حديث الجمعةشهر محرم

حديث الجمعة 380 : الموسم العاشورائي (4) – كلمة حول الوضع السياسي الراهن

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياءِ والمرسلينَ محمَّدٍ وعلى آله الهداةِ الميامين…


يستمر بنا الحديث حول:


الموسم العاشورائي [4]


تناولنا فيما تقدَّم من حديث (الموقف من موسم عاشوراء) وحدَّدناها في ثلاثة مواقف:


• الحرب ضدَّ عاشوراء.
• إهمال عاشوراء.
• إحياء عاشوراء.


تناول الحديث المتقدِّم الموقفين الأوَّل والثاني وفي حديث اللَّيلة نتناول الموقف الثَّالث.


إحياء عاشوراء يعني الاحتفاء بذكرى فاجعة كربلاء من خلال مجموعة ممارسات تسمَّى (مراسم عاشوراء) أو كما هو سائد (شعائر عاشوراء).
والتعبير بالشعائر تعبير لا نمانع من استخدامه بالنسبة لأصل إقامة المجالس الحسينية، وكذلك الحزن والبكاء على الحسين عليه السَّلام لا أنْ نتوسَّع في استخدامه لكلِّ الممارسات العاشورائية وإنْ كانت مشروعة، فضلًا عن الممارسات غير المشروعة.


فالشعيرة ما ورد فيها نصٌ عن المعصوم، وأمَّا بقية الممارسات فهي وسائل للتعبير عن المشاعر الولائية للحسين، ووسائل للتعبير عن الإحياء العاشورائي.


وحديثنا هنا عن بعضٍ من أنماط الإحياء العاشورائي:


النمط الأوَّل:
الإحياء العاطفي البحت:


لا شكَّ أنَّ جذوة الإحياء العاشورائي هي (فورة الحزن) بما تحمله هذه الفورة من دموع مفجوعة لمصاب سيِّد الشهداء.
ولولا هذه الفورة، وهذه الدُّموع لخفَّ وهج عاشوراء، وخبت جذوة الإحياء العاشورائي.


فالذين يحاربون الدَّمعة العاشورائية يريدون أنْ يُسكتوا الفورة الوجدانية، والجذوة العاشورائية.


إلَّا أنَّ الإحياء العاشورائي إذا وقف عند الدَّمعة، والحزن، والفاجعة ولم يتجاوزها إلى الأهداف الكبرى لعاشوراء الحسين، وإلى المفاهيم والأفكار والقيم التي حملتها ثورة الإمام الحسين عليه السَّلام، فهو إحياء لا يملك الوعي والبصيرة وإنْ بلغ القمة في التعاطي الوجداني والعاطفي وهو إحياء يصادر معطيات عاشوراء ويصادر رسالة عاشوراء.


فكما رفضنا موقف التجفيف للعاطفة العاشورائية، فكذلك نرفض بنفس المستوى موقف التغييب للوعي العاشورائي.
يظلمون عاشوراء مَنْ يملأون الموسم عواطف مُفرَّغةً من الوعي العاشورائي.
ويظلمون عاشوراء من يملأون الموسم أفكارًا مجفَّفةً من الحزن العاشورائي.


 


النمط الثَّاني:
من أنماط الإحياء العاشورائي وهو الإحياء الذي يبقى مع الشَّكل والمظهر ولا يتجاوز ذلك إلى الفعل والممارسة وهذا الإحياء هو إحياءٌ نظري وليس إحياءً عمليًّا.


نستعين هنا ببعض التطبيقات لهذا النمط من الإحياء العاشورائي.


(1)  ارتداء السَّواد:
ارتداء السَّواد تعبيرًا عن الحزن العاشورائي أحد مظاهر الإحياء، وله دلالته الواضحة والمؤثِّرة، والسِّمة الواضحة التي تبرز الشَّكل العاشورائي هي (انتشار السَّواد) سواء على مستوى الارتداء، أو توشح جدران المآتم أو في الشَّوارع والطُّرقات، ولو لم يكن لهذا المظهر قيمتُه وتأثيرُه لما حاربته بعضُ القوى المعادية لعاشوراء بمنعه أو إزالته.


إذًا اعتماد هذا المظهر أحد وسائل التعبير عن إحياء عاشوراء.
إلَّا أنّ هذا المظهر يبقى فاقدًا لقيمته الحقيقية إذا لم يقترن بسلوكٍ عاشورائي، والسُّلوك العاشورائي هو الالتزام العملي بأهداف وقِيَم عاشوراء وهي نفسها أهداف وقِيَم الإسلام.


فماذا ينفع ارتداء السَّواد لامرأة لا تلتزم بالعفَّة والستر والحجاب الشَّرعي…؟
وماذا ينفع السَّواد لشابٍ متهاونٍ بالصَّلاة والعبادة وتكاليف الدِّين…؟
وماذا ينفع السَّواد لإنسان يتنكَّر لقِيَم عاشوراء…؟
الحزن العاشورائي يجب أنْ يكون صرخة في وجه الفساد والانحراف…
بدءًا من الفساد والانحراف في داخل الإنسان نفسه.
لماذا نبكي الحسين؟
ما الذي صنع مأساة الحسين؟
ما الذي أراق دم الحسين؟
إنَّه الفساد، الانحراف، العبث بالقِيَم..
إنَّه الظلم، الطغيان، الاستكبار..
إنَّه الضَّلال، التَيْه، الغواية..
إنَّه التمرّد على الله..
إنَّه عبادة الشَّيطان..
أنْ نبكي الحسين يعني أنْ نشجب ونستنكر كلّ الأسباب التي أنتجت مأساة الحسين…


أنْ نشجبَ ونستنكرَ الفساد والانحراف..
أنْ نشجبَ ونستنكرَ الظلم والطُّغيان..
أنْ نشجبَ ونستنكرَ الضَّلال والتَيْه..
أنْ نشجبَ كلَّ عصيانٍ لله تعالى..
أنْ نشجبَ ونستنكرَ كلَّ عبادةٍ للشيطان..
إذا لم نكن كذلك فلسنا صادقين ونحن نبكي الحسين..
الذين سفكوا دم الحسين بكوا الحسين؟؟
الذين سلبوا أقراطًا من آذان الصبايا من بنات الحسين بكوا الحسين..
الذين ألهبوا ظهور النّساء السّبايا من بنات الزهراء بكوا الحسين..


أيُّها الأحبّة:


لا أشكُّ أنَّ بكاء العاشقين للحسين ليس كبكاء أولئك المجرمين الذين سفكوا دمَّ الحسين.
إنَّ بكاء العاشقين للحسين بكاءٌ صاغته عقيدة الولاء للحسين، وصاغته عواطف ذائبة في الحسين، إنّه بكاءٌ يطمع في شفاعة الحسين، وفي شفاعة جدِّ الحسين، وأبِ الحسين، وأمِّ الحسين…
فالفارق كبير وكبير جدًا بين البكائين وبين الدموعين…
فيجب أنْ يكون الفارق كبيرًا وكبيرًا جدًا بين السلوكين..
الباكون الحقيقيون على الحسين يجب أن يجسِّدوا نهج الحسين وأهدافَ الحسين وقِيَم الحسين…


والباكون الحقيقيون على الحسين يجب أنْ يفارقوا نهج قتلةِ الحسين وأهدافَ قتلةِ الحسين وقِيَم قتلةِ الحسين…
البكاء على الحسين صرخة يجب أنْ تُطهِّر عقولَنا وقلوبنا وكلَّ واقعنا، وكلَّ أخلاقنا، وكلَّ مساراتِ حياتنا…


والبكاءُ على الحسين صرخةُ احتجاجٍ تواجه كلَّ أشكال العبث السِّياسي، والعبث الأخلاقي، والعبث الثَّقافي، والعبث الاجتماعي…
لماذا أزعج البكاءُ على الحسين – عبر التَّاريخ – أنظمة السِّياسة والحكم الفاسدة والمستبدَّة… ولا زال حتَّى الزَّمن الرَّاهن يزعج هذا النمط من الأنظمة؟
البكاء على الحسين ليس خطابًا سياسيًا، وليس تحريضًا موجَّهًا إلى أنظمة الحكم، وليس حراكًا معارضًا، وليس ثورة ضدَّ حكومات…


فلماذا هذا الانزعاج من البكاء على الحسين؟


يبدو أنَّ أنظمة الحكم قرأت جيدًا المعنى الكبير لهذا البكاء، وقرأتْ جيدًا ما تهدف إليه كلماتُ الأئمَّة من أهل البيت عليهم السَّلام حينما أكَّدوا على أهمية استمرار الدَّمعة على الحسين، وعلى أهمية استمرار الحزن العاشورائي وعلى أهمية استمرار مجالس العزاء الحسيني.


نعم.. فهمت هذه الأنظمة المعنى جيدًا، لذلك كان الموقف المتشدِّد لإيقاف هذا المسار العاشورائي.


فما دامت عاشوراء تتحرك، فالغضب ضدَّ صنَّاعِ المذبحة الكربلائية يتحرَّك، والإدانة تتحرَّك، ولو وقف الأمر عند هذا الحد وبقي غضبًا وإدانة تاريخيين فقط لما شكَّل ذلك قلقًا كبيرًا لأنظمة السِّياسة والحكم المتعاقبة عبر التاريخ.


إلَّا أنَّ الغضب العاشورائي غضب يلاحق كلَّ أنظمة الحكم والسِّياسة عبر التاريخ ما دامت تلك الأنظمة تشكِّل (استنساخًا) للنظام الذي مارس تلك الجريمة العظمى في التَّاريخ.


صحيح أنَّ الحسين السِّبط لا يتكرَّر، إلَّا أنَّ نهج الحسين باقٍ ومستمر، وأنَّ أهداف الحسين باقية ومستمرة، وثورة الحسين ضدَّ الظلم والعبث والقهر والاستبداد باقية ومستمرة…


فالمحاربون للحسين يتكرَّرون، وقتلة الحسين يتكرَّرون…
المحاربون لنهج الحسين، ولأهداف الحسين، ولثورة الحسين هم قتلة للحسين…


فمعركة عاشوراء مستمرة ما دام هناك صراع بين الحقِّ والباطل، وبين العدل والظلم، وبين الصَّلاح والفساد، وبين الخير والشَّر، وبين الفضيلة والرذيلة، وهكذا يتشكَّل معسكران في كلِّ عصر وزمان…
معسكر الحقِّ والعدل والصَّلاح والخير والفضيلة…
ومعسكر الباطل والظلم والفساد والشرِّ والرذيلة…
وأنا هنا لا أتحدّث عن طوائف، ومذاهب وانتماءات…
أتحدَّث عن مواقف، فالمعسكر الأوَّل ينتظم من الطوائف والمذاهب والمكوِّنات كلَّ الذين يقفون مع الحقِّ والعدل والصَّلاح والخير والفضيلة…
والمعسكر الثَّاني ينتظم من الطوائف والمذاهب والمكوِّنات كلَّ الذين يقفون مع الباطلِ والظلمِ والفسادِ والشرِّ والرَّذيلة…
فالمعركة ليست بين طوائف ومذاهب ومكوِّنات، إنَّما هي معركة بين مواقف…


وهذه سنَّة الحياة منذ بدأت المعركة بين آدم – رمز الخير-  والشيطان – رمز الشَّر -.
ومنذ قتل قابيل – عنوان الباطل – أخاه هابيل – عنوان الحقِّ –
واستمرت المعركة بين خطِّ الأنبياء وخطِّ الطواغيت، بين المستضعفين والمستكبرين، بين المحرومين والمستبدِّين، بين دعاة السِّلم والاعتدال ودعاة العنف والتطُّرف.


ما تشهده مجتمعات الإنسان في هذا العصر من ارتفاع مؤشر الإرهاب العالمي أمرٌ مرعب ومخيف، فارتفاع الضحايا والقتلى بسبب العنف والإرهاب والتطرُّف تتزايد بشكلٍ مخيف، وتشتدُّ مستويات هذا العنف والتطُّرف في مجتمعات العرب والمسلمين، حيث تمارس جماعات الإرهاب والتكفير أبشع أشكال القتل والذبح والتدمير باسم الدِّين والإسلام وباسم شريعة الله، وهكذا زورًا وافتراءً على الدِّين والإسلام والشريعة، ورغم الإجماع العالمي على محاربة العنف والإرهاب فلا زالت الأسباب التي تُغذِّي هذا العنف والإرهاب تتحرَّك بقوَّة ومدعومة من مواقع عظمى ومتنفِّذة هنا أو هناك.


وإذا كان مؤشر الإرهاب العالمي قد أعطى البحرين الرقم (34) من قائمةٍ ضمَّت (162) بلدًا تمثِّل أكثر البلدان تعرضًا للعنف والإرهاب فهذا يمثِّل إنذارًا خطيرًا لهذا البلد الصغير في مساحته وفي عدد سكانه.


فكم يوقظ هذا الإنذار حسَّ الغيارى على مصلحة هذا البلد، لتتكاتف كلّ القوى في حماية هذا الوطن، وهذه مسؤولية كلُّ مَنْ ينتمي إلى هذه الأرض انتماءً أصيلًا وصادقًا، وليس انتماءً دخيلًا وكاذبًا.


أنْ يزدحم على هذه الأرض دُخلاء ومُجنَّسون بلا معايير ولا ضوابط أمرٌ يُشكِّل خطرًا مرعبًا يُهدِّد هُوية البحرين وأمنها وحاضرها ومستقبلها إذا لم يتدارك المسؤولون هذا الأمر من خلال إصلاح حقيقي يُعالج كلّ الواقع السِّياسي المأزوم والذي أنتج ما تشهده البلد من تداعيات خطيرة على كلِّ المستويات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية.


إنَّ الإصلاح الحقيقي يبدأ حينما يُعطى للشعبِ حضورٌ واقعي في العملية السِّياسية وليس حضورًا شكليًا، وحينما يُعطى الشعب هذا الحضور الحقيقي فلن يحتاج إلى دعايات ولا إلى ضغوطاتٍ لكي يُشارك في هذه العملية السِّياسية، وأمَّا إذا كان الحضور مُغيَّبًا فلن تُفلح كلّ وسائل الدعاية والإغراء والضغط لكي تدفعه للمشاركة، ولن تُفلح الرسائل المكتوبة الموجَّهة لمواطنين ومجنَّسين، لأحياء ولأموات، لمُسقطة جنسياتُهم ومعتقلين، لن يُفلح كلُّ ذلك ما دامت المشاركةُ لا تعطي الشعب حقّهُ في الحضور الحقيقي في العملية السِّياسية، وكذلك لن تُفلح كلّ وعود المُترشحين في تحريك أقدام الناخبين إلى صناديق الاقتراع، كان الشعب يتمنَّى أنْ يكون هذا اليوم الانتخابي عرسًا وطنيًا لا مشهدًا جنائزيًا تُشيَّع فيه كلُّ آمال هذا الشعب، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجِعون…


وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين



اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى