات لطفك ورحمتك ورعايتك وعنايتك وكرمك..

ربنا – وأنت الرحمة التي لا تنتهي والفيض الذي لا ينفذ – خفف على شعوبنا المقهورة الماسورة آلام المعاناة، وجراحات العذاب، وويلات القهر والظلم.
ربنا تب علينا واغفر لنا وأرحمنا وأنت خير الراحمين..

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى