حديث الجمعةشهر ذي الحجة

حديث الجمعة 269: آثار الذنوب – في خَطِّ الوَلاءِ لأمير المؤمنين عليه السلام

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلوات على سيّد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الهداة المعصومين…


آثار الذنوب:
تحدَّثنا عن الأثر الأول من آثار الذنوب من خلال هذا المقطع الوارد في دعاء كميل «اللهَّم اغفر ليَ الذنوب التي تهتك العصم» أي تفضح الستر، وقد ذكرنا بعضَ أمثلةٍ لهذه الذنوب.


الأثر الثاني من آثار الذنوب:
• جاء في دعاء كميل: «اللهُمَّ اغفر ليَ الذنوبَ التي تُنْزِلُ النِّقَمَ».
– النِّقَم: جمع نَقِمَة أو نَقْمة أو نِقْمة.
وهي عقوبة إلهيَّة ينزلها الله على بعض العصاة المتمرِّدين على أوامر الله…
والحديث هنا عن عقوباتٍ في الدنيا قبل عقوبات الآخرة..


• قال الله تعالى في سورة السَّجدة (21):
﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.
العذاب الأكبر هو عذاب جهنَّم في الآخرة.
وأمّا العذاب الأدنى فهو عذاب في الدّنيا، ربّما يكون على شكل مصائب ومحن في الأنفس والأموال أو ابتلاءات أخرى، أو نزول عقوبات مباشرة تمثِّل انتقامًا من العصاة المجرمين.
فمن الذنوب ما يُنزل النقم والعذاب الإلهي في الدنيا قبل العذاب والانتقام في الآخرة..


مِن هذه الذنوب التي تُنزل النِّقم:
(1)  ظُلمُ العباد:
• قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ…﴾. (يونس/ 13)
فرعون ظلم وتمادى في الظلم، وقتل، وذبح، واستكبر، وطغى، وتجبّر..
• ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾. (القصص/ 4)
• ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي…﴾. (الزخرف/ 51)
• ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي…﴾. (القصص/ 38)
• ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾. (النازعات/ 23 – 24)
فماذا كان مصيرُه؟ وما هي نهايتُه؟
• ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾. (القصص/ 40)
• ﴿فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ…﴾. (الأعراف/ 136)
ويُحدِّثنا القرآنُ عن قصَّة هذه النهاية لفِرعَونَ:
• ﴿فَأَخْرَجْنَاهُم…﴾ (الشعراء/ 57): يعني فرعون وحزبه.
• ﴿مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ (الشعراء/ 57): ومِن بساتينهم المملوءة بالأشجار، والغنيَّة بالثِّمار، ومن العيون المتدفِّقة بالمياه..
• ﴿وَكُنُوز…﴾ (الشعراء/ 58): مِن أموالهم المخبأة، وخزائنهم، وثرواتهم الهائلة…
• ﴿وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ (الشعراء/ 58): مِن سلطتهم، وقصورهم، ومجالسهم الفارهة…
• ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (الشعراء/ 59): كلّ ذلك من أموال، وقصور، وديار كانت ميراثًا للمستضعفين الذين ظلّوا زمنًا يُعانون بطشَ فِرعونَ وظُلمَهُ وعذابَهُ


• كيف تمَّ إهلاك فِرعونَ؟
خرج موسى ومَنْ آمن مَعُه تقريبًا مِن ظلم فِرعون، بعد أن أمره الله بذلك ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾ (الشعراء/ 52) سوف يلاحقكم فرعون وجنوده..
• ﴿فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ﴾ (الشعراء/ 60): استطاع فِرعونُ وجنوده أن يدركوا موسى وأتباعَهُ، وذلك حين أشرقت الشمس…
• ﴿فَلَمَّا تَرَاءى الجَمْعَانِ﴾ (الشعراء/ 61): اقترب فرعونُ وجنودُه من موسى وأتباعهِ، وأبصر بعضهم بعضًا…
• ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ (الشعراء/ 61): هنا برز الخوف على أتباع موسى، فجيش فِرعونَ قد حاصرهم من خلفهم، وليس أمامهم إلَّا البحر…
• فقال موسى: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ (الشعراء/ 62): هنا قال موسى كلمته الواثقة بالله، ليملأ قُلوبَ أصحابه بالاطمئنان.. وفي اللحظة الحرجة جدًا أكَّدْ أنَّ الله معهم، ولن يتخلَّى عنهم، صحيح – وِفْقَ حسابات الأرض – هم محاصرون، وفقدوا كلَّ أملٍ بالنجاة والخلاص، إلَّا أنَّ حسابات السَّماء تتحرَّك بطريقةٍ أخرى، وإذا انغلقت كلُّ أبواب الأرضِ على المؤمنين، فإنَّ أبوابَ السَّماء لا تغلق…
• ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ (الشعراء/ 62): وهكذا انشَّق البحرُ، وظهر فيه اثنا عشر طريقًا… واقتحم موسى وأصحابُه هذه الطرق، وخرجوا من الضِّفة الأخرى ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْر…﴾. (الأعراف/ 138)
• ﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا…﴾ (يونس/ 90)
هنا وجد فِرعونُ وجنودُه الطرق أمامهم مفتوحة، فاقتحموها إصرارًا منهم على البغي والعدوان…
فلمّا دخل آخرُهم البحر، وهَمَّ أوّلُهم أنْ يخرجَ انطبق الماءُ عليهم..
• ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ…﴾ (يونس/ 90): أيّ أدرك فِرعونَ الطاغية الغرقُ، وأيقن بالهلاك..
• ﴿قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾. (يونس/ 90)
أين قوله: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي…﴾. (القصص/ 38)
أين قوله: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾. (النازعات/ 24)
وهكذا كلّ طغاة الأرض يستسلمون مقهورين مغلوبين لإرادة الله… ويتجلَّى أمامهم تاريخ من الظلم والبغي والبطش، والقتل، وسفك الدماء، وهتك الحرمات…
ولكن بعد فوات الأوان…
• ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾. (يونس/ 91)
الآن تقول يا فرعون: آمنتُ، وتبتُ، وأسلمتُ، في وقت لا تملك أيَّ قدرةٍ أو سُلطةٍ أو اختيارٍ…
يوم كنتَ تملكُ أدواتِ القُدرةِ والسلطة والاختيار كُنتَ تبطشُ، وتقتلُ، وتظلمُ، وتتفرعن، وتقول: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾. (النازعات/ 24)
أمّا الآن وقد وقعت في قبضةِ الانتقام الإلهي، فلا ينفعك توبة وإيمان وإسلام…
الآن أنت عِبْرةٌ لكلِّ طواغيت الأرض.
﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً…﴾. (يونس/ 92)
ربّما لا يقرأ الطواغيت الكتبَ المنزلة من الله، وربّما لا يقرأون التاريخ، إلَّا أنَّ بقاء بدنك سوف يكون مُذكِّرًا وآيةً وعبرةً، يقال أنَّ جسد فِرعونَ لا زال موجودًا محنَّطًا في المتاحف الأثرية المصرية…
نعم ما حدث لفِرعونَ عبرةٌ ودرسٌ لكلِّ طُغاةِ الأرض.. واستمرت العِبرةُ والدروسُ الإلهيَّة وبأساليب متعدِّدة ومتنوعة…


إنَّ ذاكرةَ هذا العصرِ مشحونةٌ بأمثلةٍ صارخةٍ مِن العبر والدروس، حكَّام ورؤساء في حجم شاه إيران، وصدَّام العراق، وابن عليّ تونس، ومبارك مصر، وقذافي ليبيا قد واجهوا الانتقام الإلهي، وسقطوا صرعى الظلم والجور والطغيان فهل مِن مُعتَبر؟


عاقبةُ الظُّلْمِ وخيمةٌ وخيمةٌ، في الدنيا قبل الآخرة..
جاء في الكلمات عن المعصومين:
• «مَنْ عمل بالجور عجّل الله هلكه [هلاكه]».
• «مَنْ جار أهلكه جورُه».
• «مَنْ ظلم قُصِمَ عُمرهُ».
• «ليس أدعى إلى تغييرِ نعمةِ الله وتعجيلِ نقمته من إقامةٍ على ظلم، فإنّ الله سميعُ دعوةِ المضطَّهدين (المظلومين) وهو للظالمين بالمرصاد».
ومِنْ أفحشِ أنواعِ الظُلمِ أن يُظلم شعبٌ، أن تُصادر حقوقُه، أن تُنتهك حرمته، أن يُعتدى على كرامتهِ، أن تُسلب حرِّيتُه، أن تقهرَ إرادتُه، أن يُسجنَ، أن يُعذَّبَ، أن يُقمعَ، أن يُبطش به، أن يُقتلَ…
وما أقبح أن يعدَّ الظالمون جورهم عدلًا، في الكلمة عن أمير المؤمنين عليه السَّلام:
«أجورُ النَّاسِ مَنْ عدَّ جورَه عَدْلًا منه».
إنَّ الأنظمةَ السِّياسية الحاكمة الأسوءَ ظلمًا، وجورًا، وبطشًا، لا تعترف بظلمها، وجورها، وبطشها، بل ترى أنّ ما تمارسه هو العدل والإنصاف…
ربّما ترتفع الكلماتُ الصادقةُ الناصحةُ لهذه الأنظمة، إلَّا أنَّ أذانَ السَّاسِة مؤصدة، صمَّاء:
• ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ﴾. (السجدة/ 22)
• ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾. (الكهف/ 57)
ربَّما يُمهلُ الله الظالمين بعضَ الوقت إلَّا أنَّه تعالى لا يُهملهم، وهو لهم بالمرصاد.


في الحديث عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله: «إنَّ الله يُمهلُ الظالمَ حتَّى يقولَ قد أهملني ثُمَّ يأخذُه أخذةً رابيةً، إنَّ الله حمَدَ نفسَهُ عند هلالِ الظالمين فقال: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام/ 45)».


ومهما طال يومُ الظلمِ على المظلومين، فإنَّ «يومَ العدلِ على الظالمِ أشدُّ مِن يومِ الجورِ على المظلوم» كما في الكلمةِ عن أمير المؤمنين عليه السَّلام.
وفي كلمة أخرى:
«يوم المظلومِ على الظالم أشدُّ من يومِ الظالم على المظلوم».
فهل يتَّعظُ الحكَّامُ؟
فنهج العدل أسلم وأبقى، وأنجى..
ومصالحة الشعوب أنفع، وأصلح…
قبل أن يأتي يومٌ «بعَضُّ الظالم على يديه».
حينما يتفجَّر غضب المظلومين، ويكون النصر للمقهورين…


في خَطِّ الوَلاءِ لأمير المؤمنين:
خطُ الولاءِ لأمير المؤمنين عليه السَّلام يرتكز على مجموعة أسس أهمّها:
• الأساس الأول:
أن يبدأ هذا الولاءُ (وعيًا في العقل)…
• الأساس الثاني:
أن يتجذَّر (حبًّا في القلب)…
• الأساس الثالث:
أن يترسَّمَ (التزامًا في السلوك)…
• الأساس الرابع:
أن يرتقي ليكون (جهادًا وشهادة)…
لنا وقفة مع الأساس الرابع مِن خلال نماذج جسَّدوا الولاء جهادًا وشهادة:
(1) ميثم التمَّار:
قال له أمير المؤمنين: كيف بك إذا دعاك بنو أميَّة للبراءة منِّي؟
ميثم: لا واللهِ لا أبرأ منك.
قال أمير المؤمنين: إذن والله يقتلونك ويصلبونك..
ميثم: أصبر فذلك في الله قليل..
وكان ينتظر ذلك اليوم بلهفةٍ وشوق، وجاء ذلك اليوم وأحضروه وطلبوا منه البراءة من عليّ (ع) فرفض بكلِّ شموخٍ وصمود..
فأمروا أن تقطع يداه ورجلاه ويُصلب… ولما صُلب على جذع نخلةٍ تجمهر النَّاس لرؤيته، فأخذ يصرخ، متحدِّثًا بفضائل أمير المؤمنين وهو مصلوب…
حاولوا إسكاته، ولكنَّه ظل يواصل جهاده، فطعنوه بحربة..
(2)  قنبر مولى أمير المؤمنين…
أصبح الحجَّاج ذات يوم فقال لجلاوزته: أحبّ أن أصيب رجلًا من أصحاب أبي تراب.
فقالوا: ما نعلم أحدًا أطول صحبة له مِن مولاه قنبر…
فبعث في طلبه وقال له: أنت قنبر؟ قال: نعم.
قال الحجّاج: ابرأ من دين عليّ.
فقال قنبر: هل تدلّني على دينٍ أفضل من دينه؟
قال الحجّاج: إنِّي قاتلك، فاختر أيَّ قتلةٍ أحبُّ إليك.
فقال قنبر: أخبرني أمير المؤمنين أنَّ ميتتي تكون ذبحًا بغير حقٍّ فأمر به فذُبح كما تذبح الشاة.
(3)  دعبل الخزاعي الشاعر الجريئ كان يقول كلمته المشهورة:
«أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة لست أجد مَنْ يصلبني عليها».
(4) ابن السكِّيت معلم أولاد المتوكِّل…
بلغ المتوكل أنَّ ابن السكِّيت يتشيَّع لعليّ بن أبي طالب…
أحضره وسأله: أيّهما أحبّ إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين ابنا عليّ بن أبي طالب؟
فأجاب بكلِّ جرأةٍ وصلابة: والله إنّ شسع نعل قنبر خادم الحسن والحسين أحبُّ إليَّ منك ومِن ابنيك هذين…
فأمر به بقتله…

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى