المكتبة المصورةبيانات تعزيةفعاليات مختلفة

كلمة العلاّمة الغريفي في الذكرى السنوية لرحيل العلَّامة الشَّيخ عبد الحسين السِّتري (قُدِّس سرُّه)

هذه الكلمة للعلَّامة السَّيِّد عبد الله الغريفي، قد تمَّ بثُّها في يوم الخميس (ليلة الجمعة) بتاريخ: (5 ربيع الأول 1442 هـ – الموافق 22 أكتوبر 2020 م) ضمن الحفل التأبيني الذي أقامته حوزة الغدير للدِّراسات الإسلاميَّة، بمناسبة الذِّكرى السَّنويَّة لرحيل العلَّامة الشَّيخ عبد الحسين السِّتري (قُدِّس سرُّه)، وقد تمَّ تفريغها من تسجيل مرئيٍّ، وتنسيقها بما يتناسب وعرضها مكتوبةً للقارئ الكريم.
كلمة في ذكرى رحيل العلَّامة الشَّيخ عبد الحسين السِّتري (قُدِّس سرُّه)

أعوذ بالله السَّميع العليم من الشَّيطان الغويِّ الرَّجيم
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين، سيِّدنا، ونبيِّنا، وحبيبنا، وقائدنا، محمَّد وعلى آله الطَّيِّبين الطَّاهرين المعصومين المُنْتَجَبِين.
السَّلام عليكم أحبَّتي في الله ورحمة الله وبركاته.

في ظِلال الذِّكرى
ونحن نعيش الذِّكرى السَّنويَّة لرحيل العلَّامة الكبير الشَّيخ الستري (رضوان الله عليه)، هذه كلمة.

إنَّ العلَّامة الشَّيخ السِّتري واحد من أبرز الرُّموز العُلمائيَّة الشَّاخصة في المرحلة الأخيرة (نصف القرن الأخير).
هذه قامة من قاماتنا العلميَّة السَّامقة الشَّامخة الكبيرة.

بصمة الحضور
الشَّيخ السِّتريُّ كان له حضوره الكبير.

1.الحضور العلميُّ
كان له حضور علميٌّ واضح على مستوى الدَّرس والتَّدريس، والعطاء العلميِّ، والعطاء الفكريّ.
كان له حضور يشهد له كلُّ النَّاس.

2.الحضور التَّبليغيُّ
وكان له حضور تبليغيٌّ.
كان يقول الكلمة.
كان يوجِّه.
كان يرشد.

3.الحضور الرُّوحيُّ
كان له حضور روحيٌّ.
كان نموذجًا روحيًّا متميِّزًا.
يحمل إشعاعات روحيَّة، وإشعاعات ربَّانيَّة.
كلُّ مَن يقترب منه يجد فيه هذه الإشعاعات الرُّوحيَّة.
فإلى جانب حضوره العلميِّ، وإلى جانب حضوره التَّبليغي كان له حضور روحيٌّ من خلال السِّمات الرُّوحيَّة التي يتَّصف بها هذا الإنسان.

4.الحضور الاجتماعيُّ
وكان له حضور اجتماعيٌّ واضح، في تواصلاته، وفي علاقاته، وفي تعاطيه مع قضايا النَّاس، وقضايا المجتمع، وليس في منطقة سترة فحسب، بل على مستوى البحرين كان له امتداد اجتماعيٌّ، وكان له حضور اجتماعيٌّ واضح.

5.الحضور في قضايا هذا الوطن
كان له حضور في قضايا الوطن.
لا أتحدَّثُ عن عنوان السِّياسة، لكن كانت هموم الوطن وهموم المواطن تشكِّل جزءًا من هموم هذا الإنسان.
كانت هذه مجرَّد عناوين.

كان بعيدًا عن العناوين
(وهكذا الصَّادقون المخلصون)
وحينما نقول: كان له حضور على المستوى العلميِّ، وعلى المستوى التَّبليغيِّ، وعلى المستوى الرُّوحيِّ، وعلى المستوى الاجتماعيِّ، وعلى مستوى قضايا الوطن، لم يكن يفتِّش عن عناوين.
يوجد بعض النَّاس يبرزون.
ويوجد بعض النَّاس يتموقعون في المجتمع، ولهم مواقع، ولهم صدارات، ولهم وجاهات في المجتمع، لكنَّهم كانوا يفكِّرون بالموقع!
أنْ يتموقعوا في مواقع متقدِّمة!
أنْ يبرزوا!
أنْ يظهروا!
أمَّا الشَّيخ (رضوان الله عليه)، فلم نعرف عنه أنَّه يبحث عن عناوين.
لقد كان في كلِّ عطاءاته.
وفي كلِّ نشاطاته.
وفي كلِّ حراكاته.
وفي كلِّ أدواره.
لم نقرأ في شخصيَّته أنَّها شخصيَّة تبحث عن مواقع، وتبحث عن عناوين.
وهذا هو عنوان الإخلاص الحقيقيِّ.
الإنسان المخلص هو الذي يعمل لله تعالى.
ويقول الكلمة لله تعالى.
ويبلِّغ لله تعالى.
يدرِّس لله تعالى.
يكتب لله تعالى.
يقضي حوائج النَّاس لله تعالى.
حينما يتمحور الإنسان حول الله سبحانه في كلِّ انطلاقاته، وفي كلِّ أعماله يكون مخلصًا، صادقًا.
الفقيد الكبير الشَّيخ السِّتريُّ قلت: كان لا يبحث عن عناوين، كان صادقًا.

العمل بهدوء!
كان يعمل بهدوء.
مَن يقترب منه يعرف تمامًا كم كان هادئًا كلَّ الهدوء، حتَّى يظنُّ النَّاس أنَّه لا يعمل لهدوئه، ولابتعاده عن الأضواء، وابتعاده عن العناوين.
قد يتصوَّر كثيرون أنَّه كان راكدًا، جامدًا، لا يعمل، إلَّا أنَّه يعمل ويعمل!
كان دؤوبًا في العمل.
كان نشطًا في العمل، إلَّا أنَّه كان هادئًا كلَّ الهدوء.
كان بعيدًا عن الأضواء كلِّ البعد.
كان لا يفتِّش عن العناوين.

متى اكتشف النَّاس دوره الكبير؟
يوم فقدوه.
يوم فقد النَّاس هذا الشَّخص الكبير وجدوا الفراغ.
وجدوا أنَّ هناك مساحاتٍ كانت تملأ بشكل هادئ، وبعيد عن الأضواء، وبعيد عن الضَّجيج.
لقد كان رحيله، وفقده ترك الفراغ الواضح.
بدأ النَّاس يتلمَّسون الدَّور الكبير الذي كان يمارسه هذا الإنسان، هذا العالم، هذا المجاهد.
إذًا، برحيله اكتشف النَّاس الفراغ الذي تركه!
فقد ترك فراغًا.
إذًا، كان يملأ مواقع.
كان يملأ قضايا.
كان يملأ حاجات.
بغيابه أصبحت هذه المواقع فارغة.
أصبحت هذه الحاجات غائبة.
إذًا، اكتشف النَّاس بغيابه، برحيله كم كان حاضرًا.
وكم كان مؤثِّرًا.
وكم كان فاعلًا في كثيرٍ من المواقع التي لا يعلم بها إلَّا الله تعالى.

متى ينبغي أنْ نتعرَّف على رموزنا؟
هذه مشكلة عندنا، وهي: إنَّنا لا نعرف رموزنا، علماءنا، شخصيَّاتنا إلَّا بعد رحيلهم.
بعد رحيلهم نفتِّش عن مواقع الفراغ، خسرنا، وخسرنا، وخسرنا!

لماذا بعد الرَّحيل فقط؟
مطلوب أنْ نعرف رموزنا، شخصيَّاتنا، علماءنا، كبارنا، العاملين فينا، أنْ نعرفهم في حياتهم، حتَّى نتعاطى معهم.
حتَّى نقف معهم.
حتَّى ندعمهم.
المشكلة أنَّنا نفتِّش عن مواقع الرَّاحلين.
نتحدَّث عن مواقعهم.
نتحدَّث عن أدوارهم.
نتحدَّث عن جهادهم بعد رحيلهم.
لماذا لا نكون الحاضرين معهم في حياتهم؟
لماذا لا نكون المتعاطين معهم في حياتهم؟
فمطلوب أنْ نتعرَّف على هذه الرُّموز، وهذه الشَّخصيَّات في حياتهم، بحيث:

1.نعرف قيمتهم العلميَّة.
فتعرَّفوا على القيمة العلميَّة لعلمائكم، لرموزكم، لشخصيَّاتكم.
اعرفوا هذه المقامات.
اعرفوا هذه المواقع.
2.تعرَّفوا على قيمتهم الرُّوحيَّة.
3.تعرَّفوا على قيمتهم الاجتماعيَّة.
4.تعرَّفوا على قيمتهم الرِّساليَّة.

تعرَّفوا عليهم في حياتهم، لا أنَّه بعد أنْ يرحل هذا العالم، أو هذا الرَّمز، أو هذه الشَّخصيَّة نبدأ نتحدَّث عن قِيَمِهِ العلميَّة، دوره العلميِّ، ودوره الرُّوحيِّ، ودوره الاجتماعيِّ، والثَّقافيِّ، والتَّبليغيِّ، والرِّساليِّ.
هذا مطلوب أنْ نتحدَّث عنه.

لكن أقول: لماذا لا نكون الحاضرين مع رموزنا، ومع شخصيَّاتنا في حياتهم.
لأنْ نكون الحاضرين معهم في حياتهم.
نعطيهم دفعًا.
نعطيهم قوَّةً.
نعطيهم دعمًا.
نعطيهم تأييدًا.
وهذا يعطي مزيدًا من حراكهم.
وهذا يعطي مزيدًا من نشاطهم.
حينما تلتفُّ الأمَّة حول الرُّموز.
حول الشَّخصيَّات العُلمائيَّة.
حول المواقع الاجتماعيَّة.
يكون العطاء أكبر، ويكون التَّأثير أكبر، ويكون النَّتاج أكبر.
إذًا، مطلوب أنْ نلتفَّ حولهم في حياتهم، لا أنْ نمجِّدهم بعد الرَّحيل.
هو مطلوب أنْ نبقى نذكرهم بعد رحيلهم، لكن أقول: مطلوب أنْ نتعاطى مع الرُّموز، مع الشَّخصيَّات، مع العلماء في حياتهم؛ حتَّى نعطيهم دَفعًا، قوَّةً، نشاطًا، تأييدًا، دعمًا، إسنادًا، وهذا يعطيهم مزيدًا من العطاء.
ومزيدًا من العمل.
ومزيدًا من النِّشاط.
ومزيدًا من الدَّور.

لا قيمة للعلاقات المزاجيَّة المفرَّغة من الوعي
وإنَّنا عندما نؤكِّد على ضرورة العلاقة مع الرُّموز.
وضرورة العلاقة مع الشَّخصيَّات العلمائيَّة، والمواقع الثَّقافيَّة.
والمواقع الاجتماعيَّة التي تخدم أهداف الأُمَّة، وأهداف الرِّسالة، وأهداف الدِّين.
حينما نؤكِّد على ترسيخ هذه العلاقة بين الأُمَّة وبين هذه الرُّموز لا نريدها علاقة عاطفيَّة مزاجيَّة، ذلك لأنَّ العلاقة العاطفيَّة المزاجيَّة وحدَها لا تصنع شيئًا.
ومطلوب التَّفاعل الوجدانيُّ، لكن نريدها علاقة عاقلة، رشيدة، واعية، متبصِّرة، وليست مجرَّد مَزَاجات، وانفعالات.

تأصيل العلاقة بين الأعلام الرَّاحلين وأجيال الأمَّة
بعد هذه المقدمة نطرح هذا السُّؤال:
كيف نؤصِّل العلاقة بين أعلامنا الرَّاحلين، وأجيال الأمَّة؟
عندنا نماذج كثيرة.
تاريخ طويل من شخصيَّات علمائيَّة، من رموز رحلوا إلى جوار ربِّهم، هل تنقطع العلاقة معهم؟
الرَّاحلون من رموزنا، من علمائنا، من شخصيَّاتنا، من فقهائنا، من فضلائنا، من خطبائنا، من الرُّموز الكبيرة في السَّاحة، فهل أنَّ رحيلهم يعني انقطاع العلاقة معهم؟
أنْ تنقطع علاقة الأجيال؟
أنْ تنقطع علاقة المعاصرين لهم، وعلاقة الأجيال اللَّاحقة؟
فهل تنقطع هذه العلاقة؟
لا!، يجب أنْ تبقى هذه العلاقة.
يجب أنْ يؤصَّل لهذه العلاقة بين هؤلاء الرُّموز الرَّاحلين وبين أجيال الأُمَّة.

كيفيَّة التَّأصيل
السُّؤال هنا كيف نؤصِّل؟
السُّؤال مهمٌّ؟
يجب أنْ نضعه أمامنا.
يجب أنْ نفتِّش عن الوسائل الصَّحيحة الأصيلة التي تؤصِّل، وتعمِّق العلاقة بين أجيالنا، أجيال الأُمَّة، وبين رموزها الرَّاحلة.

أنا قلت: لا بدَّ أنْ نؤصِّل العلاقة لهؤلاء الرُّموز في حياتهم، ولكن هذا لا يعني أنْ لا نفكِّر كيف نؤصَّل العلاقة بعد رحيلهم؟
كثير من رموز الأُمَّة، من شخصيَّاتها، من علمائها تبقى للتَّاريخ، تبقى في التَّاريخ.
الأُمَّة تسدل السِّتار على هذه الرُّموز.
تغيب عن الأمَّة كلَّ الغياب.
إذًا، مطلوب أنْ نفكِّر كيف نربط علاقتنا بهذه الرَّموز، والفقيد الشَّيخ السِّتريُّ واحد من رموز هذه الأُمَّة العلمائيَّة، العِلميَّة، الرُّوحيَّة، الأخلاقيَّة.

وسائل تأصيل العلاقة بين الرُّموز الأعلام
هناك مجموعة وسائل باختصار – هذه الوسائل هي وسائل تأصيل العلاقة بين الأعلام الرُّموز الرَّاحلين بين الأجيال أجيال الأمَّة -، ما هي هذه الوسائل؟
أذكر أربع وسائل، وهي وسائل متكاملة فيما بينها.
الوسيلة الأولى: الإبقاء في ذاكرة الاجيال
أنْ نُبقي هؤلاء الرُّموز الرَّاحلين إلى عالم الآخرة في ذاكرة الأجيال.
الأجيال عندها ذاكرة، قد تُمسح من هذه الذَّاكرة الكثيرُ من الشَّخصيَّات، والكثير من الأحداث، وقد لا تبقى في الذَّاكرة!
إذًا، نحتاج إلى ما يؤسِّس لبقاء قضايا، وبقاء رموز في ذاكرة الأجيال.
كيف نؤسِّس لبقاء الرُّموز في الذَّاكرة؟
أقول: في الذَّاكرة، عدم النسيان.
بأن لا ننسى.
لا يغيبون عن ذاكرتنا.
لا يلفُّهم النِّسيان، والإغفال، والإهمال.
كيف نؤسِّس لبقاء الرُّموز والشَّخصيَّات في ذاكرتنا؟
والفقيد واحد من هؤلاء الرُّموز.
هناك وسائل قد لا يتَّسع المجال لتناولها.
هناك أدوات لتحقيق هذا التَّأصيل، في الذَّاكرة.
هنا أتحدَّث عن الذَّاكرة.

أدوات التَّأصيل في الذَّاكرة
هناك أدوات لتأصيل الرُّموز في الذَّاكرة، ذاكرة الأجيال.
الأداة الأولى – من أدوات تأصيل التَّأسيس لذاكرة الأجيال، وتأصيل الرُّموز في ذاكرة الأجيال-: إحياء ذكرياتهم
تمرُّ مناسبات رحيلهم فنحييها، نتحدَّث عنهم، نتكلَّم عنهم.
هذه وسيلة.
إنَّنا كيف نؤصِّل الآن لرموزنا؟ النَّبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، وأهل البيت (عليهم السَّلام)، الشَّخصيَّات الكبيرة في الإسلام.
هو أنْ نحيي ذكرياتهم.
إحياء الذِّكريات أداة من أدوات تأصيل الشَّخصيَّات، أو ملء الذَّاكرة بالشَّخصيَّات.
عندما تمرُّ الذِّكرى نحييها، فهذا يجدِّد علاقة أجيالنا برموزها.
وقد يقول البعض: هل يعني كلُّ شخصيَّة من شخصياتنا – مئات، آلاف الشَّخصيَّات – كلُّ شخصيَّة نحيي ذكرياتها؟
أنا دائمًا أقول: يمكن أنْ تكون هناك ملتقيات تؤسِّس لذاكرة الأجيال.
ليس شرطًا أنْ يكون لكلِّ عالم إحياء خاصٌّ، فيمكن من خلال مناسبة أو ملتقى يُتحدَّث عن 20 – 30 عالمًا من علماء هذا البلد.
إذًا، إحياء المناسبات، إحياء الذِّكريات أداة من أدوات تأصيل الرُّموز في الذَّاكرة.

الأداة الثَّانية: الكتابة
نكتب عن هؤلاء الرُّموز.
مَن يملك قدرة الكتابة، مَن يملك القلم، يكتب، يؤلِّف؛ من أجل أنْ يُعرِّف برموز الأمَّة، وبشخصيَّاتها العلميَّة، والرُّوحيَّة، والأخلاقيَّة، والاجتماعيَّة.
الكتابة أداة من أدوات تأصيل الرُّموز في الذَّاكرة.
الأداة الثَّالثة: المحاضرات، والنَّدوات
نقيم محاضرات، ونقيم ندوات.
نتحدَّث فيها عن رموز، وعن علماء، وعن شخصيَّات.
الأداة الرَّابعة: الحديث عنهم باستمرار
حتَّى ذلك يكون من خلال النَّاس العاديِّين الذين عاصروا شخصًا، ولنفرض الرَّمز القامة الشَّيخ الستري فقد عاش معه أناس كثيرون فيهم الفلَّاح، والكنَّاس، والإنسان العامل العادي إلَّا أنَّ هؤلاء النَاس العاديين يحتفظون بذكريات عنه، وهذه الذِّكريات عندما تستمر ويتم الحديث عنها، فهذا يعطي بقاءً، ويعطي حضورًا، من خلال: ربما لفتة قصيرة.
وربَّما نكتة سريعة.
وربما حديث عابر إلَّا أنَّه يحمل دلالة، فيُبقي الشَّخصيَّة.

مَن يتحمَّل مسؤوليَّة إبقاء الرُّموز في الذَّاكرة؟
قلنا: إنَّه من اللازم، ولكن مَن الَّذي يتحمَّل هذه المسؤوليَّة؟
1.الحوزات العلميَّة
إنَّ أوَّل مَن يتحمَّل هذه المسؤوليَّة حوزاتنا الدِّينيَّة – طبعًا -، هي معنيَّة بالرُّموز العلمائيَّة.
الحوزات معنيَّة بأنْ تعرِّف الأجيال بشخصيَّاتها.
أنْ تبقي هؤلاء الأجيال في الذَّاكرة.
فالحوزات هي المعنيَّة الأولى.

2.خريجو الحوزات
خريجو الحوزات من علماء، ومن خطباء، هم مسؤولون أنْ يبقوا هؤلاء الرُّموز في الذَّاكرة.
3.المثقَّفون العارفون
المثقَّفون العارفون مِمَّن عاصر العلماء والشَّخصيَّات، وكلُّ مَن له علاقة يتحمَّل هذه المسؤوليَّة.
هذه هي الوسيلة الأولى لتأصيل العلاقة بين الأعلام الرَّاحلين وبين الأجيال، أنْ نبقيهم في الذَّاكرة، فلا ينسى النَّاس هؤلاء الشَّخصيَّات.

الوسيلة الثَّانية: أنْ نبقي الرُّموز العلمائيَّة في وعي الأجيال
هناك فرق كبير بين البقاء في الذَّاكرة، والبقاء في الوعي!
يمكن نبقي النَّاس، نبقي الرُّموز في الذَّاكرة إلَّا أنَّنا لا نبقيهم في الوعي.
ليس كلُّ مَن كان في ذاكرتي فأنا أملك وعيًا عنه.
قد يبقى إنسان في ذاكرتي إلَّا أنَّني لا أفهم شيئًا عنه، ولا أملك وعيًا عنه!
ليس المطلوب أنْ أبقي الرَّمز في الذَّاكرة فقط – وإنْ كان هذا مطلوبًا.
فمطلوب جدًّا أولًا وبالذَّات أنْ أبقي الرَّمز العالم، القامة العلميَّة، والقامة الإيمانيَّة في ذاكرة أجيالي.
لكن لا بدَّ – أيضًا – أنْ أُغذِّي الذَّاكرة بوعي.
فهنا صنع وعي، لا صنع ذاكرة فقط!
هنا صنع وعي بأنْ افهم هذا الرَّمز.
أنْ أقرأ هذا الرَّمز.
أنْ أستوعب الكثير من مدرسته، ومنهجه، وعطائه.
ربَّما يبقى الرُّموز في الذَّاكرة، ولكنهم لا يبقون في الوعي، والفرق كبير جدًّا بين أنْ نُبقي رموزنا في الذَّاكرة وبين أنْ نُبقي رموزنا في الوعي، الفرق كبير!
إذًا، المطلوب حتَّى في مناسباتنا الدِّينيَّة – مع أنَّنا غالبًا ما نحاول أنْ نبقي المناسبات في ذاكرة أجيالنا – أن نُبقي وعي المناسبات، وليس فقط إبقاء المناسبات!
فعلاقاتنا مع الرُّموز الدِّينيَّة يجب أنْ لا تكون علاقة ذاكرة فقط، بل علاقة ذاكرة ووعي.
إذًا، هذه مسؤوليَّة الخطاب الدِّينيِّ في ربط الأجيال مع الرُّموز.
مع المناسبات.
مع الشَّخصيَّات.
وتأصيل للذَّاكرة وهو تأصيل للوعي.
مطلوب أنْ تبقى الرُّموز العلمائيَّة الرَّاحلة في ذاكرة الأجيال، وفي وعي الأجيال.
صحيح أنَّ صنع الوعي أصعب، فأنا – ربما – أستطيع بسهولة أنْ أبقي شخصًا في ذاكرتك!
لكن أن أدخله في وعيك فالمسألة تحتاج إلى جهد أكبر.
إنَّ الفرق واسع بين إبقاء الرُّموز في الذَّاكرة وإبقائهم في الوعي، فالوعي يحتاج إلى: ثقافة، ورؤى، وتصوُّرات، وفهم، ودراسة.
إذًا، الوسيلة الثَّانية هي إبقاء الرُّموز الشَّاخصة في وعي الأجيال.
إبقاؤهم أوَّلًا: في ذاكرة الأجيال.
وثانيًا: إبقاؤهم في وعي الأجيال.

الوسيلة الثَّالثة: أنْ نبقي الرُّموز في وجدان الأجيال
(العشق والانصهار)
إنَّنا في الوسيلة الأولى قد أدخلنا الرُّموز في الذَّاكرة.
وفي الوسيلة الثَّانية قد أدخلنا الرُّموز العلمائيَّة، والقامات العلميَّة، والاجتماعيَّة، والثَّقافيَّة في العقل.
والآن – في الوسيلة الثَّالثة – نحتاج إلى أنْ ندخلهم في الوجدان.
ربَّما يدخل الرَّمز الكبير في ذاكرتك، وفي عقلك.
لكنَّه لا يدخل في وجدانك!
الوجدان ذوبان، وانصهار، وعشق، هذا هو الوجدان.
لا أتحدَّث عن عاطفة عابرة، أو عاطفة متأجِّجة، وإنَّما أتحدَّث عن عشق، وعن ذوبان، وعن انصهار.
هذا نسميه ارتباطًا وجدانيًّا.
إنَّ صنع الوجدان يحتاج إلى صناعة أعماق الإنسان.
كيف نربط أعماق الإنسان الوجدانيَّة مع الرُّموز، ومع الشَّخصيَّات، ومع المواقع؟
وربما في ذلك صعوبة.
نعم نربطهم عاطفيًّا، فهذه مسألة سهلة، لكن ربطهم وجدانيًّا بمعنى ذوبان روحيٍّ، وذوبان وجداني فهذا يحتاج إلى جهد.
فالمطلوب أنْ نبقي الرُّموز في وجدان الأجيال.
أنْ نصنع العشق، عشق الأجيال لرموزنا، وعلمائنا.
انصهار الأجيال مع الرُّموز، ومع الشَّخصيَّات العلمائيَّة.
فإنتاج العشق، والانصهار أصعب من إنتاج الذَّاكرة، وإنتاج الوعي.
وكما قلت: العشق لا يعني العاطفة العاديَّة.
لا قيمة للذَّاكرة فقط.
ولا قيمة للثَّقافة فقط.
القيمة حينما يُصنع الانصهار، والذَّوبان.
أنت الآن علاقتك مع الله تعالى تارةً تكون علاقة ذاكرة، تذكر الله سبحانه، غير ناسٍ له سبحانه.
وتارة علاقة فيها وعي، فيها فهم لله تعالى.
ولكن حينما ترتقي العلاقة إلى ذوبان، انصهار، عشق لله تعالى، تكون العلاقة مختلفة.
هكذا العلاقة مع النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله).
هكذا العلاقة مع الأئمَّة (عليهم السَّلام).
هكذا العلاقة مع العلماء، مع الرُّموز، مع الشَّخصيَّات.
يجب أنْ ترتقي إلى مستوى الذَّوبان، والانصهار، والانقطاع.
فكيف نصنع العلاقة الوجدانيَّة مع هؤلاء الرُّموز؟
أنْ نتحدَّث – دائمًا – عن مواقفهم الإيمانيَّة الرَّوحانيَّة.
أنت كيف تؤجِّج العشق، وتصنع العشق لهؤلاء العلماء والرُّموز؟
كم لهم من مواقف إيمانيَّة، روحيَّة، أخلاقيَّة، وجدانيَّة، هذه تؤصِّل العلاقة الرَّوحيَّة.

الوسيلة الرَّابعة: أنْ نبقي الرُّموز في سلوك الأجيال
الوسيلة الأخيرة، وأختم حديثي.
الآن أبقينا الرُّموز في الذَّاكرة، وأبقينا الرُّموز في الوعي، وأبقينا الرُّموز في الوجدان، هل هذا كافٍ؟
أبقيناهم في ذاكرة الأجيال، وأبقيناهم في وعي الأجيال، وأبقيناهم في وجدان الأجيال، إلى هنا كافٍ؟
لا، بقيت الوسيلة الأهم والأكبر والأصعب هي أنْ نبقي هؤلاء الرَّموز في سلوك الأجيال.
هنا المشكلة الأصعب، ربما ليس هناك جهد كبير في إبقائهم في الذَّاكرة، أو إبقائهم في الوعي!
إبقاؤهم في الوعي أصعب من إبقاءهم في الذَّاكرة.
إبقاؤهم في الوجدان أصعب من إبقائهم في الوعي، لكن الأمر الأصعب هو أنْ نبقي هؤلاء الرُّموز في السُّلوك، في سلوك أجيالنا.
1.إذا كان للذَّاكرة قيمتها.
2.وللوعي قيمته.
3.وللوجدان كلِّ القيمة.
4.فإنَّ القيمة الكبرى للتَّمثُّل والسُّلوك، فـ:
‌أ- العلاقة مع الدِّين، علاقة ذاكرة، علاقة وعي، علاقة وجدان، هذه علاقة جميلة ومطلوبة، لكن العلاقة الحقيقيَّة مع الدِّين علاقة سلوك، علاقة تمثُّل، علاقة تجسيد، علاقة تطبيق أحكام، قِيم، مُثُل هي هذه العلاقة.
العلاقة مع القرآن الكريم، علاقة ذاكرة، علاقة وعي، علاقة وجدان، هذه العلاقة مطلوبة، لكن العلاقة الحقيقيَّة مع القرآن الكريم هي علاقة سلوك، علاقة ممارسة، وعلاقة عمل.
‌ب- وهكذا العلاقة مع شخصيَّات الدِّين، ورموز الدِّين هي علاقة ذاكرة، علاقة وعي، علاقة وجدان، هذه العلاقة مطلوبة، لكن العلاقة الأقوى والأصعب والأهم هي علاقة سلوك، وممارسة.

بُعْدَا التَّمثُّل والممارسة
والتَّمثُّل والممارسة لها بعدان:
البعد الأوَّل: السُّلوك الذَّاتيُّ
كيف نتمثَّل سلوك الرَّمز، عبادته، أخلاقه، تقواه، ورعه؟
هذا تمثُّل لسلوك الرَّمز الذَّاتيِّ.
كم هي عبادته؟
كم هي أخلاقه؟
كم هي تقواه؟
كم هو ورعه؟
هذا سلوك ذاتيٌّ.

البعد الثَّاني: السُّلوك الرِّساليُّ
ويوجد بعد آخر للتَّمثُّل، هو التَّمثُّل الرِّساليُّ.
سلوك الرِّساليِّ.
جهاده.
أمره بالمعروف.
نهيه عن المنكر.
حركته في الأُمَّة.
حركته في المجتمع.
هذا تمثُّل أيضًا.
هذا تمثُّل رساليٌّ.
فمطلوب أنْ نتمثَّل رموزنا تمثُّلًا في سلوكهم الذَّاتيِّن وتمثُّلًا في سلوكهم الرِّساليِّ.

الخلاصة
أنْ نحتفي بذكرى رحيل العلَّامة الشَّيخ السِّتري يعني:
أوَّلًا: يجب أنْ نجذِّره في ذَاكرة الأجيال.
ثانيًّا: يجب أنْ نجذِّره في وعي الأجيال.
ثالثًا: يجب أنْ نجذِّره في وجدان الأجيال.
رابعًا: يجب أنْ نجذِّره في سلوك الأجيال.
خامسًا: يجب أنْ نجذِّره في حَراك الأجيال.
الرَّحمة والرُّضوان للفقيد الكبير العلَّامة الشَّيخ السِّتري، والفاتحة إلى روحه الطَّاهرة.

والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى