حديث الجمعةشهر رجبملف شهر رجب

حديث الجمعة 254: المعصية من أخطر المدمِّرات للرَّوحانيَّة – مناسبتان كبيرتان.. ما أحوج الوطن لهما- كلمةٌ حول لجنة تقصِّي الحقائق

بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصَّلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الهداة الميامين وبعد… فهذه بعضُ عناوين:


المعصية من أخطر المدمِّرات للرَّوحانيَّة:
في سياق الحديث عن الأمور التي تقتل الرَّوحانيّة نضع (المعصية) كأخطر مدمِّرٍ لهذه الرَّوحانيّة…
نتناول جانبًا من آثار المعاصي والذُّنوب:
أولًا: آثار المعاصي والذُّنوب في الدنيا:
(1) هتك السّتر عن الإنسان:
من أعظم نعم الله سبحانه على عباده أنَّه يستر عليهم، ولا يفضحهم حينما يرتكبون المعاصي في الخفاء.


• في كلامٍ لأمير المؤمنين عليه السَّلام:
«تعالى مِنْ قَوِيٍّ ما أكرَمَه، وتَواضَعْتَ مِن ضَعيفٍ ما أجرَأك على معصيته، وأنت في كَنَفِ سِترِهِ مُقيمٌ، وفي سَعةِ فضلهِ متقلِّبٌ، فلم يمنعك فضله، ولم يهتك عنك ستره، بل لم تَخلُ مِن لطفه مَطْرِفَ عينٍ في نعمةٍ يُحدِثُها لك، أو سيِّئةٍ يسترها عليه، أو بليَّةٍ يصرفها عنك، فما ظنُّك به لو أطعتَه». [1]
• في بعض المرويَّات: «أنّه لحق بني إسرائيل قحط على عهد موسى عليه السّلام، [فطلبوا من موسى عليه السَّلام أن يستسقي لهم]، فخرجوا إلى الصحراء وكانوا سبعين ألفًا أو يزيدون، فدعا موسى (ع) وسأل الله أن يسقيهم الغيث فما زادت السَّماء إلّا تقشُّعًا…
فقال موسى (ع): إن كان قد خَلُقَ جاهي عندك [بمعنى بلي] فأسألك بجاه النَّبيّ الأميّ محمدٍ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) الذي تبعثه في آخر الزَّمان…
فأوحى الله إليه: ما خَلُقَ جاهُك عندي، ولكن فيكم عبدٌ يبارزني منذ أربعين سنة بالمعاصي، فنادِ في النّاسِ حتى يخرج من بين أظهركم فبِهِ منعتُكم…
[فنادى موسى (ع)]: يا أيّها العبد العاصي الذي يبارز الله منذ أربعين سنة، اخرج من بين أظهرنا فبِكَ مُنِعنا المطر…
فنظر ذلك العبد العاصي ذات اليمين وذات الشمال، فلم يرَ أحدًا خرج فعلم أنّه المطلوب…
فقال في نفسه: إن أنا خرجت مِن بين هذا الخلق افتضحت على رؤوس بني إسرائيل، وإن قعدت مُنِعوا من أجلي…
فأدخل رأسه في ثيابه نادمًا على ما فِعاله وقال: إلهي وسيدي عصيتك أربعين سنة وأمهلتني، وقد أتيتك طائعًا فاقبلني فلم يستتم الكلام حتى ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرت كأفواه القِرَب…
فقال موسى (ع): إلهي وسيدي بماذا سقيتنا، وما خرج من بين أظهرنا أحد؟
فقال: يا موسى سقيتكم بالذي به منعتكم.
فقال موسى (ع): إلهي أرني هذا العبد الطَّائِع.
فقال: يا موسى إنِّي لم أفضحه وهو يعصيني، أأفضحه وهو يطيعني… [2]
[لا شكّ أنَّ مثل هذه المرويات أغلبها مرسلات غير أنَّها تحمل عبرة وموعظة]
إلَّا أنَّ ما ورد في مصادرنا الحديثيَّة الكثير من الروايات التي تؤكِّد (ستر الله على عباده) وكذلك ما جاء في الأدعية المأثورة، اقرأوا دعاء الإمام زين العابدين (ع) – دعاء الواحد والأربعين من أدعية الصحيفة السجادية في طلب السِّتر والوقاية – وأدعية أخرى كثيرة أكَّدت على لطف الله بعباده وستره عليهم…
إلَّا أنَّ هذا الستر الإلهي، يُنتَهك حينما يُصِرُّ العبدُ على مجاهرة الله بالمعاصي والذنوب…
• جاء في دعاء كميل:
«اللهمَّ اغفر ليَ الذنوب التي تهتك العِصَم».
تهتك العِصَم: تفضح السِّتر.
وحسب ما ورد في الرِّوايات أنَّ من الذنوب التي تهتك العِصَم:
‌أ- شرب الخمر.
‌ب-  الغِيبَة.
‌ج- القمار.
‌د- السّخرية.
وأختم حديثي بكلامٍ لرسول الله صلّى الله عليه وآله حول أستار الله على عباده [ونحن نعيش ذكرى مبعثه الشريف]
• قال صلّى الله عليه وآله:
«للمؤمن اثنان وسبعون سترًا…
فإذا أذنب ذنبًا انهتَك عنه سترٌ، فإذا تاب ردَّه الله إليه، وسبعةً معه…
فإن أبى إلّا قُدمًا قُدمًا على المعاصي تهتك عنه أستاره، فإن تاب ردّها الله إليه، ومع كلِّ سترٍ منها سبعة أستار.
وأوحى الله تعالى إلى ملائكته أن استروا على عبدي بأجنحتكم فإنَّ بني آدم يعيِّرون ولا يغيِّرون، وأنا أغيِّر ولا أعيِّر..
فإن أبَى إلَّا قُدمًا قُدمًا في المعاصي شكت الملائكة إلى ربِّها ورفعت أجنحتها، يا ربِّ إنَّ عبدك هذا قد أقدمنا ممَّا يأتي مِن الفواحش ما ظهر منها وما بطن…
فيقول الله تعالى: كفُّوا أجنحتكم فلو عمل بخطيئةٍ في سواد الليل أو في ضَوء النهار أو في مغارة أو في قعر بحرٍ لأجراها الله على ألسنة النَّاس، فسلوا الله أن لا يهتك أستاركم…». [3]
نتابع الحديث حول آثار الذنوب في الجمعة القادمة – إن شاء الله تعالى – .


مناسبتان كبيرتان.. ما أحوج الوطن لهما:
السابع والعشرون من شهر رجب يوم الإسراء والمعراج وفق الرؤية السّنية…
والسابع والعشرون من شهر رجب يوم المبعث النبوي وفق الرؤية الشيعية…
مناسبتان كبيرتان عظيمتان عند المسلمين جميعًا…
فكم نأمل أن يكون لهما على وطننا الحبيب البحرين، أعظم الأثر والعطاء، حيث يعيش هذا الوطن أعقد الأزمات في وضع راهن أنتج الكثير من العناء والتعب والقلق والتوتّر.
فكلّنا ضراعة إلى الباري تعالى أن يمنح هذا البلد كلّ الخير والهناء ببركة هاتين المناسبتين العزيزتين على كلّ القلوب والنفوس…


ما نتمنَّاه ونحن نعيش الضَّراعة الخاشعة إليه تعالى:
أولًا:
أن تكون هاتان المناسبتان الكريمتان منطلقًا لترميم وإصلاح كلّ التصدّعات التي أحدثتها الأوضاع الراهنة في داخل القلوب…
فهل يقوى نداءُ الإسراءِ والمعراجِ، ونداء المبعث النبوي أن يعالجا ما حدث في داخل النفوسِ من تشاحنٍ وتباغضٍ وتنافرٍ، ليعود الصَّفاء والإخاء والتآلف بين أبناء هذا الوطن مهما اختلفت الرُّؤى والمواقف؟
هل يقوى نداءُ الإسراءِ والمعراجِ، ونداء المبعث النبوي أن يؤسِّسا لخطاب المحبَّة والألفة والثِّقة بدلًا من خطاب الكراهية والنفرة وسوء الظَّن؟
كم نحن في حاجةٍ إلى أن نصنع واقعًا جديدًا لا تسكنه صرخات الثَّأر والانتقام، ودعوات المواجهة والصِّدام…
فما أجملَ أن يكون خطابنا الديني والوطني خطابًا مُوحِّدًا، مُوشِّجًا، مُآلِفًا، مقارِبًا، مُلاحِمًا لا خطابًا مفرِّقًا، مباعِدًا، مشتِّتًا، مخاصِمًا…
هذا ما يريده يوم الإسراء والمعراج، وهذا ما يريده يوم المبعث النبوي، إذا كنَّا صادقين في التعاطي مع هاتين المناسبتين الكبيرتين في تاريخ هذه الأمَّة التي أكَّد الربُّ تعالى أن تكون أمَّة واحدة ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء/ 92]، وفي آيةٍ أخرى: ﴿فَاتَّقُونِ﴾ [المؤمنون/ 52].
وأن لا تكون أمَّةً متفرِّقة: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾ [آل عمران/ 103].  


ثانيًا:
أن تكون هاتان المناسبتان الكبيرتان منطلقًا لزرع الأمن والأمان في هذا الوطن، إنَّنا نطمح إلى وطنٍ لا عنف فيه، ولا قمع، ولا بطش، ولا ملاحقات، ولا تسريحات، ولا اعتقالات، ولا سجون، ولا زنزانات، ولا إعدامات…
إذا كانت مناسبة الإسراءِ والمعراجِ قد ملأت قلوب المسلمين أمنًا وأمانًا، وتصديقًا، واطمئنانًا…
وإذا كانت مناسبة البعثة النبوية قد فرشت دنيا الإنسان بالخير، والرَّحمة، والعطاء…
فما أحوج المسلمين في كلِّ عصرٍ وزمانٍ أن يستلهموا من هاتين المناسبتين ما ينتج لأوطانهم كلَّ الخير، وكلَّ الرَّحمة، وكلَّ الأمن، وكلَّ الأمان، وكلَّ الاطمئنان، وكلَّ العطاء…
نؤكِّد ونحن في هذا الوطن الصغير في أرضه وسكَّانه، والكبير في تاريخه، وقِيَمه، وإيمانه، نؤكِّد أنَّنا في حاجةٍ إلى استلهام المناسبتَين العظيمتَين بكلِّ ما تحملان من معاني الحبِّ، والأمن، والخير…


ثالثًا:
أن تكون هاتان المناسبتان الكبيرتان منطلقًا للعدل والإنصاف…
فنداء الإسراء والمعراج يصرخ فينا أن نكون العادلين المنصفين حكَّامًا ومحكومين…
ونداء المبعث الشريف يدعونا جميعًا أن نجانب كلَّ ظلمٍ، وإجحافٍ، واعتداءٍ، ومصادرةٍ للحريّات والكرامات…
لا يُنقِذُ الأوطانَ من أزماتِها، وعناءاتِها، وعذاباتِها، وإرهاقاتِها إلّا العدلُ والإنصافُ:
– أن تكونَ القوانينُ عادلةً ومنصِفة…
– أن تكونَ الأنظمةُ عادلةً ومنصِفة…
– أن تكونَ المواقعُ الحاكمةُ عادلةً ومنصِفة…
– أن تكونَ قُوى المجتمع عادلةً ومنصِفة…
– أن تكونَ الشعوبُ عادلةً ومنصِفة…
تصوَّروا وطنًا قوانينه غير عادلةٍ وغير منصِفةٍ، وأنظمتُه غير عادلةٍ وغير منصفةٍ…
ومواقعُ حكمه غير عادلةٍ وغير منصِفة…
وقواه المجتمعيّة والشعبيّة غير عادلةٍ وغير منصِفة…
هل يستقيم أمرُ هذا الوطن؟
بالطبع لن يستقيم أمرُ هذا الوطن.. ولن تستقرّ أوضاعه، وسوف تشتدُّ أزماتُه وعناءاتُه وإرهاصاتُه السّياسيّة والأمنيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة…
رابعًا:
أن تكون هاتان المناسبتان الكبيرتان منطلقًا لدفعٍ حقيقي في اتِّجاه تفاهماتٍ وحواراتٍ جادَّةٍ تبحث عن مخرجٍ واقعي لأزمات الوطن…


ولن يكونَ ذلك إلَّا من خِلالِ:
1- الاعتراف بوجودِ مُشكلٍ سياسي في حاجةٍ إلى أن يُبحث عن مخرجٍ له، وإلَّا فسوف تتيه الحوارات والتفاهمات، وسوف ترتبك الخيارات.
2-  النيَّةُ الصادقة في معالجةِ المُشكِلِ السِّياسي، وإلَّا كانت اللقاءات تخديرًا، وضياعًا للجهد والوقت.
3- اعتماد آليّاتٍ صحيحةٍ للتفاهم والحوار، مع توفير كلِّ المناخات، وأسباب النجاح، وإلَّا فالفشل هو مصير أيّ لقاءٍ، وربَّما كان الأثر مزيدًا من التعقيد ومزيدًا من التأزيم، فمن الخطر كلّ الخطر أن يبدأ الحوار فاقدًا لمكوِّنات النَّجاح…
4- اعتماد الحلول الواقعيَّة القادرة على إنقاذ الوضع وإلّا بقي المُشكلُ بكلِّ منتجاته المأزِّمة…
لن يُنقِذ الوطن إلَّا مشروعُ إصلاحٍ سياسي قادرٍ أن يعالج كلَّ الأزماتِ…
لن يُنقِذ الوطن إلَّا مشروعُ إصلاحٍ سياسي يُنصِف كلَّ البؤساء والمحرومين والمظلومين، وكلَّ أبناءِ هذا الشعب بلا تمييزٍ على أساسٍ من دينٍ ومذهبٍ أو لغةٍ أو لون…
لن يُنقِذ هذا الوطن إلَّا مشروعُ إصلاحٍ سياسي تتعاون في إنتاجِهِ، وفي إنجاحِهِ كلُّ القِوى المخلصة كلَّ الإخلاصِ لهذا الوطن ولهذا الشعب. 


 كلمةٌ حول لجنة تقصِّي الحقائق:
أن تتشكَّل لجنةٌ لتقصِّي الحقائق في أحداث البحرين الأخيرة خطوة إيجابية مُرحَبٌّ بها، إلَّا أنَّ الحكم على عملها إيجابًا أو سلبًا فأمرٌ مرهونٌ بما تتوفَّر عليه هذه اللجنة من نتائج.


فإن عبَّرت هذه النتائج عن موقفٍ مُنصفٍ ونزيهٍ وفاعلٍ وصارمٍ في كشف الحقائق بلا مُواربةٍ أو مداهنةٍ أو انحيازٍ أو مخادعةٍ أو تضليلٍ، وكذلك في ملاحقةِ ومحاسبةِ ومحاكمةِ كلّ المتسبِّبين في إلحاق الأذى والضَّررِ بأيٍّ من أبناء هذا الشعب، أو بأيِّ وضعٍ من أوضاع هذا الوطن…
إذا كان الأمر كذلك، فلا إشكال أنَّ عمل هذه اللجنة سوف يكون عملًا تاريخيًا، ومثمَّنًا كلّ التثمين في الداخل والخارج.


وأمّا إذا كانت النتائج لا تعبِّر عن إنصافٍ ونزاهةٍ وواقعيَّةٍ، ومحاسبةٍ، ومحاكمةٍ، فالموقف منها – بالطبع – سوف يكون سلبيًا ومرفوضًا ومُدانًا محليًّا ودوليًّا، وسوف يؤول الأمر إلى مزيدٍ من الإحباط والقلق والتأزُّم والاحتقان…
نسأله تعالى كلَّ الخيرِ لهذا الوطن، وكلَّ الأمنِ والاستقرار…
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.





[1] الرّيشهري: ميزان الحكمة 3/ 1347، حرف الذال، دواء الذنوب، ح6660. (ط1- 1422هـ ، دار الحديث، قم)
[2] عبد الله بن قدامه: كتاب التوّابين، ص 81، ح32 (توبة العبد العاصي). (مكتبة الشرق الجديد – بغداد)
[3] فضل الله الراوندي: النوادر، ص 97. (ط1، دار الحديث، قم)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى