حديث الجمعةشهر ذي القعدة

حديث الجمعة 549: أخلاقيَّات حجَّاج بيت الله الحرام

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الهُداةِ الميامين وبعد.

أخلاقيَّات حجَّاج بيت الله الحرام

فقد جاء في الحديث عن الإمام الرّضا (عليه السَّلام):
«… علَّة الحجِّ الوفادةُ إلى الله تعالى وطلب الزيادة، والخروج من كلِّ ما اقترف، وليكون تائبًا ممَّا مضى، مستأنفًا لما يستقبل، …». (علل الشرائع 2/ 94، الشيخ الصَّدوق، ح5)
أكثر الحجَّاج يركِّزون اهتمامهم فقط على الجانب الفقهي.

ولا شكَّ أنَّ الضَّبط الفقهي في غاية الأهميَّة، فأيُّ خللٍ في هذا الضَّبط ربَّما أدَّى إلى فساد الحجِّ،
أو يترتَّب عليه بعض الكفارات.

من هنا تكون الحاجة إلى مرشدين مؤهَّلين فقهيًّا بدرجةٍ عاليةٍ، وإلَّا توَّرط الحجَّاج في أخطاء قد تبطل حجَّهم.

ومسؤوليَّة الحوزات العلميَّة إعداد (كفاءات إرشاديَّة مؤهَّلة)، ومن الضَّرورة أنْ لا يسمح لأحد بممارسة (الإرشاد للحجِّ) إلَّا إذا مرَّ بدوراتِ إعدادٍ كافية، ومرَّ بامتحانات تكشف استعداداته لممارسة هذه المهمَّة الخطيرة.

أقول رغم القيمة الكبيرة جدًّا للجانب الفقهي.
فيجب الاهتمام جدًا بالمضامين الأخرى للحج:

1-المضامين الفكريَّة والثقافيَّة
2-المضامين الرُّوحيَّة
3-المضامين الأخلاقيَّة
4-المضامين السُّلوكيَّة
5-المضامين الاجتماعيَّة.

فكما تقدَّم مطلوب أنْ يتوفَّر المرشدون للحجِّ على كفاءاتٍ فقهيَّة.

فكذلك مطلوب جدًّا أنْ يتوفَّر المرشدون على كفاءاتٍ فكريَّة، وثقافيَّة، وروحيَّة، وأخلاقيَّة، وسلوكيَّة، وقدرات تبليغيَّة وإرشاديَّة.

فمن أجل إنتاج حجٍّ ربَّانيِّ مطلوبٌ أنْ يكون هذا الحجُّ حجًّا صحيحًا متوفِّرا على الشُّروط الفقهيَّة.

ومطلوبٌ أنْ يكون هذا الحجُّ حجًّا واعيًا من خلال فهم المضامين الفكريَّة، والثقافيَّة، والاجتماعيَّة لهذه الفريضة الرَّبانيَّة.
ومطلوبٌ أنْ يكون هذا الحجُّ مقبولًا من خلال توفُّر المضامين الرُّوحيَّة.

•في الحديث، عن أبي جعفر – الإمام الباقر – (عليه السَّلام) قال: «ما يُعبأ بمن سلك هذا الطريق إذا لم يكن فيه ثلاث خصال:
– ورعٌ يحجزه عن معاصي الله.
– وحلمٌ يملك به غضبه.
– وحسن الصُّحبة لمن صحبه».(وسائل الشيعة (آل البيت) 12/10، الحر العاملي، ح4)

وأحاول في هذه الكلمة أن أتناول بعض (الأخلاقيَّات) التي يجب أن يتوفَّر عليها حجَّاج بيت الله:

(1)تنقية القلوب من الغشِّ والضَّغائن
وإلَّا فَقدَ الحجُّ مضمونه الرُّوحيُّ والأخلاقيُّ، ولم يكن حجًّا مقبولًا.

كلُّ العبادات تفقد قيمتَها إذا كان القلب مُلوَّثًا.
فالصَّلاة لا قيمة لها إلَّا إذا كان القلبُ نقيًا، وكذلك الصِّيام، وبقيَّة العبادات.

•في الكلمة عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام): «يا كميل ليس الشَّأن أنْ تُصلِّي وتصومَ وتتصدَّق، إنَّما الشَّأن أنْ تكون الصَّلاة فُعلتْ بقلبٍ نقيٍّ، وعملٍ عند اللهِ مرضيٍّ، وخشوع سويٍّ». (ميزان الحكمة 2/776، الريشهري، باب الخشوع في الصَّلاة)

•في خطبة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الرَّمضانيَّة: «فاسألوا الله ربَّكم بنيَّاتٍ صادقة، وقلوبٍ طاهرةٍ أنْ يوفِّقكم لصيامِهِ، وتلاوةِ كتابِهِ». (الأمالي، ص154، الصَّدوق، م20، ح4)
فعلى الحجَّاج لكي يحضوا بفيوضات هذه الرحلة الرَّبانيَّة أنْ يُنقُّوا قلوبهم من الغشِّ، ومن كلِّ التلوُّثات، وإلَّا كانوا من الخاسرين.

•قال رسول الله (صلَّى الله عليه والِهِ وسلَّم): «… مَنْ باتَ وفي قلبه غشٌ لأخيه المسلم بات في سخط الله تعالى، وأصبح كذلك وهو في سخط الله، حتى يتوب ويرجع، وإن مات كذلك مات على غير دين الإسلام». (ثواب الأعمال، ص312، الصَّدوق، باب: عقاب مجمع عقوبات الأعمال)

(2)من أخلاقيَّات الحجِّ: تصفية الخلافات
•قال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «يا أبا ذر، إيَّاك والهجران لأخيك المؤمن، فإنَّ العمل لا يُتقبَّل مع الهجران». (الأمالي، ص568، الطوسي، المجلس 19، ح1)

فلا تقبل صلاة، ولا يقبل صوم، ولا يقبل حجّ ما دام الإنسان مهاجرًا لأخيه المسلم.
قيمة الصَّلاة حينما تصنع حبًّا وتسامحًا وتآلفًا.
وقيمة الصِّيام حينما يصنع حُبًّا وتسامحًا وتآلفًا.
وقيمة التِّلاوة حينما تصنع حبًّا وتسامحًا وتآلفًا.
وقيمة الذِّكر، وقيمة الدُّعاء كذلك.
وقيمة الحجِّ حينما يصنع ذلك.

(3)من أخلاقيَّات الحجِّ: قضاء حوائج الإخوان
•عن أبان بن تغلب قال: كنت مع أبي عبد الله (عليه السَّلام) في الطَّواف، فجاء رجل من إخواني فسألني أنْ أمشي معه في حاجته، ففطن بي أبو عبد الله (عليه السَّلام) فقال: «يا أبان مَنْ هذا الرَّجل؟».
قلت: رجلٌ من مواليك، سألني أنْ أذهب معه في حاجته.
قال – عليه السَّلام -: «يا أبان اقطع طوافَك وانطلق معه في حاجته، فاقضها له».
فقلت: إنِّي لم أتمَّ طوافي!!
قال – عليه السَّلام -: «احص ما طفت، وانطلق معه في حاجته».
قلت: وإنْ كان طواف فريضة؟!
فقال (عليه السَّلام): «نعم وإن كان طواف فريضة».
إلى أنْ قال: «لقضاء حاجةِ مؤمنٍ خيرٌ من طوافٍ وطوافٍ حتى عدَّ عشر أسابيع».
فقلت له: جعلت فداك فريضة أم نافلة؟
فقال (عليه السَّلام): «يا أبان إنَّما يسأل الله العباد عن الفرائض لا عن النوافل». (وسائل الشِّيعة 13/381، الحر العاملي، باب 40،ح7)

أيُّها الأحبَّة:
كم هي عظيمة قضاء حوائج الإخوان.
قضاء حوائج الإخوان أفضل من الطَّواف حول البيت.

والطَّواف أفضل من الصَّلاة عند بيت الله.
والصَّلاة عند بيت الله تعدل (مائة ألف صلاة).
وفي بعض الرِّوايات تعدل (ألف ألف صلاة).

(4)من أخلاقيَّات الحج: خدمة حجَّاج بيت الله
•عن إسماعيل الخثعمي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السَّلام): «إنَّا إذا قدمنا مكَّة ذهب أصحابي يطوفون ويتركوني أحفظ متاعهم.
قال – عليه السَّلام -: أنت أعظمهم أجرًا». (وسائل الشِّيعة 13/ 313، الحر العاملي، باب 11، ح1)

•وعن مرازم بين حكيم قال: زاملت محمد بن مصادف، فلّما دخلنا المدينة اعتللتُ فكان يمضي إلى المسجد ويدعني وحدي.
فشكوت ذلك إلى مصادف فأخبر به أبا عبد الله (عليه السَّلام).
فأرسل إليَّ: «قعودك عنده أفضل من صلاتِك في المسجد». (وسائل الشِّيعة 13/ 313، الحر العاملي، باب 11، ح1)

(5)من أخلاقيَّات الحجِّ: إطعام الطَّعام وطيب الكلام
•سئل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): ما برُّ الحجِّ؟
فقال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «إطعام الطعام وطيب الكلام». (الحج والعمرة في الكتاب والسُّنة، ص 275، الرَّيشهري، ح 717)

(6)من أخلاقيَّات الحجِّ: التَّسامح والابتعاد عن الانفعال والغضب
•تقدَّم حديث الإمام الباقر (عليه السَّلام): «ما يُعبأ بمن سلك هذا الطريق إذا لم يكن فيه ثلاث خصال:
– ورعٌ يحجزه عن معاصي الله.
– وحلمٌ يملك به غضبه.
– وحسن الصُّحبة لمن صحبه». (وسائل الشيعة 12/10، الحر العاملي، ح4)
وقد حثَّت الرِّوايات على كفِّ الغضب.

•عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «مَنْ كفَّ غضَبه كفَّ الله عنه عذابه». (وسائل الشِّيعة 11/ 290، الحر العاملي، باب 53، ح20)

•وعنه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «رأيت ليلة أسري بي قصورًا مستوية مشرفة على الجنَّة فقلت: يا جبرئيل لمن هذا؟
فقال: للكاظمين الغيظ، والعافين عن النَّاس، والله يحبُّ المحسنين». (كنز العمال 3/376، المتَّقي الهندي، ح7016)

(7)من أخلاقيَّات الحجِّ: التعاون والتواضع
•ورد في بعض الرِّوايات أنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) إذا خرج في سفر مع بعض أصحابه كان يشاركهم العمل ويشاطرهم في القيام بمهام السفر.

(8)من أخلاقيَّات الحجِّ: الحفاظ على حرمة البقاع المقدَّسة

من خلال:
1-اجتناب المعاصي والذُّنوب:
•قال الله تعالى في شأن حرم مكة المكرمة {… وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}. (الحج/25)

وسئل الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) عن هذه الآية فقال: «كلُّ الظُّلم فيه إلحادٌ، حتَّى لو ضربتَ خادمَك ظلمًا خشيت أنْ يكون إلحادًا». (وسائل الشِّيعة 13/231، الحر العاملي، باب 16، ح1)
•وفي بعض الروايات: (أدناه الكبر)

فالحذر الحذر من أيَّة معصية في مكة أو في المدينة.

ومن المعاصي التي تنتشر في أوساط الحجَّاج والمعتمرين والزائرين:
‌أ-عدم تقيُّد بعض النِّساء بضوابط السِّتر الشَّرعي
‌ب- الاختلاط غير الملتزم
‌ج-الغِيبة
‌د-سوء الخُلق

إنَّ المعاصي تصادر روحانيَّة الحجِّ والعمرة والزِّيارة، وتمنع من قبول الأعمال.
•{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}. (المائدة/27)
•عن أمير المؤمنين (ع): «كيف يجد لذَّة العبادة مَنْ لا يصوم عن الهوى». (مستدرك الوسائل 12/115، النوري، باب 81، ح13)
•تقدَّم أنَّ الله لا يعبأ بمن قصد هذا البيت ما لم يكن يحمل (ورعًا يعصمه عن محارم الله) أو (يحجزه عن معاصي الله).

2-وللحفاظ على حرمة البقاع المقدسة يجب (التأدُّب والوقار)
مطلوب من الحجاج والمعتمرين والزائرين أنْ يكونوا على درجةٍ عاليةٍ من (التأدُّب والوقار) تعظيمًا للبيت المشرَّف وحرم النبيِّ المعظَّم (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم)

ومن مظاهر التأدُّب في هذه البقاع المشرفة الاكثار من ذكر الله، والابتعاد عن فضول الكلام.
•{… فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ …}. (البقرة/197)

الرَفَث: أصله في اللغة الإفحاش في النطق، ويراد به هنا مقاربة النِّساء.

الفُسُوق: مطلق المعاصي وقيل الكذب، وقيل التنابز بالألقاب، وقيل السُّباب.

الجدال في اللغة: المجادلة والمنازعة والمشاجرة والمخاصمة، واللجاج، وقيل المراد به هنا قول: لا والله، وبلى والله.

•وفي رواية عن الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) قال: «إذا أحرمتَ فعليك بتقوى الله وذكر الله كثيرًا، وقلَّةِ الكلام إلَّا بخير؛ فإنَّ من تمام الحجِّ والعمرة أنْ يحفظ المرء لسانَهُ إلَّا من خير، كما قال الله تعالى: {… فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ …} (البقرة/197)». (الكافي 4/338، الكليني، ح2)

(9)من أخلاقيَّات الحجِّ: إشراك الغير في الثوابِ والدُّعاء للآخرين
•في رواية عن الإمام الصّادق (عليه السَّلام): «لو أشركت ألفًا في حجَّتك، لكان لكل واحد حجَّة، من غير أنْ تنقص عن حجَّتك شيئًا». (الكافي 4/317، الكليني، ح10.)

•وجاء في الرواية عن إبراهيم بن هاشم قال: “رأيت عبد الله بن جندب – أحد ثقات الإمامين الكاظم والرِّضا (عليهما السَّلام) – في الموقف، فلم أر موقفًا كان أحسن من موقفه؛ ما زال مادًّا يديه إلى السَّماء ودموعه تسيل على خديه حتى تبلغ الأرض.
فلمَّا صدر النَّاس، قلت له: يا أبا محمد ما رأيت موقفًا قطُّ أحسن من موقفِكَ.
قال: واللهِ ما دعوتُ إلَّا لإخواني، وذلك أنَّ أبا الحسن موسى (عليه السَّلام) أخبرني: «أنَّ مَنْ دعا لأخيه بظهر الغيب، نودي من العرش ولك مائة ألف ضعف»، فكرهت أنْ أدع مائة ألف مضمونة لواحدة لا أدري تستجاب أم لا؟!”. (الكافي 4/387، الكليني، ح6.)

•وفي رواية أخرى، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام):
«من دعا لأخيه في ظهر الغيب
ناداه ملك في السَّماء الدُّنيا: يا عبد الله، ولك مائة ألف ضعف ممَّا دعوت.
وناداه ملك في السَّماء الثانية: يا عبد الله، ولك مائتا ألف ضعف ممَّا دعوت.
وناداه ملك في السَّماء الثالثة: يا عبد الله، ولك ثلاثمائة ألف ضعف ممَّا دعوت.

– وهكذا إلى أن قال -:
وناداه ملك في السَّماء السّابعة: يا عبد الله، ولك سبعمائة ألف ضعف ممَّا دعوت.
ثمَّ يناديه الله تعالى: أنا الغني الذي لا أفتقر، لك يا عبد الله [عبدي] ألف ألف
ضعف ممَّا دعوت» . (وسائل الشِّيعة 7/112، الحر العاملي، باب 42، ح5.)

أيُّها الحجيج الكرام، وخاصَّة وأنتم تقفون على أرض عرفات:
اذكروا إخوانكم من المسلمين.
اذكروا المرضى والمعلولين.
اذكروا معاناة المألومين.
اذكروا آلام المسلمين.
اذكروا المحن والمصائب التي تعصف بأوضاع هذه الأمَّة.
تقبَّل الله أعمالكم
وشكر الله سعيكم
وأرجعكم إلى أوطانكم سالمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى