المفاهيم الإسلاميةمحاضرات إسلاميةملف شهر رمضاننفحات رمضانية

نفحات رمضانية (21) ليلة القدر

هذه الكلمة للعلَّامة السَّيِّد عبد الله الغريفي، وهي الحلقة الواحدة والعشرون ضمن البرنامج اليومي (نفحات رمضانيَّة)، والذي تمَّ بثُّها في شهر رمضان المبارك 1442هـ، عبر البثِّ الافتراضيِّ في يوم الثُّلاثاء بتاريخ: (21 شهر رمضان 1442 هـ – الموافق 4 مايو 2021 م)، وقد تمَّ تفريغها من تسجيل مرئيٍّ، وتنسيقها بما يتناسب وعرضها مكتوبةً للقارئ الكريم.

ليلة القدر

أعوذ بالله السَّميع العليم من الشَّيطان الغويِّ الرَّجيم.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياء والمرسلين سيِّدنا ونبيِّنا وحبيِبنا وقائِدنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الطَّيِّبين الطَّاهرين.

نحاول أن نتناول بعض عناوين تتصل بليلة القدر، اللَّيلة العظيمة، اللَّيلة الشَّريفة، أعظم ليلة في الدُّنيا كلّ الدُّنيا.
هذه بعض عناوين تتعلق بليلة القدر، نتناولها ونحن نستقبل ليلة القدر في هذا الشَّهر الفضيل شهر رمضان العظيم.

العنوان الأوَّل: لماذا سُمِّيت ليلة القدر؟

ما هو منطلق هذه التَّسمية؟
ما هي دلالاتها؟
لماذا سُمِّيت هذه اللَّيلة ليلة القدر؟
القرآن سمَّاها ليلة القدر، الرِّوايات سمَّتها ليلة القدر، لماذا؟
هنا مجموعة أقوال، أذكر بعضًا منها:

القول الأول: أنَّ ليلة القدر مأخوذة من القدَر بمعنى القضاء

والتقدير لأنَّ الله تعالى قدَّر فيها، إنزال القرآن، أو لأنَّها الليلة التي يحكم الله فيها ويقضي بما يكون في السَّنة بأجمعها، ففي ليلة القدر تُقدَّر كلُّ القضايا: الآجال، الأعمار، الأرزاق.
•عن الإمام الرِّضا (عليه السَّلام): «…، و{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدُّخان/4)، …، وَيُقَدَّرُ فِيهَا مَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ مِنْ خَيْرٍ أوْ شَرٍّ، أوْ مَضَرَّةٍ أوْ مَنْفَعَةٍ، أوْ رِزْقٍ أوْ أجَلٍ؛ ولِذَلِك سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، …». (الحرُّ العاملي: وسائل الشِّيعة 7/173)
الآية القرآنيَّة تقول: (فيها) أي في ليلة القدر {يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}.
فالرَّاي والقول الأوَّل هو أنَّ ليلة القدر مأخوذة من القدَر بمعنى القضاء؛ لأنَّ فيها تقدَّر وتُقضى القضايا والآجال والأعمار والأرزاق، وفيها قدَّر الله أن يُنزِل كتابه الكريم.
إذن، هذا هو القول الأوَّل في منشأ التَّسمِيَّة، فقد سميت ليلة القدر من القضاء والتَّقدير.

القول الثَّاني: من القَدْر بمعنى الشَّرف وعظيم الشَّأن، من قولهم رجل لهُ قدْرٌ عِند النَّاس أي منزلة وشرف.

تقول فلان أو رجلٌ له قدْر يعني له مكانة كبيرة، ومنزلة وشرف، وعظمة عِند النَّاس.
ومنه قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ …} (الأنعام/91)
أي ما عظَّموه حقَّ تعظيمه.
فسُمِّيت هذه اللَّيلة بليلة القدر:
– لشرفها وعظم شأنها.
– أو لأنَّ للطَّاعات فيها قدرًا عظيمًا وثوابًا جزيلًا.
هي ليلة عظيمة وشريفة ومباركة، والعمل فيها عظيم ومبارك، وله شرف كبير وثواب جزيل.
– أو لأنَّه أنزل فيها كتابٌ لهُ قدْر، إلى رسولٍ ذي قدْر لأجل أمَّة ذات قدْر، على يدي ملك ذي قدْر.
إذن، سبب تسمية ليلة القدر مِن الشَّرف والعظمة، والمكانة التي تحملها هذه اللَّيلة.

القول الثَّالث: مِن القدْر بمعنى الضِّيق

•{… يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ…} (الإسراء/30)
أي يُقتِّر ويضيِّق.
•{وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ …} (الأنبياء/87)
أي لن نضيِّق عليه رزقه.
•{وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ …} (الفجر/16)
أي ضيَّق عليه رزقه.
إذن، هذه اللَّيلة تسمَّى ليلة الضِّيق، لماذا؟
لأنَّ هذه اللَّيلة تضيق بالملائكة، لنزولهم وكثرتهم في هذه اللَّيلة، فسميت ليلة القدر.
هذه مجموعة آراء، ولا مانع من أن تُجمع هذه الآراء كلُّها ويكون المقصود هو كلُّ هذه المعاني.

العنوان الثَّاني: ما معنى {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (القدر/3)؟

ما معنى {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}؟
هنا أقوال:
القول الأوَّل: قيام ليلة القدر والعمل فيها خيرٌ من قيام ألف شهر ليس فيه ليلة القدر.
وقد رُوي عن الإمام الصَّادق والإمام الباقر (عليهما السَّلام) أنَّ العمل الصَّالح في ليلة القدر خير من العمل الصَّالح في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
وقد أكَّدت الرِّوايات على فضل هذه اللَّيلة وفضل العبادة فيها.
إذن، هذا التَّفسير الأوَّل لقوله تعالى {.. خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (القدر/3) أي العبادة فيها وإحياؤها أفضل من عبادة وإحياء ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.

القول الثَّاني: قيل إنَّ الله سبحانه يتفضَّل على خلقه في هذه اللَّيلة، وينعم عليهم بما لا يفعل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.

فيوضات الله في هذه اللَّيلة تعظُم كلَّ الفيوضات، وتعظُم فيوضات ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
إذن، {.. خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (القدر/3)؛ لأنَّ الفيوضات التي فيها لا تحدث في أيِّ ليلة أخرى، ففي هذه اللَّيلة فيوضات وبركات ونفحات وألطاف إلهيَّة لا تحصل في أيّ ليلة أخرى في كلِّ الدَّهر، وفي كلِّ الدُّنيا، وفي كلِّ الزَّمن.
إذن، اختصَّت هذه اللَّيلة بالفيوضات والإشراقات الرَّبانِيَّة، والعطاءات الإلهيَّة، والتَّفضُّل الإلهي، ولذلك هي صارت خيرٌ من ألف شهر، فلا توجد ليلة أخرى فيها فيوضات، وفيها بركات، وفيها نِعم ربانيَّة كما في ليلة القدر، لذلك قيل عنها أنَّها خيرٌ من ألف شهر.

القول الثَّالث: جاء في كلمة للشَّهيد السَّيِّد محمَّد باقر الصَّدر (رضوان الله عليه) متحدِّثًا عن ليلة القدر قوله: “فشهر رمضان أو ليلة القدر على الخصوص هي التي شهدت مولد هذه الرِّسالة وهبوطها على الإنسان في الأرض متمثِّلة في القرآن الكريم، فكانت خيرًا من ألف شهر؛ لأنَّ يومًا واحدً من حياة أُمَّة رساليَّة تحمل بيدها الرِّسالة التي تنير لها الدَّرب، وتحدِّد الأهداف هو أعظم بركة، وأكثر عطاء في حياة الأُمم والشُّعوب مِن ألف شهر تعيشه أُمَّة ضائعة، لا تملك هدفًا ولا تعرف طريقًا”.

العنوان الثَّالث: في تعيين ليلة القدر

في تعيين ليلة القدر هناك آراء لعلماء المسلمين: السُّنَّة والشِّيعة

أولًا: آراء علماء أهل السُّنَّة

1- إنَّها ليلة إحدى وعشرين.
2- إنَّها ليلة ثلاث وعشرين.
3- إنَّها ليلة سبع وعشرين.
4- إنَّها في العشر الأواخر وِترًا (بدون تحديد).
5- إنَّها في شهر رمضان.
6- إنَّها في كلِّ السَّنة (دون تحديد).
هذه آراء المذاهب الإسلاميَّة الأخرى.

ثانيًا: روايات أهل البيت (عليهم السَّلام) في تحديد ليلة القدر

1- بعضها يطلق ولا يحدِّد (في شهر رمضان).
2- بعضها يحصرها في العشر الأواخر «التمسوها في العشر الأواخر».
3- بعض الرِّوايات تشير إلى أنَّها في الليالي الفرديَّة من العشر الأواخر: (21، 23، 25، 27، 29).
4- بعضها يحصرها في ثلاث ليالٍ (19، 21، 23).
•سُئل الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) عن ليلة القدر فقال: «اطلبها في تسع عشرة، وإحدى وعشرين، وثلاث وعشرين». (الحر العاملي: وسائل الشِّيعة 7/263)
5- وبعضها يحصرها في ليلتين (ليلة 21 وليلة 23).
•سُئل الإمام الباقر (عليه السَّلام) عن ليلة القدر فقال:
«في ليلتين: ليلة ثلاث وعشرين وإحدى وعشرين.
فقلت: أفرد لي إحداهما.
فقال: وما عليك أن تعمل في ليلتين هي إحداهما؟».
أنت لديك طموح كبير بأن تحظى بليلة القدر، فهل تعجز أن تحيي ليلتين؟
•وقال الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): «مَا أَيْسَرَ لَيْلَتَيْنِ فِيمَا تَطْلُبُ». (الطًّوسي: الأمالي، ص 720)
6- وأشهر الرِّوايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السَّلام) أنَّها ليلة ثلاث وعشرين.
وهي التي تُسمَّى ليلة الجُهَنِي (عبد الله بن أنيس الأنصاري)
حيث أنَّ بعض الفقهاء يستدل من خلال هذه الرِّواية على أنَّ المؤكَّد في ليلة القدر أنَّها هي ليلة ثلاث وعشرين.

لماذا سُمِّيت ليلة الجُهَني؟

الجُهَني (عبد الله بن أنيس الأنصاري)، ويبدو أنَّه يسكن خارج المدينة المنوَّرة في منطقة بعيدة عنها.
فقال لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «إنَّ مَنزِلي ناءٍ عَنِ المَدينَةِ، فَمُرني بِلَيلَةٍ أدخُلُ فيها، فَأَمَرَهُ بِلَيلَةِ ثَلاثٍ وعِشرينَ». (الصَّدوق: من لا يحضره الفقيه 2/160)
هذه الرِّواية يستدلون بها على أنَّها أفضل ليلة، وإلَّا لماذا حدَّد الرَّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) للجُهَني هذه اللَّيلة، ولماذا لم يطرح ليلة أخرى؟ فيُستدل بها على أنَّ ليلة القدر هي ليلة ثلاث وعشرين، وهذا أشهر الرِّوايات.

العنوان الرَّابع: كيف نتعاطى مع ليلة القدر

كيف نحيي ليلة القدر؟
1-يصنَّف النَّاس في تعاطيهم وتعاملهم مع ليلة القدر على ثلاثة مستويات:

المستوى الأوَّل: المحرومون من عطاءات هذه اللَّيلة (العطاءات الرَّبانيَّة)

هذه اللَّيلة لها عطاءات وفيوضات ربَّانيَّة عظيمة جدًّا جدًّا، وليس هناك فيوضات وعطاءات ربانيَّة كما هي فيوضات وعطاءات ليلة القدر، ورغم هذه العطاءات والفيوضات الرَّبانيَّة الكبيرة فإنَّ هناك طائفة من المؤمنين تُحرم من هذه الفيوضات في هذه اللَّيلة، أنا لا أتحدَّث هنا عن المنحرفين والفسقة والمبتعدين عن الإيمان، وإنَّما عن المؤمنين، فهناك طائفة تُحرم من هذه الفيوضات في هذه اللَّيلة، فهؤلاء هم المحرومون من عطاءات هذه اللَّيلة الرَّبانيَّة.
وهؤلاء يتمثَّلون في الفئات التَّالية:

الفئة الأولى: اللَّاهون العُصاة

في ليلة القدر يمارسون المعاصي.
أيُّ شقاءٍ، وأيُّ تعاسةٍ، وأيُّ انحدارٍ أن يكون في ليلة القدر والتي هي أعظم ليلة لِلتَّوبة واللُّجوء إلى الله، أن يكون هناك من يمارس المعصية في هذه الليلة، فهؤلاء أشقياء ومحرومون.
•وقد ورد في خطبة النَّبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «…، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ، …». (السَّيِّد ابن طاووس: إقبال الأعمال 1/26)
كم هو شقيٌّ بل مِن أشقى الأشقياء مَنْ يُدرك شهر رمضان ولا يُغفر له، «فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ».
•عن الرَّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، أنَّه قال: «من انسلخ من شهر رمضان ولم يُغفر له فلا غفر الله له» (ابن طاووس: إقبال الأعمال 1/454)
•وعن النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «…، من أدرك والديه ولم يؤدِّ حقَّهما فلا غفر الله له، …، من ذُكرتَ عنده فلم يصلِّ عليك فلا غفر الله له، …، ثمَّ قال: من أدرك شهر رمضان ولا يتوب فلا غفر الله له، …». (البروجردي: جامع أحاديث الشِّيعة 9/33، ب 48، ك 577)
إذن، هذه فئة من المحرومين، وهم العُصاة في ليلة القدر.

الفئة الثَّانية: الكسالى النَّائمون

مَنْ يقضي ليلة القدر في النَّوم فهو محروم من عطاءات الله في ليلة القدر، صحيح النَّوم عبادة لكن ليس كعبادة الذِّكر، ولا كعبادة القرآن، ولا كعبادة الدُّعاء، ولا كعبادة الأعمال الخيريَّة في ليلة القدر.
فمحرومٌ من عطاءات الله في ليلة القدر، مَنْ يقضي ليلة القدر في نومٍ وكسلٍ.

الفئة الثَّالثة: الذين يحيون هذه اللَّيلة بالسَّهرات الاستهلاكيَّة (سهرات الولائم/ الأحاديث الفارغة)

هناك أناس يُقيمون سهرات استهلاكيَّة، فيها ثرثرات بلا معنى، وربَّما فيها محرَّمات، وربَّما فيها غِيبة، وربَّما فيها نميمة، وربَّما فيها بهتان!
هذه سهرات فاسدة، وسهرات منحرفة، وسهرات تحرم الإنسان من عطاءات الله وفيوضاته في هذه اللَّيلة.
هذه طائفة من النَّاس هم المحرومون من فيوضات ليلة القدر، هذه الطَّائفة الأولى.

المستوى الثَّاني: المغبونون

الذين لم يستثمروا هذه اللَّيلة استثمارًا رابحًا، واكتفوا بالحدَّ الأدنى من الاستثمار.
ما هو معنى (المغبون)؟
المغبون هو الذي يبيع بسعر قليل، أو يشتري بسعر كثير، كما لو خدعه النَّاس في السِّعر فباعوه بأثمان كثيرة.
فمثلًا السِّلعة بدينار وهو يشتريها بعشرة دنانير، فهذا مغبون ومخدوع، أو أنَّ السِّلعة بعشرة دنانير وهو يبيعها بدينار، فهذا مغبون ومضلَّل.
هناك أناس يتعاملون مع ليلة القدر بهذه الطَّريقة، ولذلك نسمِّيهم مغبونون؛ لأنَّهم لم يستثمروا هذه اللَّيلة استثمارًا رابحًا، واكتفوا بالحدِّ الأدنى من الاستثمار.
الله سبحانه يمنح في هذه اللَّيلة ملايين بل مليارات الحسنات، ونحن نقول: لا! ونكتفي بعشر حسنات، بمئة حسنة، بألف!
الله سبحانه يعرض علينا مليارات الحسنات ويدعونا إلى طلبها في هذه اللَّيلة، ونحن نرفض هذه المليارات من الحسنات، ونقنع بالقليل من الحسنات!
أليس مغبون من تعرض أمامه هذه المليارات من الحسنات، والتي فيها عتق من النَّار، وفيها ما فيها من الحسنات لكنَّه يقنع ويكتفي بالحدِّ الأدنى والحدِّ البسيط من الحسنات ومن الطَّاعات؟!
هؤلاء نسمِّيهم مغبونون.
ومِن هؤلاء:

النَّمط الأوَّل: الذين يمارسون أعمال هذه اللَّيلة بشكلٍ فاترٍ لا حرارة فيه ولا انقطاع.

يصلُّون بعض الصَّلوات لكن بفتور، ويتلون بعض آيات من القرآن بتململ، ويقرأون أدعية بخمول، هؤلاء مغبونون مساكين، لم يُعطوا كلَّ حضورهم وكلَّ قلبهم وكلَّ مشاعرهم وكلَّ جهدهم وكلَّ طاقاتهم ولا نسبة كبيرة منها.
(صلاة فاترة / تلاوة فاترة/ دعاء فاتر)
وسيأتي الحديث عن العوامل التي تُنشِّط الاستعدادات لهذه اللَّيلة.

النَّمط الثَّاني: الذّين يمارسون أعمال هذه اللَّيلة بشكل تجزيئي ومحدود ومنكمش.
سيأتي في برنامج ليلة القدر كم هي مساحة البرنامج كبيرة وكبيرة جدًّا، لكنَّ هؤلاء يكتفون بمساحة ضيِّقة من البرنامج، فمثلًا:
أ-يكتفون بالصَّلاة فقط.
الصَّلاة لها موقعها، ولها قيمتها، ولها أهميَّتها فهي تصنع الرُّوح، وتصنع الوجدان، وتصنع كلّ حركة الإنسان – طبعًا – إذا كانت موجَّهة وواعية وهادفة.
لكنَّ هناك مساحات أخرى من أعمال ليلة القدر يتمّ إغفالها، لا مانع من الاكثار من الصَّلوات لكنَّ هناك مساحات أخرى – كما سيأتي – لها أهميَّة عظمى قد تفوق حتَّى الصَّلاة، وقد تفوق الدُّعاء، وقد تفوق تلاوة القرآن.
إذن، هذا تعاطٍ مع ليلة القدر بشكلٍ تجزيئي.

ب- يكتفون بالدُّعاء فقط.
يكتفون بقراءة الدُّعاء لفترة محدودة كساعة، أو ساعتين، أو ثلاث ساعات، ثمَّ يخلدون للنَّوم، فأين بقية المساحة من أعمال ليلة القدر؟!!

ج-يكتفون بالتِّلاوة فقط.
يكتفون بقراءة بعض آيات القرآن.
هؤلاء يحصلون من عطاءات هذه اللَّيلة الكثير، فالذين يصلُّون، والذين يدعون، والذين يتلون القرآن يحصلون على ثواب عظيم، لكن أيضًا تفوتهم ثوابات ربما أعظم في مجالات كثيرة لو جاؤوا بها في ليلة القدر لأعطتهم من الحسنات والدَّرجات ما يفوق الكثير من الصَّلوات، والكثير من الدَّعوات.
فوسائل الرِّبح في هذه اللَّيلة متعدِّدة ومتنوِّعة، وقد يفوق بعضها الصَّلوات والدَّعوات المستحبَّة، وإنْ كانت هذه الأمور مهمَّة جدًّا لتأصيل الحالة الرُّوحيَّة.
هذا هو المستوى الثَّاني من النَّاس في ليلة القدر.

المستوى الثَّالث: الرَّابحون الفائزون

هم الذين يتعاطون مع ليلة القدر تعاطٍ حقيقي.
التَّعاطي الحقيقي، مع هذه اللَّيلة للفوز بأكبر قدر ممكن من العطاء الإلهي.
كيف يتعاطون؟ سيأتي الحديث.
هؤلاء يستفيدون من كلِّ فرصة في ليلة القدر، ومن كلِّ عمل في ليلة القدر يحقِّق لهم الأرباح الكبيرة، هم يُصلُّون، وهم يدعون الله، وهم يذكرون الله، وهم يقرأون القرآن، وهم يُقدِّمون خدمات، وهم يُمارسون نشاطًا دينيًّا، وهم …، كما سيأتي في البرنامج.
هؤلاء يفهمون كيف يتعاملون مع هذه اللَّيلة بعقل تجاري مع الله، كيف العقل التِّجاري في المواسم التِّجاريَّة يخطِّط لحصول أرباح ماديَّة أكبر، تأتي مواسم تجاريَّة يخطِّط لها التَّاجر الذَّكي في أن يربح أكبر قدر ممكن من الأرباح الماديَّة.
شهر رمضان موسم تجاري مع الله، ولا موسم أعظم من هذا الموسم، ولا موسم أكبر من هذا الموسم في أرباحه، وفي عطاءاته، وفي مكاسبه.
إذن، هذا النَّمط من النَّاس يُخطِّطون، هذا الموسم الذي يستمر 29 أو 30 ليلة كيف نستفيد منه؟
ليلة القدر هذه اللَّيلة التي لها خصوصيَّة كلّ الخصوصيَّة كيف نهندس ونخطِّط ونبرمج للاستفادة منها؟
فبقدر ما يرتقي وعيي وتخطيطي لاستثمار ليلة القدر؛ أحصل على درجات عالية من الرِّبح، ومن الحسنات، ومن العطاءات، ولذلك أُسمِّي هؤلاء: الرَّابحون الفائزون.
لذلك فإنَّ التَّعاطي الحقيقي مع هذه اللَّيلة من أجل الفوز بأكبر قدر ممكن من العطاء الإلهي.

كيف نهيِّئ أنفسنا لِلتَّعاطي مع هذه اللَّيلة العظيمة؟

هنا السُّؤال المُهِمّ – وألقي الضَّوء عليه وأتابع الحديث في لقاء آخر-، السُّؤال المُهِمّ: كيف نهيِّئ أنفسنا لِلتَّعاطي مع هذه اللَّيلة العظيمة؟
إنَّني قبل أن أدخل ليلة القدر لا بدَّ أن أستعد، فما هي الاستعدادات؟ وما هي التَّهيئات المطلوبة حتى أستطيع أن أكون من الفائزين الرَّابحين في ليلة القدر؟
للحصول على أكبر قدر من الأرباح والمكاسب لا بدَّ من التَّهيئة لهذه اللَّيلة.
نحن في مواسمنا التِّجاريَّة الماديَّة نخطِّط لأشهر من أجل موسم تجاري قادم مدَّته قد لا تتجاوز الأسبوع، فنخطِّط كيف نستطيع أن نحقِّق أرباحًا أكبر في هذا الموسم التِّجاري الماديّ.
وعندنا موسم من أربح المواسم، وعندنا ليلة من أعظم اللَّيالي أرباحًا وعطاءات وفيوضات ربانيَّة، ألا يستحق ذلك أن أجلس جلسة أخطِّط فيها كيف أستفيد من هذه اللَّيلة؟
كيف أستثمر هذه اللَّيلة؟
كيف أحقق أرباحًا أكبر في هذه اللَّيلة؟
هذه اللَّيلة قد لا تمر عليَّ مرَّة أخرى، ومَن يقول أنَّني سأدرك ليلة القدر في السَّنة القادمة؟
الأعمار بيد الله، فربَّما تكون هذه آخر فرصة عندي، أما يستحق ذلك أن أجلس جلسة بل جلسات طويلة أُخطّط فيها كيف أعيش ليلة القدر؟
كيف أحيي ليلة القدر إحياءً رابحًا؟
كيف أحيي ليلة القدر إحياءً يُحقِّق أكبر مكاسب؟
الله فتح لنا أبواب السَّماء في هذه اللَّيلة، ألا نستمطر رحمة الله؟
ألا نستمطر لطف الله، كرم الله، عطاء الله؟
فكلُّ ذلك مفتوح في ليلة القدر.
إذن، هذه اللَّيلة تحتاج إلى جلسات وجلسات نخطّط من خلالها لإحياء هذه اللَّيلة.
كيف نخطِّط؟ كيف نحيي هذه اللَّيلة؟ ما هي الاستعدادات لهذه اللَّيلة؟
هذا ما يأتي الحديث عنه – إن شاء الله تعالى – في كلمة قادمة.

وآخر دعوانا أن الحمد للهِ ربِّ العالمين.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى