حديث الجمعةشهر ربيع الثاني

حديث الجمعة 562: قصص القرآن منهج تربية وبناء (4)

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وعلى آلِهِ الهُداةِ الميامين.
وبعد:
قصص القرآن منهج تربية وبناء (4)

فقد قال الله تعالى في سورة الصَّافات، الآيات (101 – 110):

•﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ (الصَّافات/101)

لقد تقدَّم العمر بنبيِّ الله إبراهيم (عليه السَّلام) دون أنْ يُرزق ولدًا، وكان يُلحُّ في الدُّعاء قائلًا:
•﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (الصَّافات/100)

أي ارزقني يا ربِّ ولدًا صالحًا ليكون امتدادًا لي، وحاملًا لرسالتي.

فاستجاب الله دُعاء إبراهيم (عليه السَّلام) وبشَّره بثلاث بشارات:

البشارة الأولى: أنَّه سيُرزق طفلًا ذكرًا.
•﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ …﴾ (الصَّافات/101)

البشارة الثانية: أنَّ هذا الغلام سوف يصل إلى سنِّ القوة.
﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾ (الصَّافات/102)

البشارة الثالثة: أنَّ هذا الغلام سوف يكون (حليمًا)
•﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ (الصَّافات/ 101)

وتحقَّقت هذه البشائر، وولد إسماعيل، وترعرع حتى وصل إلى سنِّ الثَّالثة عشر، وأصبح قادرًا على السَّعي ومشاركة والده في أمور الحياة.

هنا رأى نبيُّ الله إبراهيم (عليه السَّلام) رؤيا في المنام.

ماذا رأى إبراهيم (عليه السَّلام) في المنام؟

رأى في المنام أنَّ الله يأمره بذبح ابنه الوحيد إسماعيل، ورؤى الأنبياء وحيٌ إلهي.

وتكرَّرت هذه الرُّؤيا للمرة الثَّانية وللمرة الثَّالثة.

وهكذا تأكَّد لنبيِّ الله إبراهيم (عليه السَّلام) هذا الأمر الإلهي.

إنَّه امتحان صعب وشاقٌّ جدًّا (أنْ يذبح ابنه الوحيد إسماعيل)
هنا توجَّه إلى ابنه إسماعيل لكي يهيِّئه لهذا الأمر الرَّباني:
•﴿… قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى …﴾ (الصَّافات/102)
ما كان الأمر موكولًا إلى رضا إسماعيل بعد أنْ صدر الأمر من الله سبحانه.

كان إبراهيم يريد أنْ يهيِّئ ابنه إسماعيل لهذا الأمر الصَّعب جدًّا، وهو يعلم علم اليقين أنَّ ابنه إسماعيل هو الآخر في مستوى هذا الامتحان العسير.

وبعد أنْ فاجأ ابنه إسماعيل بهذا النَّبأ المدهش خاطبه قائلًا:
•﴿… فَانظُرْ مَاذَا تَرَى …﴾
المسألة خطيرة جدًّا، إلَّا أنَّه الأمر الإلهي
ولذا أجاب إسماعيل أباه إبراهيم فورًا وبلا تردُّد:
•﴿… قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ …﴾ (الصَّافات/102)
فما دام الأمر صادرًا من الله سبحانه فلا خيار لي.
امضِ يا أبتاه في تنفيذ هذا الأمر أنا راض كلَّ الرِّضا بأمر الله تعالى وصابرٌ كلَّ الصَّبر
•﴿… سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ (الصَّافات/102)
فلن أجزع، ولن أتردَّد، بل أقدِّم نفسي للذَّبح، مُسلِّما للهِ، وخاضعًا لأمره، ما دمت عبدًا طائعًا لله، ولأوامره ونواهيه.

وبدأت مرحلةُ التَّنفيذ لأمر الله تعالى.
•﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا …﴾ (الصَّافات/103)
أي أسلم إبراهيمُ وإسماعيلُ أمرهما وحياتهما للهِ، ورضيا بقضائه.

وهنا تُحدِّثنا الأخبار ببعض التفاصيل:
جاء في تفسير عليّ بن إبراهيم عن الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) قال:
– أنَّه لما أسْلَمَ إسماعيل أمرَهُ إلى الله في حكاية الذَّبح، وأراد إبراهيم (عليه السَّلام) ذَبحهُ -، «أقبل شيخ [هذ الشَّيخ هو الشَّيطان]
وقال: يا إبراهيم ما تريد من الغلام؟
قال [إبراهيم]: أريد أنْ أذبَحهُ
فقال [الشَّيخ]: سبحان الله تذبح غُلامًا لم يعصِ الله طرفةَ عين؟!
فقال إبراهيم: إنَّ الله أمرني بذلك.
فقال [الشَّيخ]: ربُّك ينهاك عن ذلك، وإنَّما أمرك بهذا الشَّيطان.
فقال له إبراهيم: ويلك إنَّ الَّذي بلَّغَنِي هذا المبلغ هو الذي أمرني به…». (تفسير القمِّي 2/ 225)

وفي خبر آخر:
«إنَّ جبرئيل (عليه السَّلام) حين أرى إبراهيم (عليه السَّلام) المشاعر برز له إبليس فأمره جبرئيل أنْ يرميه، فرماه بسبع حصيَّات فدخل عند الجمرة الأولى تحت الأرض فأمسك.
ثمَّ إنّه [يعني إبليس] برز عند [الجمرة] الثَّانية [الوسطى] فرماه [إبراهيم] بسبع حصيَّات أُخر، فدخل [إبليس] تحت الأرض في موضع [الجمرة] الثَّانية.
ثمَّ برز [إبليس] له في موضع [الجمرة] الثَّالثة [الكبرى] فرماه [إبراهيم] بسبع حصيَّات، فدخل موضعها [يعني الجمرة الكبرى]». (بحار الأنوار 12/103، المجلسي، ب5، ح8)

وهكذا انتصر نبيُّ الله إبراهيم (عليه السَّلام) على الشَّيطان، واستمر مصمِّمًا على تنفيذ أمر الله تعالى بذبح ابنه إسماعيل.

•﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا …﴾ (الصَّافات/103)
إبراهيم وإسماعيل أمرهما إلى الله، وجاءت اللَّحظة الحاسمة، وهنا طلب إسماعيل من أبيه إبراهيم بعض أمور تساعده على تنفيذ هذا الأمر الإلهي، وتقلِّل من ألم وحزن والدتِه هاجر.

قال إسماعيل لأبيه إبراهيم: يا أبتِ خمِّر وجهي، وشدَّ وثاقي كي لا تتحرَّك يديَّ ورجلاي أثناء تنفيذك الأمر الإلهي، فيقلِّل ذلك من الجزاء الذي سأناله.

فقال إبراهيم: يا بنيَّ الوثاق مع الذَّبح لا أجمعهما عليك.

قال إسماعيل: يا أبتاه أشحذ السِّكين جيدًا، وأمرره بسرعةٍ على رقبتي كي يكونَ تحمُّل ألم الذَّبح سهلًا بالنسبة لي ولكَ.
يا أبتاه: اخلع ثوبي قبل أنْ تذبحني لكيلا ترى والدتي ثوبي مغمورًا بالدَّم فتجزع وتفقد صبرها.
ثمَّ طلب من أبيه أنْ يوصل سلامه إلى والدته، وأنْ يحمل إليها قميصه لكي تتسلَّى به، كلّما شدَّها الحنين إلى ولدها، وكلّما ضاق صدرُها، وتحرَّكت آهاتُها وحسراتُها.

وبدأت لحظة التَّنفيذ.
•﴿… وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ (الصَّافات/103)
وضع إبراهيمُ جبين ولده إسماعيل على الأرض – حسب طلب إسماعيل – حتَّى لا تقع عيناه على وجه ابنه وتهيج عنده عاطفة الأبوَّة.
ومرَّر إبراهيم السِّكين بسرعةٍ وقوَّة على رقبة ابنه إسماعيل، مدفوعًا بحبِّ الله، ممَّا لم يترك مجالًا لعاطفة الأبوَّة.
وما الَّذي حدث؟
يتفاجأ نبيُّ الله إبراهيم أنَّ السِّكين الحادَّة لم تترك أثرًا في رقبة ابنه إسماعيل النَّاعمة.
فتحيَّر إبراهيم، واستمرَّ يمرِّر السِّكين على رقبة ابنه إسماعيل.
ولكن دون جدوى، فالسِّكين لم تترك أثرًا في رقبة إسماعيل.
نعم إبراهيم الخليل يُصرُّ على السِّكين أنْ تذبح رقبة ولده إسماعيل.
إلَّا أنَّ الرَّبَّ الجليل يعطي أوامره للسِّكين: أنْ لا تذبحي إسماعيل.
والسِّكين لا تستجيب إلَّا إلى أوامر الرَّبِّ الجليل.

وفي رواية أخرى:
إنَّ إبراهيم لمَّا أضجع ولده إسماعيل وأخذ المُدية ووضعها على رقبته ورفع رأسه إلى السَّماء، ثمّ جرَّ المُدية.
وهنا أمر الله جبرئيل أنْ يقلب المُدية على قفاها.
وكلّما أعادها إبراهيم قلبها جبرئيل.

وعندها أتى النِّداءُ من الله:
•﴿… يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا …﴾ (الصَّافات/104-105)
استجبت لأمر الله بكلِّ صدق وإيمانٍ فأصبحت في مقام المحسنين.
•﴿… إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ (الصَّافات/105)

وفي بعض الرِّوايات:
أنَّ جبرئيل هتف (الله أكبر الله أكبر) أثناء عمليَّة الذَّبح لتعجبه
فيما هتف إسماعيل: (لا إله إلَّا الله والله أكبر)
وقال إبراهيم: (الله أكبر وللهِ الحمد)

وكيف انتهت قصَّة هذا الامتحان؟

كان نبي الله إبراهيم يريد أن يقدِّم للهِ قُربانًا.

وكانت أمنيتُه أنْ يكون هذا القُربان هو ولده إسماعيل.
إلَّا أنَّ إرادة الله شاءت أمرًا آخر.
بعث الله كبشًا كبيرًا إلى إبراهيم ليذبحه بدلًا عن ابنه إسماعيل.
•﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ (الصَّافات/107)
وقد ذكرت الرِّوايات أنَّه كبشٌ عظيم جاء به جبرئيل (عليه السَّلام) من عند الله ليكون فداءً عن إسماعيل، وبدلًا عنه.

ما المراد بالذِّبح العظيم؟
قيل: إنَّه كبش كبير ضخم.

وقيل: كونه عظيمًا لأنَّه فداء عن إسماعيل.

وقيل: كونه عظيمًا لأنَّه أضحية بعثها الله تعالى إلى إبراهيم.

وقيل كونه عظيمًا لأنَّه أصبح سنَّة جارية على مرِّ الأزمان، ومنسكًا بارزًا من مناسك الحجِّ.

وبعد هذا النجاح الكبير الَّذي حقَّقه نبيُّ الله إبراهيم، جاءه الوسام من الله خلودًا على مدى الأجيال.
•﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الصَّافات/108-111)

أهم الدُّروس التي نستوحيها من قصَّة إبراهيم وإسماعيل

من أهم الدُّروس التي نستوحيها من قصَّة إبراهيم وإسماعيل: الاستسلامُ المطلق لله
إبراهيم (عليه السَّلام) استسلم لله استسلامًا مطلقًا في ذبح ابنه إسماعيل.

وإسماعيل (عليه السَّلام) استسلم للهِ استسلامًا مطلقًا، فسلَّم نفسه للذَّبح.

شرطا الاستسلام المطلق لله
والاستسلام المطلق لله يحتاج إلى شرطين أساسين:

الشَّرط الأوَّل: الوعي والبصيرة والرُّشد
فربَّما كان استسلامًا للشَّيطان، وللهوى، ولأغراض الدُّنيا ملتبِّسًا بعناوين الله.

صُنَّاع العنف والتطرُّف والإرهاب يتقمَّصون عناوين الله، فيرعبون، ويقتلون، ويدمِّرون، ويفسدون متقمِّصين شعارات الدِّين، والدِّين منهم بُراء.

هذا ليس استسلامًا مطلقًا لله.

إنَّه استسلام مطلق للشَّيطان.

فالرشد الحق، والوعي الحق، والبصيرة الحقَّه هو ما يؤسِّس للانقياد المطلق لله، والاستسلام المطلق للهِ.

الشرط الثاني: الإخلاص والصِّدق
وإلَّا كان استسلامًا كاذبًا، وخادعًا، وزائفًا.

إبراهيم (عليه السَّلام) كان صادقًا كلَّ الصِّدق مع الله، ومخلصًا كلَّ الإخلاص وهو يجسِّد الطَّاعة المطلقة لله.

وكذلك إسماعيل (عليه السَّلام) جسَّد الصِّدق كلَّ الصِّدق، والإخلاص كلَّ الإخلاص.

ربَّما تكون الشِّعارات تحمل عناوين كبيرة؛ عناوين الدِّين، عناوين الحق، عناوين العدل، عناوين الخير، عناوين الإصلاح، عناوين السَّلام، عناوين الحريَّة.

إلَّا أنَّها شعارات كاذبة، وخادعة، ومزيَّفة.

فلا قيمة لأيّ شعارٍ إلَّا إذا:
كان رشيدًا وبصيرًا.
وكان صادقًا ومخلصًا.
وكان متحرِّكًا وفاعلًا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى