قضايا الساحةقضايا محلية

الأحوال الشخصية وصيحات التقنين – 2


الأحوال الشخصية وصيحات التقنين


في هذه الأيام تتعالى في البحرين وتيرة الدعوة إلى ما يسمونه بتقنين الأحوال الشخصية … وقبل أن أتناول الموقف من هذه الدعوة والتي تتبناها هيئات نسائية، وتتبناها جهات رسمية، وشخصيات متعددة الاتجاهات وأعضاء في البرلمان، قبل هذا أود أن أمهد  بمقدمة.


 الإسلام عقيدة ونظام:



  •  لحمة تاريخه حول التقنين:

تعلمون أن الإسلام عقيدة ونظام، والنظام في الإسلام يمتد لكل مساحة الحياة فأحكام الشريعة شاملة متكاملة، تغطي جميع حاجات الإنسان ومنذ أن تأسس الكيان الإسلامي في عهد الرسالة كان الإسلام هو الحاكم، وكانت الشريعة هي أساس النظام.


ورغم انحرافات الكيانات الحاكمة في مراحل لاحقة، فقد استمر عنوان الإسلام هو الحاكم وان كان بالصورة التي أرادتها أنظمة الحكم المنحرفة، واستمرت الشريعة الإسلامية هي أساس النظام في كل المجالات وان كانت بالصورة التي أرادتها الكيانات المتسلطة، وبقي الوضع هكذا إلى آخر أيام الدولة العثمانية التي تدعي أنها تمثل الخلافة الإسلامية، وبعد سقوط الدولة العثمانية، وخضوع بلدان المسلمين إلى هيمنة الغزو الكافر تغيرت الأوضاع، فلم يعد عنوان الإسلام هو الحاكم، ولم تعد الشريعة هي أساس الأنظمة، وتشكلت دول متعددة في بلدان المسلمين، ووضعت حدود وحواجز، وسنت قوانين برعاية وأشراف بريطانيا وفرنسا وكان لهما النصيب الأوفر في اقتسام التركة العثمانية واستمرت الهيمنة الكافرة على بلدان المسلمين…


وفي ظل هذه الهيمنة انتهى دور الإسلام ودور الشريعة على مستوى الحكم والنظام وأن بقي هذا الدور حاضراً بنسبة ما في حياة المسلمين، وحتى لا تتمرد الشعوب الإسلامية على أنظمة الحكم التي صنعها المستعمر الكافر، وضعت هذه الصيغة الشكلية (الإسلام دين الدولة) واستمرت هذه الشكلية حتى بعد ما سمي بالاستقلال والتحرر.



  • شعار الإسلام دين الدولة:

(الإسلام دين الدولة) عنوان كان الهدف منه تدجين شعوب الأمة الإسلامية وإيهامها بأنّ الإسلام لازال هو الحاكم، وفي حين لا نجد لذلك أي مصداقية لا في هيمنة الاستعمار الكافر المباشرة، ولا في ظل الاستقلالات الوهمية الزائفة، هكذا سُرق الإسلام من الأمة، وسُرقت أحكام الشريعة، وعوض عنها بقوانين وضعية مستوردة تصطدم في كثير من الحالات مع أحكام الشريعة الإسلامية وهذا واضح لا يحتاج إلى برهان.


نعم بقيت مساحة محدودة خاضعة لأحكام الشريعة، لم يتجرأوا على اقتحامها لأنها تمس أعراض الناس وشئونهم الشخصية، فخوفاً من غضبة الشعوب الإسلامية تجنبوا اقتحام هذه المساحة والتي تسمى مساحة (الأحوال الشخصية) والتي تعنى بتنظيم شئون الزواج والطلاق، والوصايا والمواريث وتركوا ذلك للمحاكم الشرعية حسب انتماءاتها المذهبية.


وهكذا بقيت أحكام الأحوال الشخصية خارج (مشروع السرقة الكبيرة) التي مارسها المستعمر الكافر، بالتعاون مع الأنظمة الحاكمة التي صنعت على عين هذا المستعمر.وأخيرا بدأ السطو على هذه المساحة الصغيرة المتبقية من أحكام الشريعة…



  • كيف بدأ هذا السطو؟

ابتداء هذا السطو تحت شعار(تقنين الأحوال الشخصية)، وهذا التقنين يجب أن يتم عبر المؤسسات المدنية والمتمثلة في ما يسمى بالمجالس التشريعية المعنية أو المنتخبة، وعقدت عدة مؤتمرات لمعالجة قضية الأحوال الشخصية، ووضعت مجموعة مشروعات لتقنين الأحوال الشخصية.


ورغم إصرار الكثير من المؤتمرات على ضرورة إخضاع هذا التقنين لأحكام الشريعة الإسلامية، وعدم السماح لمؤسسات التشريع المدنية أن تبتعد عن أحكام الشريعة، فهناك أصوات أخرى ارتفعت في العديد من المؤتمرات، وانطلقت عبر وسائل الإعلام، ومن خلال المنتديات والمحاضرات , هذه الأصوات تطالب بإلغاء بعض أحكام الشريعة الإسلامية باعتبارها لا تنسجم مع ضرورات العصر، واستبدالها بقوانين مطبقة في الغرب، فسمعنا دعوات تطالب بإلغاء نظام الميراث الذي يمايز بين الرجل والمرأة، وبإلغاء بعض أحكام الزواج والطلاق الثابتة في الشريعة، وبتعديل نظام القيمومة الذي نص عليه القرآن، وبإقرار نظام التبني المحرم في الإسلام، وبإباحة مسألة الإجهاض، وغير ذلك من الأمور التي تتنافى صراحة مع أحكام الشريعة الإسلامية الثابتة.


لا أريد هنا أن أذكر شواهد من بيانات وتصريحات صادرة عمن يسمين أنفسهن ناشطات في الدفاع عن حقوق المرأة يطالبن صراحة بتطبيق القوانين الغربية في مجال حقوق المرأة وفي مجال الأحوال الشخصية.



  •  المرأة العربية والغرب:

إنه من المؤسف جدا أن نسمع في مجتمعات المسلمين من يدعوا إلى استيراد قوانين تتنافى مع الإسلام، وهذه القوانين – وخصوصا فيما يتصل بقضايا المرأة والأسرة – قد أثبت فشلها في مواطنها الأصلية فهل أن وضع المرأة في الغرب ووضع الأسرة في الغرب يشكل النموذج الذي يجب أن يحتذى، أوضاع المرأة وأوضاع الأسرة في الغرب أوضاع كارثية وهذا ما يصرح به المنصفون من مفكرين ومثقفين غربين، فإلى متى تبقى بعض النساء المأسورات لشعارات الغرب الكاذبة يمارسن لغة الاستغراب والتغرب في أوساط المسلمين… قبل أكثر من سنة تقريبا قرأت في إحدى الصحف المحلية مقالا لإحدى النساء البحرينيات تدعوا فيه المرأة العربية والخليجية على وجه الخصوص إلى استلهام نضال المرأة التونسية ممثلة في حركات منظماتها النسائية، وأشادت بقانون الأحوال الشخصية الذي أصدره الحبيب بور قيبة، وإن من يقرأ قانون الأحوال الشخصية التونسي يجد فيه تجاوزات صارخة لأحكام الشريعة الإسلامية ومن جملة مواد هذا القانون إباحة الإجهاض، هذا هو إنجاز النضال الطويل للمرأة التونسية والذي تدعو كاتبة المقال إلى استلهامه وتتمنى للمرأة العربية الخليجية على وجه الخصوص أن تكون قد قطعت أشواطها الطويلة في الوصول إلى هذا الإنجاز الكبير.


 



  •  وقفات مع المؤتمر صحفي للجنة تقنين الأحوال الشخصية:

القضية – أيّها الأحبة – في حاجة إلى مزيد من القول وإلى مزيد من الإيضاح، خاصة والساحة البحرانية تشهد تصعيداً محموماً في الدعوة إلى مشروع التقنين الوضعي لهذه الأحوال الشخصية، وقد استنفر دعاة التقنين الوضعي كل إمكاناتهم الإعلامية في الدفاع عن موقفهم وفي محاولة مستميتة لإقناع الرأي العام البحراني بصحة هذا الموقف.


وفي هذا السياق يستوقفنا (مؤتمر صحفي) عقدته لجنة تسمي نفسها لجنة الأحوال الشخصية ، وقد أثار هذا المؤتمر الصحفي من خلال ما طرحه المؤتمرون أو من خلال ما جاء في المداخلات مجموعة أفكار لنا معها وقفات.



  • الفكرة الأولى:

لقد حاول المؤتمرون وحاولت المداخلات التأكيد على أنّ الغرض من إستصدار قانون الأحوال الشخصية هو ضمان الإلتزام بتشريعات الإسلام عن طريق بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالعلاقات الأسرية.


ولا أريد أن أعرض الكلمات بما حملته من تأكيدات والتي تعبّر عن محاولة لإقناع الناس بأنَّ قانون الأحوال الشخصية لن يتجاوز أحكام الشريعة الإسلامية، ولن يخرج عن ثوابتها الفقهية، وضمن خصوصيات المذاهب.



  • ونلاحظ على هذا الكلام:

 أوّلاً : إننــّا نرفض أساساً مبدأ الإحالة إلى مجلس النوّاب، لأنّ في هذه الإحالة سابقة خطيرة تجعل أحوالنا الشخصية فيما هي شؤون الزواج والطلاق والوصايا والمواريث والأنساب خاضعة لقناعات أعضاء البرلمان والذين لا يملكون مؤهلات التصدّي لإعطاء الرأي في مسائل الفقه والشريعة والذي هو من إختصاص الفقهاء والمجتهدين، ويوم تصبح الأحكام الشرعية تحت رحمة المداولات البرلمانية بكل حساباتها وأهوائها فالكارثة على الدين وعلى الشريعة وعلى الناس كبيرة وكبيرة جداً، وتجارب المجتمعات الأخرى أكبر شاهد على ذلك، من هنا كان رفضنا الذي لا يقبل المراجعة ولا المساومة في مسألة تحمل الخطورة كل الخطورة حينما يكون البرلمان هو الذي يحدد لنا شرعية الأحكام في زواجنا وطلاقنا وأحوالنا الشخصية.


ويحدد لنا الحلال والحــرام وما يصــح وما لا يصح وما يقبل وما يرفض، وأن يعتمــد رأياً فقهيــاً ويرفض آراء أخرى، وأن يرجح إجتهاداً ويلغي إجتهادات أخرى، إنــّه تدخل جريء في شرع اللّه ممن لا يملكون صلاحيات التدخــل : {قل ءاللّهُ أذن لكُمْ أمْ على اللّه تَفْتـَرون}.


فأساس هذا التخويل مرفوض تماماً حتى لو جاء القانون مطابقاً للشريعة الإسلامية مطابقة كاملة، فالبرلمان المخوّل إذا أعطانا اليوم قانوناً مطابقاً للشريعة، فسوف يأتينا في الغد بقانون مخالِف للشريعة.


 ثانياً: كل التطمينات والتأكيدات التي يطلقها دعاة التقنين الوضعي في الحفاظ على أحكام الشريعة الإسلامية ما هي إلاّ كلمات تقال، ما هو الأساس الذي يجعلنا نقبل هذه التطمينات والتأكيدات، إننا لا نريد أن نتهم هؤلاء بالكذب وربّما يكون البعض صادقاً، إلاّ أنّ المسألة – أيّها الأحبة – أنّ هذه الكلمات لا تملك أيّ سند دستوري يوفّر لنا هذا الإطمئنان، وكفانا استغفالاً أن نقبل بالكلمات والتطمينات.


قولوا لنا ما هي الضمانات الدستورية التي تحمي التشريع من أن يتجاوز أحكام الشريعة الإسلامية، وأن يخرج عن ثوابتها؟ فليقل لنا رئيس جمعية المحامين الذي أكدّ في مداخلته أثناء هذا المؤتمر الصحفي «أنَّ المطالبة بقانون الأحوال الشخصية وفقاً للشريعة الإسلامية وليس مخالفاً للشريعة».



  •  ماهي ضمانات إسلامية القانون؟

قل لنا يا رئيس جمعية المحامين ما هي الضمانات الدستورية التي تفرض إسلامية القانون؟


ربمّا تقول أو يقول الآخرون من دعاة التقنين الوضعي:


إنَّ هناك مادتين دستوريتين تشكّلان ضماناً قوياً لحماية التشريع من أن ينفلت عن أحكام الشريعة الإسلامية، وأن يتجاوز الثوابت الفقهية في الإسلام، وهاتان المادتان الدستوريتان هما:


1- المادة التي تنص أنَّ «دين الدولة الإسلام».


2- المادة التي تنص أنَّ «الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع».


فكيف يمكن الخروج على أحكام الشريعة؟


دعونا نتابع معهم هذا الكلام… إنــَّهم يقولون:


إنَّ المادة الدستورية التي تنص على أن «دين الدولة الإسلام» هي أكبر ضمانة دستورية تحمي التشريعات من الخروج عن أحكام الشريعة الإسلامية.وهذا ما جاء في كلمة إحدى المحاميات المحاضِرات في المؤتمر الصحفي حيث قالت:


«إنَّ المغالطة المطروحة حالياً هي بُعد القانون عن الشريعة الإسلامية وهذا غير صحيح فهو مستنبط منها لأنّ الدستور البحريني يرفض أيَّ قانون مخاِلف للشريعة الإسلامية».


وهذا أيضاً ما أكدته إحدى العضوات في اللجنة:


إنَّ اللجنة أصدرت البيان رداً على الملابسات الأخيرة التي تمَّ تناولها في الصحف حول إبتعاد القانون عن الشريعة الإسلامية.


الحمدللّه هذه بيِّنة شرعية (رجل وإمرأتان) تشهد لنا بأنَّ القانون سيكون موافقاً للشريعة الإسلامية، ولا أدري هل تكفي هذه البيِّنة أن تقنع شعباً بكامله في قضية تحمل من الخطورة ما تحمل.


لنترك الحديث عن هذه الكلمات والتصريحات فلم تعد تقنع أحداً من أبناء هذا الشعب المسلم، ولنتجه بالنقاش إلى صلاحية مادة (دين الدولة الإسلام) أن تكون ضمانة لحماية التشريع، وأعتقد أنَّ رئيس جمعية المحامين، والمحامية المحترمة هما يعلمان – بصفة تخصصهما القانوني – وقبل الآخرين أنَّ هذه المادة لا تشكل ضمانة دستورية، وإنْ كانت تشكّل ضمانة فقد تمَّ تجاوزها جهاراً شهاراً في مملكتنا الحبيبة البحرين.


لا أريد أن أتحدث عن دولنا العربية والإسلامية التي تملك دساتير، وتتصدر دساتيرها هذه المادة المباركة (دين الدولة الإسلام) وكم تضج هذه الدول بالقوانين الخارجة عن أحكام الإسلام، وكم تضج بالإنتهاكات الصارخة لقيم الدين والواقع أكبر شاهد على ذلك.



  •  وقفه مع المادة الدستورية التي تقول (دين الدولة الإسلام):

لنبقى مع مملكتنا الحبيبة البحرين، والتي ينص دستورها وميثاقها أنَّ (دين الدولة الإسلام) أو بحسب تعبير المحامية المحترمة أنّ الدستور البحريني يرفض أيَّ قانون مخالف للشريعة الإسلامية.


لنتساءل:



  • هل أنَّ هذه المادة الدستورية حمت مملكتنا الحبيبة من تشريع القوانين التي تبيح (المعاملات الربوية) وتبيح الكثير من (المعاملات التجارية المحرمة)؟!.. إلاَّ أنه يُقال أنَّ (المساحة التجارية والاقتصادية) مستثناة فلا تخضع لهذه المادة الدستورية.
  • هل أنَّ هذه المادة استطاعت أن تحمي المملكة من القانون الذي يسمح بـ (فتح أماكن خاصة لبيع الخمور)؟! هذه المسألة أيضاً غير مشمولة للمادة الدستورية؟
  • هل أنّ المادة الدستورية استطاعت أن تخضع أحكام الجنايات والجرائم إلى الشريعة الإسلامية هذه المساحة خارجة أيضاً عن سلطة المادة المذكورة؟
  • هل استطاعت المادة الدستورية أن ترفض كل المخالفات للشريعة الإسلامية في مجالات الإعلام والثقافة والتربية والسياسة وبقية مجالات الحياة الاجتماعية؟

هذه المساحات الكبيرة لا يجب أن تخضع للمادة الدستورية التي تحدد هوية الدولة الإسلامية.



  • ثم نتساءل: هل استطاعت المادة التي تنص أنَّ (دين الدولة الإسلام) أن تحمي مملكتنا الطيبة من (مشروعات الدعارة) و(السياحة المعبئة بألوان الفجور) و(صالات اللهو والعبث بالأخلاق) و(الفنادق التي تمارس فيها المحرمات).. و.. و… إلى آخر الأوضاع الفاسدة التي تسيئ إلى قيم الدين، وأحكام الشريعة؟

أبَعدَ هذا يستطيع أنْ يقنعنا أحد بأن النص المذكور قادر أن يحمي البلد من إختراق القوانين المخالِفة للإسلام وللشريعة.


وقفه مع المادة الدستورية التي تقول (الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع):


أمّا المادة الدستورية الثانية التي تنص على أنّ (الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع) فهي الأخرى أعجز من أختها المادة الأولى – دين الدولة الإسلام – في حماية التشريعات من الخروج عن أحكام الشريعة الإسلامية.


لقد ناضلت (الكتلة الدينية) في المجلس التأسيسي الذي شكّل لوضع (دستور) لهذا البلد بعد الإستقلال، ناضلت في أن تعدل في هذه المادة فعجزت وكان الإصرار من أعضاء الحكومة وأعضاء الكتل الأخرى أن تبقى المادة ضمن الصيغة المذكورة، وهذا الإصرار له دلالته ومعناه.


لقد طالب (الدينيون) في المجلس التأسيسي وهم قلة يومئذٍ، أن تعدل المادة إلى:


الصيغة التالية: «الشريعة الإسلامية مصدر التشريع»


وواضح أنَّ هذه الصيغة صريحة في اعتماد الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للتشريع، وفي ضوء هذه الصيغة ينحصر الرجوع إلى الشريعة الإسلامية في كل التشريعات، ولا مجال للرجوع لأيّ مصدر آخر يتنافى مع الشريعة الإسلامية إلاّ إذا هذا التعديل رُفض بقوة من قبل الوزراء – وهم أعضاء في المجلس التأسيسي – ومن قبل كل الكتل الأخرى.حاول (الإسلاميون) أو (الدينيون) أن يطرحوا تعديلاً آخراً وهو حسب الصيغة التالية:«الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع»


هذا النص – حسب دلالته – يمنع الرجوع إلى المصادر الأخرى غير الرئيسية، مادام المصدر الرئيسي – وهو الشريعة الإسلامية – متوفراً على الحكم، فالنص هنا يفترض وجود مصادر غير رئيسية يمكن الرجوع إليها ولكن في طول الرجوع إلى المصدر الرئيسي – الشريعة الإسلامية – لا في عرضه.


وهذا التعديل هو الآخر رفض بقوة، وتمت المصادقة على الصيغة الموجودة بالفعل في الدستور وهي أنَّ (الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع).


 كيف نفهم هذا النص؟


هذا النص – وحسب هذا التعبير – يفترض وجود مصادر رئيسية أخرى غير الشريعة الإسلامية، وهذه المصادر تقع في عرض واحد مع الشريعة، فيجوز الرجوع إليها متى إرتأى المشرِّع المدني ذلك، ولا يمنع وجود الحكم في الشريعة الإسلامية من اعتماد أيّ مصدر آخر رئيسي مادام مكافئاً في القوة إلـى الشريعة.


وهكذا يثبت لنا أنه لا توجد أيّ ضمانة دستورية تحمي التشريعات من الانفلات عن إطار الشريعة الإسلامية ولم يبقَ لدينا إلاَّ الكلمات والتصريحات والتطمينات والتي لا يجوز الاكتفاء بها قطعاً، ولا يجوز التعديل عليها.


 فنحن نطالب هؤلاء أن يأتوا بدستور يفرض (إسلامية  التشريعات)، وأن يأتوا بأعضاء يملكون (الكفاءة الفقهية) التي تؤهلهم لاتخاذ القرار في هذه المسائل.. وعندها لا مشكلة لدينا.


 أيهّا الأحبة:


إستمراراً لمناقشة الأفكار التي أثارها المؤتمر الصحفي الذي عقدته لجنة الأحوال الشخصية-كما تسمي نفسها-وذلك في الإسبوع الماضي، نتابع هذه الوقفات:



  •  الوقفة الثانية:

أعلنت اللجنة المذكورة أنّها بصدد رفع خطاب موجه إلى ملك البلاد للمطالبة بإصدار قانون الأحوال الشخصية،  وقالت اللجنة أنّها «ستجمع التواقيع لهذا الخطاب من الجمعيات السّياسية والنسائية والمواطنين» وسيرافق هذه الخطوات «حملة توعية شاملة تمتد للمآتم والمراكز الدينية»


ونضع هنا مجموعة ملاحظات:



  •  الملاحظة الأولى:

إنّ هذا الكلام يعبّر عن حالة من الاستنفار لدى هؤلاء في اتجاه الدفاع عن موقفهم، ويعبّر عن عزم وتصميم لإختراق المواقع الدينية، كونهم يعلمون أنَّ هذه المواقع هي مراكز التأثير في الجماهير المؤمنة، وهذا الكلام يفرض علينا أن نستنفر كلّ إمكاناتنا ووسائلنا في التصدّي للمشروع، وفي المواجهة الواعية وفي الرفض الهادف، وإنَّ أيّ صمتٍ أو إسترخاءٍ أو تنازلٍ  سوف يحملّنا جميعاً وعلى كلّ المستويات أخطر مسئولية أمام الله سبحانه، وأمام إسلامنا وديننا وقيمنا، وأمام حاضرنا ومستقبلنا، إنّ الأخرين لا ترضيهم هذه اللغة، ويروّن أنّ توظيف اللغة الدينية في توجيه الجماهير فيما هي قضايا السّياسة، وفيما هي قضايا الثقافة وفيما هي قضايا الإجتماع أمر لا مبرر له.


ونحن لا نستكثر على هؤلاء أن يزعجهم هذا اللون من الخطاب، فهم أساساً لا يؤمنون بحق الدين أن يتدخل في شئون السّياسة وفي شؤون الثقافة وفي شؤون الإقتصاد وفي كل شئون الحياة الاجتماعية ويريدون للدين أن يتجمد في شؤون العبادة، ولكنهّم غاب عنهم أننا نفهم العبادة عنواناً كبيراً يمتد إلى دنيا السّياسة، وإلى دنيا الثقافة، وإلى دنيا الإقتصاد وإلى كل مواقع الحياة.وإذا كنا لا نستكثر على هؤلاء هذا الموقف، كونهم لا يؤمنون بالدين، وبوظيفة الدين. إلاّ أننّا نستكثر على أولئك الذين يزعمون لأنفسهم أنّهم يملكون خطاب الدين، وإذا اللغة هي اللغة، ماذا يريد أن يقول حافظ الشيخ؟



  •  وقفة مع حافظ الشيخ:

أنا لا أريد هنا أن أتناول خطاباته التي ما فتأت تزرع الفتنة المذهبية والفتنة الطائفية، وفتأت تؤجج الأحقاد والضغائن والعداوات والصراعات، وكأنّه معني بهذه المهمة تماماً.


هذا الموضوع لنا معه وقفات أخرى في حديث آخر وما يهمنا هنا، حديث له نشر قبل أيام،  وقد وضع نفسه واعظاً وموّجهاً ومرشداً لمشايخ الدين، وما أسوء هذا الزمان الذي يتحول فيه مشايخ الدين إلى تلامذة صغار في مدرسة حافظ الشيخ، وإن عشت أراك الدهر عجباً.


 ماذا يريد حافظ الشيخ – الأستاذ الموجّه لأئمة المساجد – ماذا يريد لهؤلاء الأئمة والمشايخ؟


إنّه يقول: أنّ هؤلاء الشيوخ الأفاضل مقامهم مقام دين وعبادة وإرشاد، لا مقام سياسة وقوانين وضعية اقتضتها التحولات المعاصرة في المجتمع وضرورتها التنموية البشرية.


هكذا يعلّمنا حافظ الشيخ أن نكون شيوخاً محنــّـطين ومجمّدين ومشلولين، نترهب في المساجد كما يترهبن الكهان في الأديرة والصوامع، فمقامنا مقام دين ولكنه دين مشلول لا حراك له ولا حياة، لأنّه محظور عليه أن يتحرك في مساحات تغطي القسم الأكبر في حياة الإنسان.


ومقامنا مقام عبادة ولكنها العبادة الكسيحة، التي لا تقول: لا للمنكر السّياسي، ولا تقول لا للمنكر الثقافي، ولا تقول لا للمنكر الإجتماعي لأن هذا يؤدي-حسب مدرسة حافظ الشيخ-إلى تلوث العبادة الروحانية، فتفقد العبادة صفاءها وتفقد العبادة سموها الروحي والإيماني والنوراني.


كم يفرح الحكّام والساسة والمتسلطون أن تتحول شعوبهم بأكملها إلى عبّاد ونــّساك ولكن من هذا الطراز.


وكم تفرح أمريكا أن يتحول كل العرب والمسلمين حكاماً وشعوباً إلى عبّاد من هذا الطراز، فالعبادة من هذا الطراز لن تشكل إرهاباً في المنظور الأمريكي، ولن تشكّل عنفاً في حسابات بوش، ولن تشكّل قلقاً لأنظمة الحكم والسّياسة.


وكم هي مهمة كبيرة يمارسها هؤلاء الكتــّاب في خدمة هذه الأهداف.


ومقامنا مقام إرشاد، ولكنـّه إرشاد محظور عليه أن يتجاوز الخطوط الحمراء، ومن الذي وضع هذه الخطوط الحمراء؟ أمريكا، قوى الإستكبار، أنظمة الحكم، تيارات التغريب والعلمنة، قوى الجهل والتخلف، وهكذا يصبح الإرشاد محاصراً بخطوط حمراء مكثفة ومشدّدة، فماذا بقى لنا من الدين والعبادة والإرشاد؟!


 الملاحظة الثانية: الدور الكبير الذي تتحمله المراكز الدينية.


إنّ المساجد والمآتم والمراكز الدينية منطلقات لتأصيل خط الله في الأرض، ومنطلقات لإنتاج حالة الإنتماء إلى مبادىء الإسلام، وقيم الدين، وأهداف الرسالة الربانية، ومنطلقات لصياغة إنسان العقيدة والمبدأ، ولصياغة حركة الحياة وفق منهج السماء.


ومنطلقات تصدّي ومواجهة لكلّ التيارات التي تشكّل خطراً على الدين والرسالة.ومنطلقات توعية وإرشاد وتوجيه لكل مسارات الواقع الإيماني والروحي والأخلاقي والثقافي والإجتماعي والسّياسي حسب ما يريد الله سبحانه وحسب ما يريد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وحسب ما يريد أئمة الهدى من أهل البيت (عليهم أفضل الصلوات وأزكى التحيات).


 هذه أهداف المساجد والمآتم والمراكز الدينية، فمسئوليتنا أن نحافظ على هذه الأهداف، وإن أيّ توظيف لهذه المواقع بما يتنافى مع هذه الأهداف هو انحراف خطير لا يسعنا السكوت عليه، ووظيفتنا التصدّي له.


قد يقال: إنّكم بهذا تصادرون الرأي الآخر، والدين لا يصادر الرأي الآخر. المسألة ليست مصادرة للرأي الآخر، الرأي الآخر له مواقعه التي ينطلق منها، ونحن نؤمن بالحوار مع الآخر، ولكن لمواقعنا الدينية أهدافها المقدسة التي لا يجوز المساس بها.


أترون أنّه من الجائز أن نمكّن إنساناً يدعو إلى عبادة الشيطان أن يمارس دعوته من خلال محراب العبادة لله سبحانه، هذا مجرد مثال ولا أريد أن أتهم أحداً، ولا يجوز لي أن أتهم أحداً بلا دليل ولا برهان، ولكنه مثال نسوقه ونسوق أمثلة أخرى لتوضيح أساس المبدأ.


أترون أنه من الجائز أن نمكّن إنساناً يدعو إلى المنكر والباطل أن يمارس دعوته من خلال المسجد والمأتم؟


  أترون أنه من الجائز أن نمكّن إنساناً يدعو إلى الضلال – الضلال العقيدي، الضلال الثقافي، الضلال الأخلاقي، الضلال الإجتماعي، الضلال السياسي – أن يمارس ذلك من خلال المسجد والمآتم؟


التطبيقات في حاجة إلى دراسة واعية بصيرة.



  • الملاحظة الثالثة:

وحسب تصريح البيان الصادر عن لجنة الأحوال الشخصية – كما هي التسمية المطروحة -أنّهم سيقومون بجمع توقيعات المواطنين لدعم مشروعهم، أنـّـنا ليس من حقنا أن نمنع أحداً أن يحرّك أيّ عريضة بين الجماهير لاستقطاب الدعم والتأييد في قضية يؤمن بها، إلاَّ أنـّـنا من حقنا أن نمارس توعية الجماهير في إتجاه الأهداف التي نؤمن بها، كما يمارس الآخرون حقهم في توعية الناس في إتجاه الأهداف التي يؤمنون بها.


ومن الغريب أن هؤلاء يعتمدون كل المواقع لخطاب الناس، يعتمدون الصحافة، وسائل الإعلام، الجمعيات، مراكز الثقافة من أجل ما يسمونه بالتوعية الشاملة، ثم يعترضون علينا أن نعتمد المساجد والمنابر من أجل توعية الناس في خط الأهداف التي نؤمن بها؟!


وإنطلاقاً من حقنا في التوعية والإرشاد ننبه أبناء هذا الشعب رجالاً ونساءً أن يكونوا في أقصى درجات الوعي والحذر كي لا يقعوا في إستدراجات خطيرة – حسب ما نعتقد – وهذه الإستدراجات تعتمد عناوين مقبولة جداً عند الناس: الدفاع عن حقوق المرأة، تنظيم شئون الأسرة، إصلاح وضع القضاء، هذه عناوين نحن لا نرفضها، وندافع عنها بقوة، إلا أنـّـنا نختلف مع هؤلاء في الآليات المعتمدة لتحقيق هذه الأهداف،


إنـّـنا نعتبر تمكين البرلمان من التدخل في التشريع لقضايانا الدينية التي لا زالت خارج الهيمنة المدنية أمر له خطورته الكبيرة جداً إن عاجلاً أو آجلاً على هذه المساحة التي تضم زواجنا وطلاقنا وأنسابنا ووصايانا ومواريثنا.ولذلك فإننا نعتبر التوقيع على أيّ عريضة تطالب بهذا التمكين مساهمة في عمل غير مشروع فقهياً – حسب وجهة نظرنا الدينية – ونترك للآخرين وجهة نظرهم، فقد يرونه عملاً واجباً، وقد يرونه عملاً وطنياً. هذه وجهة نظرهم يتحملون مسئوليتها، غير أنّ مسئوليتنا الشرعية تحتم علينا أن نقول لأبناء شعبنا أنّ المطالبة بتمكين البرلمان من إقتحام هذا الشأن أمر يتنافى تماماً مع القناعات الفقهية الملزمة لنا شرعاً، وإنّ الغالبية من أبناء هذا الشعب ليست على استعداد أن تتجاوز هذه القناعات الفقهية ثقة منها برموزها وعلمائها الذين أعطتهم كل الحب والولاء. ونحن لا نرى في هذا الموقف ما يسيء إلى خطوات الإصلاح السّياسي، والنهج الديمقراطي، والذي هو شعار هذه المرحلة.



  • ضجة مفتعلة والبكاء وعويل :

ومن المؤسف أن بعض اللاعبين بالكلمات، والمتاجرين بالشعارات، أثاروها ضجة مفتعلة ورائها ما ورائها، تعالى الضجيج والبكاء والعويل، فخطوات الإصلاح السّياسي أصبحت مهددة، والنهج الديمقراطي أصبح مهدداً، ومشروعات التغيير أصبحت مهددة.


لماذا؟ لأنَّ علماء الدين قالوا«لا لسرقة الأحوال الشخصية» و«لا لهيمنة المؤسسة الوضعية على أحكام الشريعة».


إننّا نسأل هؤلاء الذين أثاروا الصخب والضجيج في الصحف والمنتديات والمؤتمرات، يتباكون الإصلاح السّياسي، والنهج الديمقراطي، والثوابت الدستورية لأنَّ علماء الدين أعلنوا رفضهم أن يتدخل البرلمان في شأن الأحوال الشخصية.


٭ نسأل هؤلاء: هل أن المشروع السّياسي الذي تندبونه قد استكمل مكوّناته؟


٭ هل ترسمت خطواته الصحيحة؟


٭ هل انتهت إشكالاته؟


٭ وهل أنَّ النهج الديمقراطي الذي تتباكونه قد تأسست صياغاته؟


٭ وهل تشكّلت معالمه؟


٭ وهل تحركت تفعيلاته؟


فلماذا لا ترتفع أصواتكم قوية جريئة في التصدّي للتهديدات الحقيقية التي تواجه المشروع السّياسي؟، والتهديدات الحقيقية التي تواجه النهج الديمقراطي؟


أم أنَّ المسألة هنا لها حساباتها الخاصة؟



  •  العلماء وقضايا المرأة:

لقد قلنا ولازلنا نقول: إننا مع قضايا المرأة العادلة حسب ما قررته شريعة اللّه تعالى، لا حسب ما تفرضه أهواء الإنسان وقوانين الأرض القاصرة.


إننا مع حقوق المرأة، ومع حقوق الرجل، ومع حقوق الإنسان، وضد كلّ ألوان الظلم والجور والاعتداء والمصادرة، وضد كلّ ألوان الفوضى والعبث والفساد والتمييز.


إن تحويل الأحوال الشخصية من مظلة الشريعة إلى مظلة المؤسسة الوضعية جناية كبيرة لها مردوداتها الخطيرة جداً، ولن يشفع لدعاة التحويل مقولاتٌ يرددونها ويحاولون من خلالها أن يطمئنوا الناس بأن التقنين لن يتجاوز أحكام الشريعة، مادام دين الدولة الرسمي هو الإسلام، ومادام الدستور ينص أن الشريعة مصدر رئيسي للتشريع , هذا الكلام لا يملك مصداقية، فلا رسمية الإسلام كدين للدولة، ولا مصدرية الشريعة وفق الصيغة المدونة في الدستور كل ذلك لا يحمي التشريع المدني من تجاوز أحكام الشريعة الإسلامية، وواقع القوانين في بلدان المسلمين أكبر شاهد على ذلك.



  •  أسلمة القوانين المدنية:

ومما يؤسف له أن تغيّب هذه الرؤية عند بعض الأخوة ممن لا نشك في إخلاصهم للدين وقيم الدين، وللفقه وأحكام الشريعة، حينما يتصورون إن استصدار قوانين مدنية من قبل المؤسسة الوضعية تنظم أحكام الأحوال الشخصية هو انتصار للشريعة إنطلاقاً من الهدف الكبير الذي يسعى إليه الإسلاميون هو «أسلمة القوانين المدنية»، قد يبدو هذا الكلام صحيحاً وقد يبدو هذا المنطق صائباً، ولكننا لو تأملنا في عمق المسألة سوف نجد أننا الخاسرون يوم طوّعنا شريعة اللّه تعالى لمؤسسات مدنية لا تملك صلاحية أن تعطي رأياً في أحكام اللّه، ولا تملك حصانة في أن تتجاوز أحكام الشريعة، وقد ناقشنا هذه المسألة بإسهاب في خطب ومحاضرات سابقة.


إننا ندعو بلاشك إلى أسلمة كل القوانين وفي كل المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية والإعلامية والسياسية إنه مشروع الإنسان المسلم في أسلمة الواقع بكل مكوّناته، ومن الواضح أن حياة الإنسان المسلم في هذا العصر، وفي داخل مجتمعات المسلمين يمكن أن نصنفها إلى مجموعة مساحات:


 1- مساحة العبادات:


هذه المساحة لم تتجرأ أنظمة الحكم في مجتمعات المسلمين أن تتدخل فيها، وبقي الإنسان المسلم يمارس عباداته وفق إنتمائه الفقهي المذهبي.


  2- مساحة الأحوال الشخصية (الزواج، الطلاق، النفقة، الحضانة، الوصايا، المواريث) وتسمى هذه المساحة أحياناً بأحكام الأسرة.


هذه المساحة بقيت في بعض مجتمعات المسلمين خارج دائرة الهيمنة الرسمية لأنظمة الحكم وتركت لتوجيهات الفقه والشريعة… ولكنها في بعض بلدان المسلمين تمَّ اخضاعها للمؤسسة الوضعية وإن بقيت محكومة في الغالب لتوجيه الشريعة إلا أن ذلك لم يمنع المشرع المدني أحياناً من العبث والتغيير والتلاعب بأحكام الشريعة وهناك أمثلة كثيرة على ذلك.


 3- بقية المساحات في حياة الإنسان المسلم، وهذه تمت الهيمنة عليها من قبل المؤسسات الوضعية، وأخضعت في الغالب لقوانين مخالفة للشريعة الإسلامية.


وفي ضوء هذا التصنيف، فإن الدعوة إلى أسلمة القوانين تعني محاولة إرجاع المساحات المغصوبة إلى مظلة الشريعة الإسلامية، وليس التفريط بالمساحة المتبقية في حماية الشريعة وتسليمها إلى هيمنة المؤسسة الوضعية.فليتق اللّه في دينهم أولئك الذين يصرّون على إعطاء المؤسسة الوضعية حق التدخل في شؤون الأحوال الشخصية.


ولا حديث لنا مع دعاة العلمنة، فمن الطبيعي أن يكون موقفهم هو إقصاء الشريعة الإسلامية، وتجميد دور الدين في صياغة حركة الحياة والإنسان.«ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين».


 أيّها الأحبة:


 قد يسأل البعض: لماذا هذا الاستغراق في هذه القضية على حساب قضايا أخرى هامة في الساحة؟ وهل تتصدّر هذه المسألة قائمة الأولويات؟ ثمَّ ألم يُشبَع الحديث في هذا الموضوع فلماذا هذا الزخم من الأحاديث والكلمات والمحاضرات وقد أصبحت الفكرة واضحة؟


إنّنا نعتقد أنَّ المسألة تملك الكثير الكثير من الأهمية، وتملك الكثير الكثير من الخطورة، مما يفرض المزيد من القول، والمزيد من التوضيح،  والمزيد من التصدّي، وإنّ المسؤولية الشرعية لا تسمح لنا بالصمت والاسترخاء في مسألة بهذا المستوى من الأهمية والخطورة تمسّ الأعراض والأنساب، وإنّه ليؤسفنا أن نسمع كلماتٍ تقال هنا أو هناك، كلماتٍ مرتجلة وغير مسئولة تتهم موقفنا بأنّه ينطلق من حسابات ذاتية شخصانية، أومن خلفيات طائفية، أو من إعتبارات سياسية، أو من فهم ساذج لم يستوعب ضرورات المرحلة أو من محاولات تستهدف إرباك مسيرة الإصلاح…. و… و… إلى آخر المقولات الظالمة الجائرة التي يسّوق لها هؤلاء بقصد متعمد للإساءة إلى موقف العلماء وموقف الإسلاميين الواعين المخلصين، وقد تعبّر بعض هذه المقولات عن جهل أصحابها إنّ أحسنا الظن.


 أيهّا الأحبة:


إننــّا في هذا الموقف ننطلق من رؤية أصيلة ومن فهم مدروس، ومن تكليف شرعي لا نجد أنفسنا معذورين في التخلي عنه، هذا منطلقنا، فليقل الآخرون ما يشاءون، وليجذّفوا ما حلى لهم التجذيف، وليتهموا إنْ خانهم الإنصاف، والغريب أنّهم يتشنجون لكلمةٍ قالها عالم تعبّر عن قناعةٍ إيمانية صادقة، وتعبّر عن موقف مبدئي أصيل، ثمّ هم يطلقون الكلمات مشحونة بالشتائم والإساءات.


لنتجاوز هذا فلن يثنينا كل ما يقال عن ممارسة مسئوليتنا الشرعية في التصدّي لكل ما نعتقد أنّه يشكل خطراً على الدين، وعلى أحكام الشريعة.


ورغم هذا الوضوح في الموقف، فلا زال البعض من المؤمنين يشكّك، ولا زال البعض متردداً في التوقيع على العريضة الشعبية، ومن حقنا أن نتساءل وأن نستغرب ألا يكفي قرابة المائتين من علماء وأساتذة وطلاب الحوزة يوقّعون على عريضة؟! وفيهم أسماء كبيرة ومعروفة ألا يكفي ذلك في تحديد الوظيفة وفي تحديد التكليف؟ ألا يكفي ذلك في خلق الإطمئنان وفي خلق القناعة؟! وعلى كلّ حال


  فإنَّ هذا التشكيك، وهذا التردد لا يشكّلان ظاهرة كبيرة تبعث على الخوف والقلق مادام الإتجاه العام لدى جماهيرنا المؤمنة هو الإستجابة والتفاعل،  كما يعبّر عن ذلك الإقبال الكبير على التوقيعات، وإننّا نثمّن ونبارك هذا الحس الإيماني النابض، وهذه الحرارة المبدئية الصادقة، وهذا الوعي الإسلامي الأصيل.لازال هناك إصرار لدى عدد من النوّاب على طرح القضية على المجلس، ولازال هناك إصرار لدى بعض القوى والفعاليات على إثارة الموضوع وتحريكه في الصحافة والمنتديات، الأمر الذي يفرض علينا إنطلاقاً من مسؤوليتنا الشرعية أن نؤكد موقفنا في رفض أي تدخل من قبل البرلمان في شؤون الأحوال الشخصية، ونأمل أن لا نضطر إلى تصعيد الموقف في التصدّي والمواجهة، ويجب على أعضاء البرلمان أن يحسبوا النتائج بدقة، وأن يحترموا إرادة أبناء هذا الشعب المسلم الذي لن يسمح لأيّ مؤسسة وضعية أن تتدخل في أحواله الشخصية المحسومة من الناحية الشرعية، وأن العريضة الشعبية التي وقعها عشرات الآلاف من أبناء هذا البلد لهي تعبير واضح عن إرادة الجماهير المؤمنة في هذا البلد، وإذا كانت العريضة قد تحركت لمدة محدودة واستطاعت أن تحتضن هذا العدد الكبير من التوقيعات، فإنها إذا اقتضت الضرورة سوف تتحرك مرة أخرى، وسوف يعبر الناس عن موقفهم المبدئي في هذه القضية.


 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين


محاضرة ألقاها السيد الغريفي في 2/11/2005م

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى