حديث الجمعةشهر محرم

حديث الجمعة 445: الإمامُ زينُ العابدين (عليه السَّلام) صرخة عاشوراء – كلمة في شأن الأحوال الشَّخصيَّة

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وعلى آلِهِ الهداةِ الميامين، وبعد فمع بعض العناوين:

الإمامُ زينُ العابدين (عليه السَّلام) صرخة عاشوراء
أعطى الإمام الحسين (عليه السَّلام) دمَهُ في يوم عاشوراء؛ من أجل أنْ يبقى الإسلام، ومن أجل أنْ تتحرَّر إرادة الأمَّة، وهكذا أعطى أهلُ بيتهِ، وأصحابُه دماءَهم مُسجِّلين أروعَ ملحمةٍ في تاريخ الجهاد والشَّهادة.

وبعد عاشوراء جاء دورُ الإمامِ زينِ العابدين (عليه السَّلام)، وجاء دورُ عمَّتِه الحوراءِ زينب (عليها السَّلام) بطلةِ كربلاء، ومن خلالِ هذا الدَّورِ تجذَّر صوتُ عاشوراء، وترسَّخت رسالةُ كربلاء، ولو قُدِّر لهذا الدَّورِ أنْ يغيبَ لَمَاتَتْ أهدافُ عاشوراء، وماتَتْ رسالة كربلاء.
حديثي – هنا – عن دورة الإمامِ زين العابدين (عليه السَّلام)، وأمَّا دورُ الحوراء زينبَ (عليها السَّلام)، فله حديث آخر وإنْ كان الدَّوران متكامِلَيْن.
الإمام السَّجاد (عليه السَّلام) هو صرخةُ عاشوراء
وحينما نتحدَّث عن صرخةِ عاشوراء:
•نتحدَّث عن حُزن عاشوراء.
•ونتحدَّث عن نهج عاشوراء.
وبقدر ما يتلاحم الحزن العاشورائيُّ مع النهج العاشورائيّ تتحرَّك أهداف عاشوراء الإمام الحسين (عليه السَّلام).
الظَّاهرة البكائيَّة في حياة الإمام زين العابدين (عليه السَّلام)
هناك ثلاث رؤى حول هذه الظَّاهرة:
الرُّؤية الأولى: تؤكِّد ظاهرة البكاء بقوَّةٍ، وبالصُّورة التي تتحدَّث عنها الرِّوايات، ففاجعة عاشوراء فاجعة استثنائيَّة، وليس أمرًا مستنكرًا أنْ تستوعب هذه الظَّاهرةُ مساحةً كبيرةً من حياة الإمام زين العابدين (عليه السَّلام)، ومن اهتماماتِه، وأنْ تستنفر كلَّ أحزانِهِ، وأوجادِهِ، وأوجاعِهِ.
الرُّؤية الثَّانية: تتحفَّظ على صحَّةِ تلك المرويَّات التي تبالغ في الحديث عن ظاهرة البكاء في حياةِ الإمام زين العابدين (عليه السَّلام) وبالشَّكل الذي يكاد يستغرق كلَّ حياة الإمام، وجميع اهتماماتِه، كون هذه الصُّورة لا تنسجم مع موقع الإمام ومسؤوليَّاته، ولا تتلاءم مع صبره ورضاه بقضاء اللهِ وَقَدَرِه.
نعم، بكى الإمام ولكن ليس بالطَّريقة التي ترسمها الرِّوايات، وتتحدَّث عنها المنابر.
الرُّؤية الثَّالثة: تعطي لظاهرة البكاء حضورها البارز والكبير في حياة الإمام زين العابدين (عليه السَّلام)، ولكن ليس إلى درجة الاستغراق الَّذي يُعطِّل الاهتمامات الأخرى عند الإمام (عليه السَّلام)، ثمَّ إنَّ هذه الظَّاهرة البكائيَّة لا تعبِّر عن حالة انفعاليَّة بحتة، وإنَّما تحمل غاياتٍ رساليَّة كبرى في سياقِ التَّنشيط لأهدافِ عاشوراء، وتجذير معطياتِها في حركةِ الأجيال.
ولعلَّ هذه الرُّؤية الثَّالثة هي الأقرب إلى القناعة؛ اعتمادًا على عدَّة حيثيَّات:
الحيثيَّة الأولى: إنَّ روايات السِّيرة الصَّحيحة تؤكِّد وجود هذه الظَّاهرة في حياة الإمام زين العابدين (عليه السَّلام)، وهذا ما يفرضه حجم الفاجعة العاشورائيَّة، فالحدث بكلِّ مأساويَّته يفرض هذا المستوى من الحزن، واللَّوعة والأسى، والصَّرخة.
الحيثيَّة الثَّانيَّة: الظَّاهرة البكائيَّة في حياة الإمام زين العابدين (عليه السَّلام) رغم بروزها الكبير ما كانت تزاحم المهام والمسؤوليَّات التي تصدَّى لها الإمام (عليه السَّلام):
1- المهام والمسؤوليَّات العلميَّة والثَّقافيَّة
كان الإمام زين العابدين (عليه السَّلام) يجلس في مسجد رسول الله (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم)، يحدِّث النَّاس بشتَّى ألوان المعرفة من عقيدة، وتفسير، وفقه، وحديث، وشتَّى العلوم.
وقد تتلمذ على يديه عددٌ كبير من فقهاء المسلمين بمختلف مذاهبهم، واعترفوا له بالفضل والمكانة.
•قال فيه الزهريُّ – أحد أعلام الحديث -: “ما رأيت هاشميًّا أفضل من علي بن الحسين” (تاريخ الفقه الجعفري، الصَّفحة 204، هاشم معروف الحسني).
وقال فيه: “ما رأيت أحدًا كان أفقه منه” (محو السُّنَّة أو تدوينها، الصَّفحة 55، حسين غيب غلامي).
•وقال سعيد بن المسيب: “إنَّ القُرَّاء كانوا لا يخرجون إلى مكَّة حتَّى يخرج علي بن الحسين، فخرج وخرجنا معه ألف راكب” (بحار الأنوار46/149، العلَّامة المجلسي).
•وعدَّ الإمام الشَّافعي الإمام علي بن الحسين “أفقه أهل المدينة” (مناقب أهل البيت عليهم السَّلام، الصَّفحة 258، المولى حيدر الشيرواني).
2- دور الإمام زين العابدين (عليه السَّلام) في تحصين الأمَّة روحيًّا
جاء في كلمة للشَّهيد السَّيِّد محمَّد باقر الصَّدر (رضوان الله عنه) متحدِّثا عن الصَّحيفة السَّجَّاديَّة: “فقد استطاع هذا الإمام العظيم بما أوتي من بلاغةٍ فريدةٍ، وقدرةٍ فائقةٍ على أساليب التَّعبير العربيِّ، وذهنيَّةٍ ربَّانيَّةٍ تتفتَّق عن أروعِ المعاني وأدقِّها في تصويرِ صِلةِ الإنسان بربِّه، وَوَجْدِهِ بخالقِهِ، وتعلُّقِهِ بمبدئِهِ ومعادِهِ، وتجسيده ما يعبِّر عنه ذلك من قِيم خُلقيَّة، وحقوق، وواجبات … .
استطاع الإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام) بما أوتي من هذه المواهب أنْ ينشر من خلال الدُّعاء جوًّا روحيًّا في المجتمع الإسلاميِّ، يُساهم في تثيبتِ الإنسانِ المسلم عندما تعصفِ به المغريات، وشدِّهِ إلى ربِّهِ حينما تجرُّه الأرض إليها، وتأكيد ما نشأ عليه من قِيم روحيَّة …، وقد جاء في سيرة الإمام [زين العابدين (عليه السَّلام)] أنَّه كان يخطبُ النَّاس في كلِّ جمعةٍ، ويَعِظُهُم، ويزهِّدُهم في الدُّنيا، ويرغِّبهم في أعمال الآخرة، ويقرع أسماعَهُمْ بتلك القِطع الفنيَّة من ألوانِ الدُّعاءِ، والحمدِ، والثَّناءِ التي تمثِّل العبوديَّة المخلصة للهِ سبحانه وحدَه لا شريك له، …، وهكذا نعرف أنَّ الصَّحيفة السَّجَّاديَّة تعبِّر عن عملٍ اجتماعيٍّ عظيم كانت ضرورة المرحلة تفرضه على الإمام، إضافة إلى كونها تراثًا ربَّانيًّا فريدًا يظلُّ على مرِّ الدُّهور مصدَر عطاءٍ، ومشعلَ هدايةٍ، ومدرسةَ أخلاقٍ وتهذيب، وتظلُّ الإنسانيَّة بحاجة إلى هذا التُّراث المحمَّديِّ العلويِّ، وتزداد حاجةً كلَّما ازدادَ الشَّيطانُ إغراءً، والدُّنيا فتنة”، انتهى ما أردتُ اقتباسَهُ من كلمة الشَّهيد السَّيِّد محمَّد باقر الصدر (رضوان الله عليه).
3- الظَّاهرة البكائيَّة في حياة الإمام زين العابدين (عليه السَّلام) تحمل مجموعة دَلالات:
الدَّلالة الأولى: إنَّها تعبير وِجدانيٌّ طبيعيٌّ عن هالة الانفعال بفاجعة عاشوراء.
إنَّ فاجعةً في حجم فاجعة عاشوراء لا تملك إلَّا أنْ تحرِّك الحزن، وأنْ تحرِّك الدُّموع.
فكيف بالإمام زين العابدين (عليه السَّلام) الذي عاش كلَّ تفاصيل هذه الفاجعة، وحدثت كلُّ مشاهدها أمام ناظريه.
الدَّلالة الثَّانية: أراد الإمام زين العابدين (عليه السَّلام) أنْ يُبقي وهج المأساة في وجدان الأمَّة.
ولماذا يجب أنْ يبقى هذا الوهجُ في وجدان الأمَّة؟
مِن أجلِ أنْ تعيش الأمَّة انصهارًا، وذوبانًا، وتلاحمًا عاطفيًّا، ونفسيًّا، وروحيًّا مع قضيَّة عاشوراء.
ومِن أجلِ أنْ تنفتح الأمَّةُ ذهنيًّا، وفكريًّا على معطيات عاشوراء.
ومِن أجلِ أنْ تتعبَّأ الأمَّةُ إحساسًا بكلِّ مآسي الإنسانِ وعذاباتِهِ، الإنسانُ بكلِّ انتماءاتِهِ.
إنَّ الَّذين تربَّوا في (مدرسة الحزن العاشورائيِّ) يملكون إحساسًا عاليًا بكلِّ آلام البشريَّة، ويملكون نبضًا حيًّا تجاهِ كلِّ عذاباتِ الإنسانِ، وتجاه كلِّ عناءات المضطَّهدين، والمحرومين، والمظلومين.
فحينما نبكي الإمام الحسين (عليه السَّلام)، فنحن نبكي كلَّ مأساة في دنيا الإنسان.
الدَّلالةُ الثَّالثة: أراد الإمام زين العابدين (عليه السَّلام) من خلال هذا البكاء أنْ يستنفر في الأمَّة (روح الغضب، والرَّفض) تجاه الَّذين صنعوا (مأساة كربلاء).
وتجاه كلِّ صُنَّاع المآسي في حياة الإنسان.
قد يقال: إنَّ التَّعبِئة الاستنفارية المستمرَّة تُغذِّي لدى الجماهير روح التَّطرُّف، والعنف، والإرهاب.
الأمرُ ليس كذلك بالنِّسبة للغضب العاشورائيِّ.
إنَّه أساسًا غضبٌ ضدَّ التَّطرُّفِ، والعنفِ، والإرهاب، فمَن الَّذي أنتج مجزرة كربلاء؟
مَنْ الذي قتل الإمام الحسينَ، وأهلَ بيته، وأصحابَه؟
مَنْ الذي ذبح الطِّفل الرَّضيع من الوريد إلى الوريد؟
مَنْ الذي حرَق خيام الإمام الحسين (عليه السَّلام)؟
مَنْ الذي روَّع أطفاله؟
مَنْ الذي سَبَى نساءَه؟
أليسوا هم صُنَّاع تطرُّفٍ، وعنفٍ، وإرهاب؟
إنَّ الغضبَ العاشورائيَّ هو غضب ضدَّ أولئك الذين صنعوا أسوء تطرُّفٍ، وعنفٍ، وإرهاب في تاريخ البشريَّة.
وهو غضبٌ موجَّهٌ ضدَّ كلِّ صنَّاع التَّطرُّف، والعنف، والإرهاب في كلِّ عصرٍ، وفي كلِّ أرضٍ.
إنَّ الَّذين يتغذَّون بقِيم عاشوراء الإمام الحسين (عليه السَّلام) لا يمكن – إطلاقًا – أنْ يتحوَّلوا إلى متطرِّفين إرهابيِّين يقتلون الأبرياء، ويذبحون الأطفال، ويسرقون أمن الأوطان، ويخلقون الرُّعب في حياة الشُّعوب، وينشرون العنف في كلِّ أرضٍ وبلاد.
فتِّشوا عن التَّطرُّف في هذا العصر.
فتِّشوا عن العنف.
فتِّشوا عن الإرهاب، فلن تجدوا ذلك عند مَنْ يتمثَّل مبادئ الإمام الحسين (عليه السَّلام)، وعند مَنْ يعشق قِيم عاشوراء.
فمبادئ الإمام الحسين (عليه السَّلام)، وقِيم عاشوراء هدفُها أنْ تزرع في الأرضِ العدل، والأمن، والسَّلام، والاستقرار، والأُخوَّة، والمحبَّة، والتَّسامح.
هكذا علَّمنا الإمام الحسينُ (عليه السَّلام)، وهكذا علَّمتنا عاشوراء.
وإذا انحرفنا عن هذا النَّهج، فقد انحرفنا عن نهج الإمام الحسين (عليه السَّلام)، وعن نهج عاشوراء.
إنَّ مدرسة الإمام الحسين (عليه السَّلام)، ومدرسة عاشوراء علَّمتنا أنْ نغضب دفاعًا عن الحقِّ، العَدْل، الكرامة، العزَّة، الأمن، المحبَّة، التَّسامح، الأُخوَّة، الوحدة، التَّآلف، النَّزاهة، الأمانة، الفضيلة، الشَّرف، العفَّة، الطُّهر، وكلِّ القِيم والمُثُل التي تكرِّس الخير في الأرض.
موسمُ عاشوراءَ يحتضنُ الجميع
وكيف لا يحتضنُ هذا الموسم كلَّ الطَّوائفِ، والمذاهبِ، والمكوِّناتِ وهو موسمٌ أنتجتهُ نهضةُ الإمام الحسين (عليه السَّلام)، فيما تحمله هذه النَّهضةُ من أهداف الإسلام، وأهدافِ كلِّ الرِّسالات، وأهداف الإنسانيَّة.
يَظْلِمُ هذا الموسمَ مَنْ ينغلقُ به على طائفةٍ، أو مذهبٍ، أو مكوَّنٍ.
ويَظْلِمُ هذا الموسمَ مَنْ يحاصرُهُ في داخل طائفةٍ، أو مذهبٍ، أو مكوِّنٍ.
ويَظْلِمُ هذا الموسمَ مَنْ لا يريدُ له أنْ ينفتح على كلِّ الطَّوائفِ، والمذاهبِ، والمكوِّناتِ.
هؤلاءِ الَّذينَ انغلقوا بهذا الموسم، وهؤلاءِ الَّذينَ حاصروه، وهؤلاءِ الَّذينَ لا يريدون له الانفتاح… هؤلاء جميعًا لم يفهموا عاشوراء، أو أساءوا فهمَ عاشوراء، أو أرادوا أنْ يصادروا حضورَ عاشوراء.
الحسينُ هو سبطُ رسولِ اللهِ (صلَّى اللهِ عليه وآلِهِ وسلَّم).
الحسينُ هو ريحانةُ الصِّدِّيقةِ فاطمة الزّهراء (عليها السَّلام).
الحسينُ هو أحدُ سيِّدَي شبابِ أهلِ الجنَّة.
الحسينُ هو الشَّهيدُ المظلوم، الَّذين صنعوا فيه ما صنعوا، وصنعوا في أهل بيتهِ وأصحابه، وصنعوا في أطفالِهِ، وعيالِهِ، وحريمِهِ ما صنعوا!
فإذا اتَّفقنا على الحسين (عليه السَّلام).
وإذا اتَّفقنا على فاجعةِ الحسين (عليه السَّلام).
وإذا اتَّفقنا على أهدافِ الحسين (عليه السَّلام)، فـ:
لماذا لا يجمعنا الحسين (عليه السَّلام)؟!
ولماذا لا يحتضننا الحسين (عليه السَّلام)؟!
ولماذا لا يوحِّدنا الحسين (عليه السَّلام)؟!
إذا كان الآخرون يرفضون بعض ممارسات عاشوراء، فنحن كذلك نرفضُ بعضَ الممارسات.
ولكنَّنا جميعًا نتَّفق على:
إحياء قضيَّة الإمام الحسين (عليه السَّلام).
وعلى إقامةِ مجالس الإمام الحسين (عليه السَّلام).
بالطَّريقة التي تنسجم مع أهداف الإمام الحسين (عليه السَّلام).
وهنا يُحقُّ لنا نسجِّلُ ألمًا، وانزعاجًا حينما نسمعُ أحدًا في هذا الوطنِ الذي احتضن عاشوراء –دولة،ً وشعبًا – ومنذ قرونٍ طويلة، حينما نسمع هذا يضيق بمشاركةِ مكوِّنٍ دينيٍّ، أو مذهبيٍّ، أو سياسيٍّ، أو ثقافيٍّ، أو اجتماعيٍّ في موسم عاشوراء.
المطلوبُ أنْ تثمَّن هذه المشاركاتُ؛ كونها تسيِّج التَّلاحم بين مكوِّناتِ هذا الوطن.
إنَّنا ننتظر أنْ يشارك في هذا الموسم مسؤولون ورموز سياسيَّةٌ، وثقافيَّةٌ، وعلماء ينتمون إلى أديان، وطوائف، ومذاهب.
إنَّنا جميعًا في هذا الوطن مطالبون أنْ نستثمر هذا الموسم في إنتاج (مشروعات التَّفاهم، والتَّلاحم، والمحبَّة، والتَّسامح).
إذا أصبح عاشوراء للجميع، فسوف تتجذَّر القِيم الكبرى التي تتجاوز المساحاتِ المذهبيَّة الضَّيِّقة، وسوف يرتقي خطابُ هذا الموسم؛ ليكون خطابَ وحدةٍ وتآلفٍ، وخطابَ محبَّةٍ وتسامح، وخطابَ أمنٍ وسلام، وخطابًا يحملُ همومَ وطنٍ، وهمومَ شعب، وهمومَ أمَّة.
وكلَّما كانت المفاصلةُ تجذَّرت المعطياتُ المذهبيَّة، وغابت قِيم الوحدة والتَّقارب، ونشطت نزعات التَّشطُّر والانقسام، وتنفَّستْ لغة الخصومة والعداء.
نريد لعاشوراء أنْ تكون الحاضرة في كلِّ الأوساط.
كما نريد لكلِّ الأوساط أنْ تكون حاضرة في موسم عاشوراء.

كلمة في شأن الأحوال الشَّخصيَّة
حينما يكون لنا موقفٌ في شأن (التَّقنين الوضعيِّ لأحكام الأسرة)، فلسنا مشاكِسِين، ولا دعاة فوضى، وانفلاتٍ!
ولسنا ضدَّ مصالح المرأة، والأسرة كما تحاول أنْ تُسوِّقَ ذلك بعضُ كلماتٍ!
وإنَّما هي الخشيةُ كلُّ الخشيةِ أنْ تُخترق شريعة الله تعالى!
وإنَّما هي الحراسةُ لأعراضِ النَّاس.
وإنَّما هي المحافظة على خصوصيَّة المذاهب.
وهذه ليست مجرَّد (هواجسِ واهمة)؛ فها هي تجارب دول أخرى تمَّ فيها (التَّقنين الوضعيُّ) لأحكام الأسرة، متضمِّنًا مخالفاتٍ صارخةً لنصوص الشَّريعة، – وربما أتعرض في حديث آخر إلى هذه المخالفات -.
قد يقال: لماذا كلُّ هذا التَّخوُّف، ودستور دولتنا ينصُّ على أنَّ (دين الدَّولة الإسلام)، و(أنَّ الشَّريعة مصدر رئيسي للتَّشريع)؟!
ثمَّ إنْ مَنْ سوف يشرف على كتابة هذا القانون هم متخصِّصون في الشَّريعة، حسب رؤى هذا المذهب، أو ذاك؟!!
لنا ملاحظات كبيرة على هذا الكلام لا أجد ضرورة أنْ أذكرها في هذه العجالة، وإذا اقتضت الضَّرورة أنْ نذكرها، فسوف يكون ذلك.
ونحن لا نرفض أيَّ حوار جادٍّ وحقيقيٍّ حول هذه القضايا بعيدًا عن المزايدات الإعلاميَّة، وعن لغةِ الاستفزاز، والطَّعن، والاتِّهام، والمشاكسات.
قلنا، ولا زلنا نقول: بأنَّنا نوافق على التَّقنين لأحكام الأسرة في ظلِّ الضَّمانات التَّالية:
الضَّمانة الأولى: مرجعيَّة الشَّريعة الإسلاميَّة.
الضَّمانة الثَّانية: إشراف، ومصادقة فقهاء مُعْتَمَدِين.
الضَّمانة الثَّالثة: ضمانة دستوريَّة غير قابلة للتَّعديل تؤكِّد على الأَمْرَين الأوَّل والثَّاني.
أمَّا إذا كانت المادَّة الدُّستوريَّة قابلة للتَّعديل، أو كانت جزءًا من القانون نفسه، فهي لا تشكِّل ضمانة.
وأكرِّر – هنا – ضرورة أنْ يعالج هذا الشَّأن بلغةِ الحوار مع أصحاب الفقه والشَّرع.
وإنَّ أيَّ فَرْض لقانون الأسرة يتجاوز قناعة أصحاب الرَّأي الشَّرعيِّ من أتباع هذا المذهب (الحديث عن أحكام الأسرة – الشِّقُّ الجعفريُّ) سوف ينتج تعقيداتٍ صعبةً، نتمنى أنْ لا يُزجَّ هذا الوطن في منزلقاتِها، خاصَّة وهو يمرُّ بأزماتٍ، وأملنا الكبير أنْ يجتازها بأمنٍ وسلام، وهذا يفرض أنْ تتلاحم كلُّ المكوِّنات، والطَّوائف، والمذاهب.
وإنَّ زجَّ البلاد في تجاذبات أمرٌ في غاية الخطورة، وخاصَّة حينما يكون الأمر يلامس الشَّأن المذهبيَّ، وتشتدُّ الحساسيَّةُ إذا كانت المسألةُ مسألة أعراضٍ، وأنسابٍ، ومواريث كما هو موضوع (الأحوال الشَّخصيَّة).
ومهما كانت المبرِّرات، فمعالجة هذا الشَّأنِ في حاجةٍ إلى درجةٍ عاليةٍ من الحِكمةِ، والرَّوِيَّةِ؛ خشيةَ أنْ تحدث تداعياتٌ ضارَّةٌ بأوضاعِ هذا الوطن.
قد يُقال: أَلا تفرض معاناةُ المرأة بسبب غياب (قانون الأسرة) ضرورة التَّعجيل بإصدار هذا القانون؟
أترك الإجابة عن هذا التَّساؤل إلى حديثٍ قادمٍ – إنْ شاء الله تعالى -، وكذلك الإجابة عن بعض المقولات الأخرى.
كما أترك للآخرين حقَّ النَّقد والمحاسبة إذا كانت اللُّغةُ لغةَ نقدٍ ومحاسبةٍ، وليست لغةَ قذفٍ وسبٍّ، وإثاراتِ منفعلةٍ، ولا لغة استفزاز، وترهيبِ، وتخوين.
إذا كان من حقِّ المطالِبِين بإخضاع الشَّأن الأسريِّ في أحكامه الشَّرعيَّة إلى المؤسَّسة الوضعيَّة أنْ يقولوا الكلمة، وأنْ يدافعوا عن ذلك، فلماذا لا يحقُّ للرَّافضين، أو المتحفِّظين أنْ يقولوا الكلمة، وأنْ يدافعوا عن موقفهم؟!
لا شكَّ أنّ حماية شرع الله تعالى أمر مطلوب.
ولا شكَّ أنَّ الدِّفاع عن مصالح النَّاسِ المشروعة أمر مطلوب.
ولا شكَّ أنَّ حرِّيَّة الرَّأي وفق الضَّوابط أمر مطلوب.
ولا شكَّ أنَّ محاسبة القناعات من خلال حوارات نظيفة أمر مطلوب.
وإنَّ أيَّ تجاوزٍ لهذه المرتكزات له مآلاتُه، ومنتجاته الضَّارَّة بأوضاع الأوطان، والمؤزِّمة للعلاقات، والمؤسِّسَة للصِّراعات والخلافات.
نسأله تعالى أنْ يُرشِّد مواقفنا.
وأنْ يحمي وحدتَنا.
وأنْ يصون أوطاننا.
إنَّه خير مُسدِّد، ومؤيِّد، ومُعين.
وآخر دعوانا أنْ الحمد للهِ ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى