حديث الجمعةشهر جمادى الأولى

حديث الجمعة 393 : آسيةُ بنتُ مُزاحِم (امرأةُ فِرعون) – وسائلُ التفقُّهِ في الدِّين – لكي يبدأَ مشوارُ الإصلاح – محاكمة سماحة الشيخ علي سلمان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياءِ والمرسلينَ محمَّدٍ وعلى آله الهداةِ المعصومين، وبعد فمع العناوين التالية:


في موسم الصِّديقة الزهراء عليها السَّلام انفتح بنا الحديثُ على هذا العنوان (النساء الفضليات)، تقدَّم الحديثُ عن (مريم بنتِ عمران)، نتابعُ القراءة في هذا السِّياق وهنا نقفُ مع امرأة أخرى هي:


آسيةُ بنتُ مُزاحِم (امرأةُ فِرعون):


في سورةِ التحريمِ تحدَّثَ القرآنُ عن نموذجينِ للمرأةِ الكافرةِ، ونموذجينِ للمرأةِ المؤمنة…


أمَّا النموذجانِ للمرأةِ الكافرةِ فامرأتا نوحٍ ولوط، كانتا زوجتين لنبيَّينِ من أنبياءِ الله إلَّا أنَّهما انحرفتا عن خطِّ النبوَّةِ، وفي هذا يقول القرآنُ: ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا…﴾ {التحريم/10}


ماذا تعني الخيانةُ هنا؟ ليس الخيانة الزوجية، فزوجات الأنبياء منزَّهات عن ذلك، إنَّما وقفتا ضدَّ الرسالةِ، وبقيَتا على الضَّلالِ مع قومهما، وكانَتا تُفْشِيانِ أسرارَ النبيِّينِ فيما يَضرُّ بمصلحةِ الرسالة.


ماذا كانَ مصيرُ هاتينِ المرأتين:
لم يغنهما أنَّهما زوجتانِ لنبيَّينِ، فكان مصيرُهُما أنَّهما في النار، كما هو مصيرُ العُصَاةِ والكافرين.
﴿فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا…﴾ {التحريم/10} 
لم ينفعْهُما كَونهُما زوجتينِ لنبيَّين من أنبياءِ اللهِ ما دامتا ليستا على خطِّ النبوَّة…
﴿وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ {التحريم/10}
وأمَّا النموذجانِ للمرأةِ المؤمنةِ فَهُما: امرأةُ فِرْعونَ، ومريم ابنةُ عِمران…
تقدَّم الكلامُ عن مريم ابنة عِمران…
ونتناولُ هنا الحديثَ عن امرأةِ فِرعونَ وتُسمّى (آسيةُ بنتُ مزاحِم)،
كيف انتمتْ آسيةُ بنتُ مُزَاحِم إلى خطِّ الإيمان؟ ومتى بدأ هذا الانتماءُ؟
كانت في البداية على خطِّ فِرعَونَ وقومِهِ، إلَّا أنَّها تداركَتها الهدايةُ الرَّبانيةُ فآمنتْ…


ويبدو أنَّها آمنتْ حينما شاهدتْ مُعجزاتِ نبي اللهِ موسى، حيث كانت حاضرةً حينما جمعَ فِرعَونُ السحرةَ ليواجه بهم موسى عليه السَّلام.
جاء موسى بمعجزة العَصَا التي تحوَّلتْ ثعبانًا، وباليد البيضاء ﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ {*} وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ﴾ {الأعراف/107-108}


كيفَ وَاجَهَ فِرعَونُ هاتينِ المعجزتين؟
جمع كبارَ مستشاريه لتدارسِ الموقفِ وكيف يمكن أنْ يُواجه مُوسى…
في هذا الاجتماع خاطب فِرعونَ كبارَ المستشارين ورجالَ البلاط:
﴿قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ {*} يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ {الشعراء/34-35} 


المسألة في منظورِ فِرعَونَ مَسألةُ سِحْرٍ، ومسألةُ هيمنة على البلاد والعباد، والمطلوبُ التصدِّي لهذا الأمر…


مَاذا كان رأيُ المستشارينَ في مواجهة الموقف؟
﴿قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ {*} يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾ {الشعراء/36-37}
فما دامتْ المسألةُ مسألةَ سِحْرٍ، ففي مملكةِ فِرعونَ كبارُ السَّحَرة في مشهْدٍ كبير يَحضُرُه النَّاس وتنتهي بذلك لعبةُ موسى كما يتوهمون…


وهكذا كانَ القرارُ أنْ يكونَ اجتماع حاشدٌ:
﴿فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ {*} وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ {*} لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾ {الشعراء/38-39-40}
وقبل أنْ يبدأَ اللقاءُ الحاسمُ بين السَّحرة ومُوسى كانَ لا بدَّ أنْ تبدأ لغةُ (المُسَاومةِ)


فماذا يُقدِّم لهم فِرعونُ إنْ هم انتصروا على موسى؟
﴿فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ﴾ {الشعراء/41}
وهنا لا بدَّ أنْ يُقدِّم فِرعونُ إغراءاتِه ومساوماتِه، وهذه هي لغةُ الحُكَّامِ وأصحابِ السُّلطة، لكي يتمكَّنوا مِنْ شراءِ الضمائرِ والذِّمم، ولكي يحوِّلوا النَّاسَ أزلامًا لهم…


بماذا أغراهم فِرعونُ؟
﴿قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ {الشعراء/42}
المُساومة بين فِرعونَ والسَّحرةِ تَمَّتْ على أن يكون الثمن لانتصارهم: أموالًا ومناصب…


﴿قَالَ نَعَمْ﴾ لكم ما تريدونَ من الأموالِ والثروةِ ﴿وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ لكم مواقع ومناصب تقرِّبكم من الحكم ومن البلاط الحاكم…
فلا مشكلة لديهم أنْ يَبيعوا ضمائَرهُمْ وذمَمَهُمْ ما دَام الثمنُ مُغريًا…
وبدأ الملتقى الكبير، وبدأ التحدِّي النَبَويّ: ﴿قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ {*} فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ﴾ {الشعراء/43-44} هكذا بكلِّ غُرورٍ وكبرياءَ بدأوا الموقفَ متكئينَ على جَبرُوتِ فِرعونَ وطغيانِه وسلطانه…


فما كانَ من مُوسَى النبيِّ الواثقِ بربِّهِ والمتحصِّن بمددِهِ تعالى، وقُدرتِه المُطلقةِ، إلَّا أنْ تحدَّى جبروتَ فِرعونَ وطغيانِه وسلطانَه
﴿فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ {الشعراء/45}
ماذا كانَ موقفُ السَّحرةِ وهُم يُشاهدونَ هذا التحدِّي الصَّارخ؟
﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ {*} قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ {الشعراء/46-47}


والسؤال الكبير: كيف تعاملَ فِرعونُ مع هذا المشهد الذي تحدَّى كلَّ كبريائِهِ وجبروته؟
وماذا كان موقف آسية بنت مزاحم زوجة فرعون وكانت ممَّن حضر هذا المشهد؟
نتابع الحديث إنْ شاء الله تعالى.



وسائلُ التفقُّهِ في الدِّين:


تقدَّمَ الكلامُ عن (السُّؤال) كوسيلةٍ مُهمَّةٍ من وسائلِ التفقُّهِ في الدِّين، وهنا نعرضُ إلى وسيلةٍ ثانيةٍ هي الأخرى تملك أهميةً كبيرةً، هذه الوسيلةُ هي (حضورُ الجلْسَاتِ التي تفَقِّهُ في الدِّين) بأيِّ صورة من الصور كانت هذه الجلسات:


– دروس دينية.
– محاضرات دينية.
– ندوات دينية.
– خطب دينية (في مساجد وحسينيات).
– أيّ وسيلة أخرى تفقّه الإنسان المسلم في دينه.


هذه مواقع مهمَّةٌ تُقدِّم (ثقافةَ الدِّين) خاصة إذا كان القائمون عليها من ذوي الكفاءاتِ والمؤهَّلاتِ العاليةِ، فمن الخطر جدًّا أنْ يتصدَّى لتقديم ثقافة الدِّين مَنْ لا يملك الكفاءةَ لذلك، وليس المطلوب في هؤلاء المتصدِّين فقط (الكفاءة العلمية) وهي ضرورية جدًا بل مطلوب كفاءات أخرى:
‌أ- الكفاءة الروحية والأخلاقية.
‌ب- الكفاءة السلوكية (التقوى والورع).
‌ج- الكفاءة في التبليغ والإرشاد والتعليم. 
وإلَّا فقد هذا المتصدِّي قدرته على التأثير، ولم يحضَ بما أعدَّه الله لِمنْ يُقدِّمُ للنَّاسِ ثقافةَ الدِّين وعلمَ الشريعة…


• قال رسول الله صلَّى الله عليهِ وآلِهِ وسلَّم:
«إنَّ مُعلِّمَ الخيرِ يستغفر له دوَّابُ الأرضِ، وحيتانُ البحر، وكلُّ ذي روحٍ في الهواء، وجميعُ أهلِ السَّماءِ والأرضِ».


• وقال صلَّى الله عليهِ وآلِهِ وسلَّم:
«إنَّ اللهَ وملائكتَهُ حتَّى النملةَ في حُجرِها وحتَّى الحوتَ في البحر يُصلُّون على مُعلِّم النَّاسِ الخير».


إلَّا أنَّ مُعلِّمَ النَّاسِ ومُفقِّهَهُمْ ومهذَّبَهُم يجب أنْ «يبدأ بتعليمِ نفسِهِ قبلَ تعليمِ غيرِهِ، وليكُنْ تأديبُهُ بسيرتِهِ قبلَ تأديبِهِ بلسانِهِ، ومُعلِّمُ نفسِهِ ومُؤَدِبُّها أَحَقُّ بالإجلالِ مِن مُعلِّمِ النَّاسِ ومؤدِّبِهم» هذا ما قاله أميرُ المؤمنين عليه السَّلام.


• في الدعاء الوارد عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم:
«اَللَّهُمَّ إنِِّيْ أَعُوْذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَدُعَاءٍ لَا يَسْمَعُ، وَنَفْسٍ لَا تُشْبَعُ».


• وتقدّم الحديثُ عن أمير المؤمنين عليه السَّلام:
«قصم ظهري عالمٌ متهتِّكٌ وجاهلٌ مُتنسِّكٌ».
فالمتصدُّونَ لتعليمِ النَّاسِ وتثقيفِهم مطلوبٌ منهم أنْ يكونُوا قدوةً للنَّاس ومُثُلًا عُليا، ونماذجَ خيِّرةً…


ومطلوبٌ مِن النَّاس أنْ يتعلَّمُوا منهم، وأنْ يَحرصُوا كلَّ الحُرصِ أنْ يستفيدوا مِن دروسِهم، وتوجيهاتِهم، وإرشاداتِهم، وأنْ يواظبوا على حضور دروسِهم، ومجالِسهم، ومحاضراتِهم، وخطبهم، وأنَّ حضورَ مجالسِ العلمِ، والتفقُّهِ له قيمتُهُ الكبيرة جدًا، وثوابُه العظيمُ عند الله تعالى.


أذكر هنا هذه الطائفة من الرِّواياتِ التي تتحدَّث عن أهمّية حضورِ مجالس العلم والتفقُّه في الدِّين:
• جاء رجلٌ مِن الأنصارِ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّم فقال: يا رسولَ الله إذا حضرتْ جنازةٌ أو حضر مجلسُ عالم [علم] أيُّهما أحبُّ إليكَ أنْ أشهد؟
فقالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلّم:
«إذا كانَ للجنازةِ مَنْ يتبَعُها ويَدْفُنُنها فإنَّ حضورَ مجلسِ العِلْمِ أفضلُ مِن حضورِ ألفِ جَنَازة، ومِن عيادةِ ألفِ مريضٍِ، ومِن قيامِ ألفِ ليلةٍ، ومِن صيامِ ألفِ يومٍ، ومن ألفِ درهمٍ يُتصدَّق بها على المساكين.. ومن.. ومن…
إلى أنْ قال صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم: وأين تقع هذه المشاهدُ من مشهد عالم، أما علمت أنَّ الله يُطاعُ بالعِلْمِ، ويُعبَدُ بالعِلْمِ، وخيرُ الدُّنيا والآخرة مع العلم، وشرُّ الدّنيا والآخرة مع الجهلِ».


• وقال أمير المؤمنين عليه السَّلام:
«إذا جَلَسَ المتعلم بين يدي العالم يفتح الله له سبعينَ بابًا مِنْ الرَّحمة، ويُعطى بكلِّ حديثٍ عبادةُ سنةٍ، ولا يقومُ مِن مقامِهِ إلَّا كيوم ولدتْهُ أمُّهُ».


• وقال أمير المؤمنين عليه السَّلام:
«جلوسُ ساعةٍ عند العلماءِ أحبُّ إلى اللهِ تعالى من عبادةِ سنةٍ لا يُعصى اللهُ فيها طرفةَ عين، والنظر إلى العالم أحبُّ إلى الله من اعتكافِ سنةٍ في البيت الحرام…».


• وفي بعض الأحاديث أنَّ زيارة العلماء أفضلُ من سبعين طوافًا حولَ البيت، وأنَّ الله يرفع له [الزائر] سبعين درجةً، ويكتبُ له بكلِّ حرفٍ حجةً مقبولة، ويُنزلُ عليه الرحمةَ، وتشهدُ له الملائكةُ بأنّهُ قد وجبت له الجنَّة..


• وقال رسول الله صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم:
«ما مِن مُتعلِّم يختلف إلى باب العلم إلَّا كتب اللهُ له بكلِّ قدم عبادةَ سنة».


• وقال لقمان لابنه وهو يعظه:
«يا بُنيَّ اجعلْ في أيامِكَ ولياليكَ وساعاتِكَ نصيبًا لك في طلبِ العلْمِ، فإنَّكَ لن تجدَ لكَ تضييعًا مِثْلَ تركِهِ».
كم هو كبير وكبير جدًا هذا العطاءُ لِحُضَّار مجالسِ التعلُّم، ودروسِ التفقُّه في الدِّين، فهو ينتج بصيرةً، ووعيًا، وفهمًا، وثقافة، لذا كان الثواب عظيمًا وعظيمًا جدًا.
وهنا سؤال يُطرح: هل أنَّ هذا الثوابَ العظيم جدًا لمجرد أنْ يحضرَ إنسانٌ درسًا دينيًا، أو محاضرةً إيمانيةً، أو جلسةَ علمٍ وفقهٍ؟
المسألة هي كذلك، ولكن متى توفَّرتْ مجموعة شروط…
ما الشروطُ اللازمة لكي يحظى حُضَّارُ الدروسِ الدينية وفعَّالياتِ التفقُّه بهذا الثواب العظيم؟
هذا ما يتناولُهُ حديث قادم إنْ شاء الله تعالى.


لكي يبدأَ مشوارُ الإصلاح:


لا خيارَ أمامَ هذا الوطنِ إلَّا أنْ يبدأ مِشوارُ الإصلاح.
وواهمٌ كلَّ الوهمِ مَنْ يعتقدُ أنْ لا حاجةَ إلى الإصلاح، بل مكابرٌ كلَّ المكابرةِ مَنْ يدَّعي أنْ لا أزمةَ في هذا الوطن، نعم قد تختلفُ الرؤيةُ حول الأزمة…
المشهدُ الرّاهنُ يقول: هُنَا أزمةٌ، هُنَا مُشكلٌ، هُنَا احتقانٌ، هُنَا تداعياتٌ، هُنَا مَخاضَاتٌ، هُنَا احتجاجاتٌ، هُنَا مواجهاتٌ، هُنَا اعتقالاتٌ، هُنَا محاكماتٌ، هُنَا خلافاتٌ، هُنَا صِراعاتٌ، هُنَا توتراتٌ، هُنَا… هُنَا… هُنَا…


فهلْ مِن الرُشدِ أنْ يَدَّعي مُدَّعي أنْ لا أزمةَ في هذا الوطن؟
وهلْ مِن الرُشدِ أنْ يتوهَّمَ مُتوهِّمٌ أنْ لا حاجةَ إلى الإصلاح؟
وهلْ مِن الرُشدِ أنْ يقولَ قائلٌ أنَّ أزمةَ هذا الوطنِ عَصِيَّةٌ على الإصلاح؟
الرشدُ كلُّ الرشدِ يقولُ في هذا البلدِ أزمة..
والرشدُ كلُّ الرشدِ يقولُ أنَّ الأزمةَ في حاجة إلى إصلاح…
والرشدُ كلُّ الرشدِ يقول أنَّ الإصلاحَ ليس أمرًا عَصيًّا…


فأمام الوطن أحدُ خَيارين:
خَيارُ الإصلاح: وفيه كلُّ الخيرِ لهذا الوطن، وكلُّ الصَّلاحِ، وكلُّ العدلِ، وكلُّ الأمنِ، وكلُّ الاستقرارِ، وكلُّ الازدهارِ، وكلُّ الإنصافِ، وكلُّ المحبَّة، وكلُّ التآلف، وكلُّ الأمل…


وخَيارٌ آخر مضادٌ للإصلاح: وفيه كلُّ الشرِّ لهذا الوطنِ، وكلُّ الفَسَادِ، وكلُّ الظُلم، وكلُّ الرُّعب، وكلُّ التأزم، وكلُّ الضمور، وكلُّ السُّوءِ، وكلُّ الكراهيةِ، وكلُّ الخلافِ، وكلُّ اليأسِ…


وربما حَدَثَ اختلافٌ فيما هو الإصلاحُ، وفيما هو الإفسادُ، فترى بعضُ أنظمةِ الحكمِ وَضْعًا ما إصلاحًا، وتراهُ الشُّعوبُ إفسادًا، والمرجع هنا هو (المعايير) المعتمدة دَوْليًا في تحديدِ مفهومِ الإصلاح، وتطبيقاتِ الإصلاح، وما عادَ المفهومُ غائمًا، وما عادتْ التطبيقاتُ مُلْتبسَةً، وما عادَ الجدلُ في مفهومِ الإصلاح…


كيفَ يمكنُ أنْ يتحرَّكَ مشروعُ الإصلاحِ السِّياسيِّ في هذا الوطنِ؟
هذا التحرُّك في حاجة إلى مجموعة خطوات من أهمِّها:
الخُطوةُ الأُولى: أنْ تتشكَّلَ القناعةُ الحقيقيةُ بوجودِ الحاجةِ إلى الإصلاح السِّياسي وهذا يعني الاعتراف بأنَّ هنا وضعًا في حاجة إلى إصلاح، أمَّا إذا كانَ النظام لا يعتبر الأوضاع القائمةَ في حاجةٍ إلى إصلاح، فلن تتشكَّلَ لديهِ القناعة بضرورةِ التغيير…


ربما تشكَّلت القناعةُ لدى النظام بضرورة الإصلاح السِّياسي، إلَّا أنَّ مُستوى الإصلاحِ المطروح لا يملأ قناعةَ الشَّعب، وهنا يبرزُ مُعوِّقٌ صعبٌ يواجهُ حركةَ المشروع، فلا بدَّ لكي يتحرَّكَ هذا المشروعُ الإصلاحيَّ أنْ يُلبِّي مُستوى من قناعةِ الشَّعبِ…


الخُطوةُ الثانيةُ: وهي تعتبرُ أولَ خطوةٍ عمليةٍ في حركة الإصلاحِ السِّياسي، هذه الخطوة هي عبارةٌ عن (إنتاج الثِّقةِ) والتي أصابها الكثير من الاهتزاز والعطبِ بسبب مآلاتِ وتداعياتِ الأوضاع والأحداث، وما لم يُعادَ إنتاجِ هذه الثِّقة فلا يمكن أنْ ينطلق مشروعُ الإصلاحِ، ويمتلكُ النظامُ كلَّ القُدْرة لإعادة إنتاج هذه الثِّقة، ويمتلكُ الشعبُ كلَّ القُدرةَ للتعاطي مع هذا الإنتاج…
وأعتقدُ أنَّ إنهاءَ القَسْوةِ الأمنيةِ خُطوةٌ مُهمَّةٌ في طريقِ إنتاجِ الثِّقةِ…
وإذا كانَ النظامُ لا يعتبر ما يحدثُ قسوةً أمنيةً بل هو ضرورة أمنية، فإنَّ الشعبَ يعتبره درجةً عاليةً مِن القَسْوةِ الأمنية، فما لم ينتهِ هذا الوضع فلن ينفتحَ الطريقُ أمامَ إنتاجِ الثِّقةِ، وما لم تتمْ إنتاجُ الثِّقةِ فسوفَ يتعثَّرُ أيُّ مسارٍ للإصلاح…


فلا بدَّ من إنهاء القسوةَ الأمنية، واستبدالها بالرحمة، وكم هي الرحمة بالرَّعية مهمَّةٌ جدًا، فالراعي الذي يحملُّ كلَّ الرحمةِ لرعيَّتهِ، وكلَّ الرأفةِ، وكلَّ الرفقِ يقتحمُ القلوبَ، ويتجذَّر فيها، ويملكُ ثقَتها، وحُبَّها، وإخلاصَها، بخلافِ العُنْفِ، والقَسوةِ، والشِّدّة، فهي تقتلُ الثِّقة، وتزرعُ الكراهية، وتؤزِّمُ القلوب…


جاءَ في عهدِ أمير المؤمنين عليه السَّلام إلى مالكٍ الأشتر حينما ولَّاه على مصر: «وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، والْمَحَبَّةَ لَهُمْ، واللُّطْفَ بِهِمْ. ولا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعًا ضَارِيًا، تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، أَو نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ».


كم يعبِّرُ هذا النّصُ عن (أعظم وثيقةٍ حقوقيةٍ إنسانيةٍ) لم تستطعْ كلُّ وثائقِ حقوقِ الإنسانِ في هذا العصر أنْ تقتربَ من مستواها…


هذا المقطعُ مِن كلامِ أمير المؤمنين عليه السَّلام يُؤسِّسُ للعلاقةِ بين الرَّاعي والرعيَّةِ يعني بين الحاكمِ والشَّعب، هذه العلاقة القائمةُ على أساسِ (الرَّحْمَةَ والْمَحَبَّةَ واللُّطْفَ) وليس على أساسِ (القسوةِ والكراهيّةِ والعُنْفِ) بحيثُ يتحوَّلُ الراعي أو الحاكمُ سَبُعًا ضَاريًا همُّهُ أنْ يفترسَ رعيّتَه أو شعبَهُ، وأنْ يتسلَّط على المقدَّراتِ، ولماذا يكون كذلك وجودًا مُرعبًا لرعيتِهِ أو لشعبِهِ وهم إخوتُهُ في الدِّين أو إخوتُهُ في الإنسانية..؟!


نخلصُ إلى القولِ ونحنُ نحاولُ أنْ نقاربَ أزمةَ هذا الوطنِ أنَّ (إنتاج الثِّقةِ) هو أوّلُ خطوةٍ في طريقِ الإصلاح، ولا يُمكنُ أنْ تبدأ هذه الخُطوةُ إلَّا بإنهاءِ القسوةِ الأمنيةِ التي أصبحتْ تُقلقُ الكثير من أبناءِ هذا الوطن، في بيوتهم، وفي قراهم، وفي مدنهم، وفي شوارعِهم، وفي معتقلاتِهم كما شاعَ هذه الأيام عن أحداث سجن جو، وكما تردَّد من اعتداءٍ على المعتقلين، وهناك حديث عن إصابات وانتهاكات، وإنْ كانت الرِّوايةُ الرَّسميةُ تقول: أنَّ أعمالَ شغبٍ حدثتْ وتمَّ إيقافُها، المطلوبُ تشكيل لجنة محايدة للكشف عن أوضاع السجناءِ وعن ظروفهم في داخل السجون، وأن يسمح للموفد الأممي بزيارة البحرين للإطلاع على هذه الأوضاع وهذه الظروف…


نعم بإنهاء القَسوةِ الأمنيةِ تبدأُ عمليةُ إنتاجِ الثقةِ، وكما نطالبُ الحكمَ بممارسةِ (الرَّحْمَةَ والْمَحَبَّةَ واللُّطْفَ) ونبذ (القسوة الأمنية)، فكذلك الشعبُ مطالبٌ أنْ يكونَ مملوءًا رحمةً ومحبَّةً ولطفًا وتسامحًا ومتحرِّرًا من أيِّ نُزوُعٍ نحو العنف والتطرُّف في خِطابِهِ، وحَرَاكِهِ، وممارساتِهِ وهكذا تتكامل الأدوارُ في التأسيس لإنتاج الثِّقةِ بين الحكم والشَّعب، وبين مكوِّناتِ الشَّعب، وما لمْ يتمّ التأسيس لإنتاج الثِّقةِ، فلن يتحرَّكَ مشوارُ الإصلاحِ، وسوف تتعثَّرُ الجهودُ، ويتكرَّسُ اليأسُ، ويكونُ الخاسرُ هو الوطنُ.


للحديث تتمَّةٌ إنْ شاء الله…


كلمة أخيرة:


إنَّ استمرار احتجاز واستمرار محاكمة سماحة الشيخ علي سلمان يُشكِّل أحد أهمِّ المؤزِّمات للمشهد السِّياسي والأمني في هذا البلد، هذا ما تتحدَّث به منظمات حقوقية، وتصريحات رسمية لدولٍ تعدُّ صديقةً للبحرين، وليس فقط ما تطرحه قوى المعارضة، فمن الرشد حرصًا على مصلحة هذا الوطن أنْ تُحسم قضية الشيخ علي سلمان بالشكل الذي لا يُعقِّد ولا يؤزِّم الأوضاع، فسماحته أحد أعمدة الحلّ السلمي، وأحدُ صُنَّاع المصالحة الوطنية، فلا يصح أنْ يبقى مرتهنًا في زنزانةٍ أو في سجن…


وَآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى