حديث الجمعةشهر ربيع الثاني

حديث الجمعة 359: العامل علي غير بصيرة – جماهيرنا أكّدت خيارها

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيّد الأنبياء والمرسلين محمّدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين وبعد فمع أكثر من عنوان…


العامل علي غير بصيرة:
في الكلمة لإمامنا الصَّادق عليه السَّلام قال:
((العامل على غيرِ بصيرٍ كالسّائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلّا بُعدًا))


الذين لا يملكون البصيرة الدينية ينحرفون عن طريق الدين الحق..
إنّهم يحسبون أنّهم على جادّة الدين، ولكنّهم واهمون، كلّما توغلوا في هذا الوهم أشتد بُعدهم عن الدين..
وكذلك لا يملكون البصيرة السّياسية ينحرفون عن طريق السّياسة الحقّة، إنّهم يحسبون أنّهم على جادّة السّياسة الصّائبة، ولكنهم أبعد ما يكونوا عن الصواب، فيتورطون ويُورّطون مَنْ تمسّه سياستهم، لا فرق أنْ يكون هؤلاء السّاسة حكامًا أو قوى ناشطة أو جماهير فكم عانت شعوب من سياسات الحكّام الخاطئة وكم ارتبكت أوضاعٌ من حراكات غير بصيرة وكم تاهت جماهير لا تملك وعيًا سياسيًا…


البصيرة في الدين، في الثقافة، في السّياسة، في التربية، في كلّ المجالات هي التي تحصّن المسارات وتحمي الأهداف…
إذا أردنا أن نقرأ التاريخ فسوف نجد شواهد للدين الذي لا يملك البصيرة، وللسّياسة التي لا تملك البصيرة من هذه الشواهد:
فرقة الخوارج الذين عرفوا بتصلّبهم في الدّين، ولكن أيّ دين هذا؟ عُرِفَ الخوارج بأصحاب الجباه السُود لكثرة عبادتهم وسجودهم.. كانوا يحيون اللّيل بالصَّلاة وتلاوة القرآن..


من قصصهم في طريقهم إلى حرب النهروان مرّوا ببستان، وامتدت يد أحدهم إلى ثمرة فاقتطفها، ووضعها في فمه، فصاحوا به قائلين: لقد ارتبكت إثمًا عظيمًا، فلفظ الثمرة من فيه…
وفي طريقهم أيضًا هوّوا بخنزير في الصحراء فقتله أحدهم فصرخوا فيه لقد أفسدت في الأرض…


ثمّ أنظروا الوجه الآخر من تديّنهم وورعهم:
مرّ بهم (عبد الله بن الجناب) صحابي جليل وهو يحمل القرآن، ومعه زوجته وهي حامل في الشهر الأخير، فجرّوه إلى شاطئ النهر، وذبحوه، وجاءوا بزوجته فبقروا بطنها، وذبحوها مع ولدها إلى جانبه..!!
والأشدّ من هذا والأسوء أنّهم أعلنوا التمرّد والحرب ضدّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله: ((مَنْ أحبَّ عليًّا فقد أحبني، ومن أبغض عليًّ فقد أبغضني، ومَنْ آذى عليًّا فقد آذاني، ومَنْ آذاني فقد آذى الله عزّ وجلّ))، وقال فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله: ((سلمك سلمي، وحربك حربي))..
هؤلاء العبّاد التهجدون أصحاب الجباه السود خرجوا ليتقربوا إلى الله بقتل عليّ بن أبي طالب!! أيّ دين هذا، وأيّ تهجّد وأيّ عبادة؟! أنّه العمى والتيه والضلال هؤلاء لا يملكون البصيرة في الدّين…


وكم في عصرنا هذا من نماذج يحملون هذا النمط من الدين، ومن أبرز المصاديق ((جماعات التكفير)) التي فقدت كلّ البصيرة، فراحت باسم الدّين تقتل، وتذبح، وتهتك أعراضًا، ولا تستثني طفلًا، ولا شيخًا، ولا امرأة.. كلّ الدماء مباحة في دينها، وكلّ الأرواح هدفًا مشروعًا، إلّا مَنْ بايع لأميرها وانتمى إلى صفوفها…


وشاهد آخر من التاريخ:
لقد مارس حكّام السّياسة في تاريخ المسلمين، بدءًا مِن حكّام بني أمية دورًا كبيرًا في إنتاج جماهير تحمل دينًا بلا بصيرة، دينًا مصاغًا وفق مقاسات الأنظمة الحاكمة، دينًا مُزوّرًا.. فأصبح سب ولعن عليّ بن أبي طالب ومعاداة الأئمة من أهل البيت دينًا يتقرّب النّاس به إلى الله تعالى…
أصدر الحكم الأموي قرارًا بوجوب لعن عليّ بن أبي طالب…
وإذا بسبعين ألف منبرٍ من منابر الدين يرتفع من فوقها لعن عليّ بن أبي طالب…
بل صار من المستحبات الدينية أنْ يلعن عليّ عليه السَّلام غداةً سبعين مرة، وعشاءً سبعين مرة…
وصدرت فتاوى دينية تقول: أنّ صلاة الجمعة لا تصح بغير لعن عليّ بن أبي طالب..
وتحدّثنا كتب التاريخ أنّه أبطل عمر بن عبد العزيز بدعة ((سبّ الإمام عليّ)) وعندما جاء إلى المسجد تصايح النّاس من كلّ جانب ((السّنة السنة يا أمير المؤمنين))
هذا هو الدّين الذي أنتجه الحكم الأموي… وهكذا اسمرت أنظمة الحكم الفاسدة في العبث بالمضمون الحقيقي للدين من أجل صوغ جماهير لا تملك وعيًا بالدين، ولا تملك وعيًا بالسياسة، لكي تنقاد لأنظمة الحكم كما تنقاد النعاج والخراف…


أذكر لكم هذه القصة التاريخية…
دخل رجلٌ من أهل العراق إلى الشام على بعير له، فتعلق به رجل شامي قائلًا: هذه ناقتي أخذت مني يوم صفين.. فارتفع أمره إلى معاوية فأقام الشامي خمسين رجلًا يشهدون أنّها ناقته، فقضى له معاوية
فصاح الكوفي: أصلحك الله أنّه جمل وليس بناقة
فقال معاوية: هذا أمر قد مضى..
وبعد تفرقهم دسّ إلى الكوفي فأحضره وسأله عن بعيره، فدفع له ضعفه، وأحسن إليه وقال له: أبلغ عليًّا أنّي أقابله بمائة ألف ما فيهم مَنْ يُفرّق بن الناقة والجمل…


كم هو مرعب لأنظمة الحكم الفاسدة أنْ تملك الشعوب وعيًا دينيًا، ورشدًا سياسيًا، لأنّ هذه الشعوب لا يمكن أنْ ترضى بأنظمة فاسدة، ولا يمكن أنْ تستسلم لسياسات ظالمة، لا يقنعها إلّا العدل، وإلّا الإصلاح، وإلّا الكرامة، وإذا غاب ذلك فلا خيار أمامها إلّا الكفاح من أجل أهدافها الكبيرة، ومن أجل مطالبها الحقّة…


 


جماهيرنا أكّدت خيارها:
بوركت عزائم الجماهير، رجالًا، نساءً، شيوخًا، كهولًا، شبابًا، فتيانًا، أطفالًا، علماءَ، مثقفين، معلمين، طلابًا، سياسيين، قانونيين، حقوقيين، رجال إعلام وصحافة، عمالًا، موظفين، تجارًا، ومن كلّ المواقع…


لقد أكّدت هذه الجماهير خيارَها في استمرار الحراك تنتصر إرادتُها، وتحقّق أهدافُها، مهما طال هذا الدرب، ومهما غلت الأثمان، ومهما بهظت التكاليف…


لقد أكّدت الجماهير إصرارها على الثبات والصمود في هذا الطريق، مادامت المطالب عادلة ومشروعة ومادام النهج سلميًّا…
إنّ شعبًا عاش المعاناة طيلة هذا التاريخ، وأعطى دماءً وأرواحًا، وامتلأت بنا شطية وأبنائنا سجون وزنزانات، وواجه أقسى ألوان العقاب، وتحمّل ما تحمّل من مضايقات، وشاهد ما شاهد من انتهاكات طالت الأنفس والأموال والأعراض والمقدّسات، وحاصرته أوضاعٌ أمنية مرعبة، والمشهد مليءٌ مليء بالآلام والآهات والدموع…


إنّ هذا الشعب لا يمكن أنْ يتنازل، أنْ يتراجع، أن تنكسر إرادتُه، أنْ يقبل بحلولٍ هشّة، وحلولٍ ترقيعية، وحلولٍ وهمية…


شعبنا يطالب بإصلاح حقيقي يُساوي بين أبناء هذا الوطن في الحقوق والواجبات، ويرفض كلّ أشكال التمييز، وكلّ أشكال الطائفية، وكلّ أشكال الإقصاء، والاستئثار…


لم يطالب شعبُنا من خلال حراكه بأكثر مِن أنْ يكون لكلِّ من ينتمي لهذا الوطن حقّ المواطنة وحقّ العيش بكرامة، بكلّ طوائفه ومذاهبِه وانتماءاتِه ومكوّناتِه…


كلُّ الشعاراتِ التي رفعها هذا الحَراكُ السلمي ومنذ انطلاقته تتمركز حول هذا الهدف، وهو هدف مشروع وفق كلّ المعايير الدينية والإنسانية والقانونية…


إنّ اعتماد نهج العنفِ والبطش والقوة المفرطة في مواجهة هذا الحراك السلمي ومن حين بدأت انطلاقاتُه يُعبّر عن إفلاس سياسي، أدخل هذا البلد في مآزق شديدة التعقيد، وهي آخذة بالأوضاع إلى مآلات مرعبة، ما لم يستيقظ العقل والضمير ويعود الرشد السّياسي ويتوقف النهج الخاطئ ليبدأ الخيار الصحيح في اتجاه البحث عن الحل الحقيقي…


ليس مخلصًا لهذا الوطن مَنْ لا يريد إنقاذه مِن هذا الواقع المأزوم…
وليس مخلصًا لهذا الوطن مَنْ يصرّ على استمرار النهج التأزيمي، نهج العنف والبطش والرصاص…


خاطئ وواهم كلّ الوهم مَنْ يعتقد أنّ هذا النهج سوف يقود البلد إلى الخير والأمن والاستقرار…


كلّما سقطت قطرةُ دمٍ من مواطن أو من رجل أمن زادت في تأزيم الأوضاع، وتعقيد العلاج، والدفع في اتجاه ردود الفعل غير محسوبة، ومَنْ يتحمّل المسؤولية؟


السَّلطة أوّلًا وثانيًا وثالثًا… وإذا كان لقوى الشارع أن تتحمّل بعض المسؤولية فهي في مرحلة متأخرة…


بيد النظام الحلّ، وبيد النظام القرار، وإذا تعطّل الحلّ، وغاب القرار، فهو مسؤولية النظام، وليس مسؤولية الشعب، لا يعني هذا أنْ الشعب لا يمثّل مفصلًا أساسًا في إنتاج الحلّ، كلّ حلٍّ لا يصوّت عليه الشعب هو حلٌّ فاشل وحلٌّ مرفوض، حتّى لو اجتمعت عليه السَّلطة وجميع القوى السّياسية، صحيح أنّ القوى السّياسية التي تعبّر عن مطالب الجماهير لا يمكن أنْ توافق على حلّ لا يلبّي مطالب الشعب العادلة، لأنّ هذه القوى ولدت من رحم هذا الشعب ومن واقع معاناته فلا يمكن أنْ تفرّط بمصالح الشعب، وأن تخون أهدافه، نعم القُوى التي لم ينْجبها رحم الشعب، ولم تحمل همومه ومعاناتهِ، فلا يُعنيها أنْ تسقط كلُّ مطالب الشعب، وأنْ تبقى آلامه، وأوجاعُه، وأزماتُه، مادامت هي تنعم بكلّ العطايات التي يفيض بها كرمُ النظام…


لماذا تصرّ بعض القوى على رفض الاستفتاء الشعبي حول ما ينتجه أيّ حوار أو لقاء أو تفاهم؟


هنا احتمالان:
(الأول) أنّ هذه القوى معادية لمصالح الشعب…


(الثاني) إنّها واثقة كلّ الوثوق أنّ رأي غالبية الشعب سوف يأتي على خلاف رغبة هذه القوى ولذلك تصرّ على رفض اللجوء إلى رأي الشعب، في الوقت يؤكّد الميثاق ويؤكّد الدستور أنّ الشعب مصدر السلطات…


فسّروا لنا معنى هذه المادة، وهل يبقى لها وجود إذا كان الشعب لا رأي له في منتجات الحوار، ولا رأي له في اختيار سلطته التشريعية ولا رأي له في انتخاب حكومته، ولا رأي له في كلّ شؤون الحكم، فالأفضل أنْ تلغى هذه المادة من الميثاق والدستور أو تعدّل حتى لا تبقى تلاحق كلّ الذين يُصادرون رأي الشعب وهم يدّعون أنّهم يدافعون عن حقوق الشعب وهم يدّعون أنّهم يعبرون عن إرادة هذا الشعب، أينْ حقوق الشعب وأين إرادته إذا كان لا يُسمع إلى رأيه في القضايا المصيرية التي تمسُّه وتمسُّ كلّ أوضاعه وشؤون حياته…


كانت مسيرة السَّبت الماضي والتي شارفت على الثلاثمائة ألف مشارك – ولا يعنينا التقدير الرسمي والذي تكرّم وأعطى لهذه الحشود عددًا لا يتجاوز العشرين ألف- أقول كانت هذه المسَّيرة مقطعًا لاستفتاء شعبي قال كلمته ورأيته، وثبّت مطالبه وحقوقه بشكل لا يمكن أنْ يتجاوزه أيّ حلٍ يُصنع في مطابخ داخلية أو في مطابخ خارجية، وإلّا فالوطن سوف يبقى مرهونًا للأوضاع المأزومة وهذا ما لا يتمناه أيّ مخلص وغيور على هذا البلد، لا يخلّص هذا الوطن إلّا حلٌّ عادلٌ منصفٌ لا يظلم أحدًا من أبناء هذا الشعب، ولا يجور على أيّ طائفة أو مكوّن…


أمّا الإيغال في المريد من الممارسات الأمنية الباطشة، والمزيد من الأحكام القضائية القاسية، فلن يُحقّق إلّا المزيد من التأزيم والتعقيد، وإلّا المزيد من الاحتقان والتوتر، ويبقى الشعب هو الضحية، ويبقى الوطن هو الخاسر، فرفقًا بهذا الشعب ورفقًا بهذا الوطن يا ساسة البلاد…


وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
 


 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى