حديث الجمعةشهر شعبانملف نداءات التوبة

حديث الجمعة257: أسبوع نداءات التوبة- يوم الخلاص – لكي نواجه مشروعات التأزيم الطائفي

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الهداة الميامين وبعد:


فمع هذه العناوين:
العنوان الأول: أسبوع نداءات التوبة:
منذ سنواتٍ أطلق المجلس الإسلاميّ العلمائيّ موسمًا في أواخر شعبان أسماه «أسبوع نداءات التوبة»…


ويشكِّل هذا الموسم:
1- فرصةً لخلق وعيٍ مكثَّفٍ حول التوبة…
2- استعدادًا للضيافة الرَّبانية في شهر رمضان…
شعار الموسم لهذا العام «مَنْ لي غيرك» وهو مقطعٌ من دعاء كميل جاء فيه:
«إلهي وربِّي مَنْ لي غيرك أسأله كشف ضرِّي والنظر في أمري…»…
فمهما تمرَّد الإنسان وعصى فهو مأسورٌ لقبضة الله، ولقدرة الله، ولعطاء الله، ولفيض الله، فلا أحد غير الربِّ الخالق يملك كلّ السلطان، وكلّ القدرة، وكلّ العطاء، وكلّ الفيض… فما أحوج أن يردِّد: «إلهي وربِّي مَنْ لي غيرك».
وإذا كانت المعصية تمرُّد على أوامر الله تعالى، فالتوبة عودة إلى الله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا ﴾ (التحريم/ 8)، ارجعوا إلى الله رجوعًا صادقًا، فأبواب رحمته مفتوحة للعاصين، وإن أسرفوا على أنفسهم كلَّ الإسراف ﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ ﴾ (الزّمر/ 53).
• في الحديث عن الإمام الباقر عليه السَّلام: «إنّ الله تعالى أشدّ فرحًا بتوبة عبده مِن رجلٍ أضلّ راحلتَه وزادَه في ليلةٍ ظلماء فوجدها، فالله أشدُّ فرحًا بتوبة عبده من ذلك براحلته حين وجدها»[1].


وهنا نطرح سؤالًا: كيف تتحقَّق العودة الصَّادقة إلى الله؟ أي كيف تتحقَّق التوبة النَّصوح؟
تتحقَّق من خلال:
أولًا: عودة العقل إلى الله من خلال:
امتلاك «بصيرة التوبة» وإلَّا انحرف طريق العودة إلى الله…
«العامل على غير بصيرةٍ كالسَّائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السَّير إلَّا بُعدًا»[2].


ثانيًا: عودة القلب إلى الله من خلال:
• النيَّة الخالصة.
• الندم الحقيقي.
• الإرادة والتصميم.


ثالثًا: عودة اللِّسان إلى الله من خلال:
الإكثار من الاستغفار والإنابة والدعاء والتضرّع…
رابعًا: عودة السّلوك إلى الله تعالى من خلال:
1- الإقلاع عن المعاصي والذنوب والالتزام بالواجبات.
2- تدارك ما فرَّط فيه، فيما هي حقوق الله، وحقوق النَّاس هكذا تتحقَّق العودة إلى الله، ليكون العبد من التائبين ومن الصَّادقين وهو يردِّد «إلهي وربِّي مَنْ لي غيرك».


العنوان الثاني: يوم الخلاص:
لن تبقى الأرض في قبضة الطغاة والمفسدين، ولن تبقى البشريَّة محكومة لأنظمة الجَور والظلم والاستبداد، إنَّ وعد الله حقّ ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء/ 105)
فَوُرَّاث الأرضِ عبادُ الله الصالحون الأخيار الأبرار، وعندها سوف يعمُّ العدل والخير والهدى والصَّلاح والأمن والأمان وينتشر الرَّخاء، وتسود المحبَّة بين أبناء الإنسان.


متى يتحقَّق ذلك؟
حينما تقوم دولة الإمام المهدي من آل محمدٍ صلَّى الله عليه وآله…
وهنا تساؤلٌ يُطرح:
هل هذا يعني أن لا عدل ولا رخاء، ولا أمن ولا أمان قبل قيام دولة الإمام المهدي؟
وهل يعني أن يعيش الإنسان اليأس من أيّ إصلاح في الأرض قبل أيام الظهور؟
وهل يعني أن تسقط وظيفة الإنسان المؤمن في الدعوة إلى الحقِّ والعدل؟
وهل يعني أن تتجمَّد مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومواجهة الفساد والانحراف والظلم والطغيان؟
هذه التصوّرات تعيش في أذهان الكثيرين.
فهناك من يعتقد أن لا مسؤوليَّة جهادٍ ودعوةٍ وإصلاحٍ وأمرٍ بمعروفٍ ونهيٍ عن منكر، ومحاربة باطلٍ وظلمٍ وفسادٍ في عصر الغيبة؟ كون ذلك من مسؤوليَّات الإمام المنتظر فأيّ جهدٍ يُبدل قبل مرحلة الظّهور فهو جهد ضائع.
فمسؤوليَّة المؤمن في هذا الزَّمان أن يلتزم بتكاليفه الفرديَّة وممارسة بعض الوظائف الاجتماعيَّة، أمّا إصلاح المجتمع وتغييره وخاصة على المستوى السِّياسي فأمرٌ مُرجَأ إلى حين الظهور.
وربّما يجنح التفكير عند البعض إلى ضرورة الدَّفع بأجواء الظُّلم والفساد والانحراف، لكي يتوفَّر الشرط الموضوعي لظهور الإمام المهدي (عج)، حيث لا ظهور إلَّا بعد امتلاء الأرض بالظُّلم والجور والضَّلال والفساد…
كيف نناقش هذه التصورات الخاطئة والمنحرفة؟
نتابع الحديث بإذن الله تعالى…
 
لكي نواجه مشروعات التأزيم الطائفي:
الانتماء إلى طائفةٍ، مذهبٍ، حزبٍ، جماعةٍ أمرٌ طبيعي ومشروع، كونه يعبِّر عن حريَّة التفكير، وحريَّة الانتماء فتعدّد الانتماءات والقناعات الدينيَّة والثقافيَّة والسِّياسيَّة لا يشكِّل عامل تناقضٍ وتباينٍ وتنافٍ ما دام محكومًا لحساباتٍ موضوعيَّةٍ مدروسة…


والخطر كلُّ الخطر حينما تتحوَّل هذه الانتماءات إلى مشروعات تجزءةٍ وتشظّي وشتاتٍ وخلافٍ وصراعٍ وعداوةٍ مِن خلال الانسجان في داخل الانتماء، فيما يعنيه من انغلاقٍ اتِّجاه أيّ انتماءٍ آخر، ممَّا يعقِّد العلاقات، وممَّا يؤدِّي إلى توتّراتٍ، وتشنّجاتٍ، وخلافاتٍ وربّما تعدّى الأمر إلى مواجهاتٍ وصداماتٍ داميةٍ حينما تنفلت العواطف والانفعالات…
التأزّم الطائفي هو تصاعد وتيرة الخلاف بين الانتماءات الطائفيَّة، بحيث يتحوَّل هذا الخلاف إلى تأزُّمٍ يُعقِّد العلاقات ويوتِّر الأجواء، ممَّا ينذر بمآلاتٍ خطيرةٍ من العنف والمواجهة، الأمر الذي يهدِّد أمن الأوطان، ويدمِّرها ويحرقها…


والسؤال المطروح هنا:
كيف نواجه مشروعات التأزيم الطائفي؟
نحتاج إلى مجموعة مكوِّناتٍ، أتناول في هذه العجالة طائفة منها:


المكوِّن الأول:
أن ننمِّي وعي الانتماء…
فلا يعني الانتماء إلغاء وشطب الآخر، ومواجهة وعداوة الآخر، من حقِّي أن أؤسِّس انتمائي وفق قناعاتي ومن حقِّي أن أناقش كلَّ ما يتنافى مع قناعاتي معتمدًا أسس النقاش العلمي، ولكن ليس من حقِّي أن أصادر حقَّ الآخر في اختيار قناعاته وإن كانت تخالفني، وليس من حقِّي أن أشطب الآخر…


وحينما نملك وعي الانتماء لن يتحوّل هذا الانتماء إلى عقدةٍ تجاه الانتماءات الأخرى، ولن يتحوَّل إلى أزمة في التعاطي مع القناعات الأخرى…
من قال أنَّني أملك الحقيقة المطلقة، وغيري يملك الباطل المطلق، حتى لو حدث هذا فمبدأ الحوار يفرض عليَّ أن أتجرَّد كلّ التجرّد، وأضع نفسي مساويًا مع الآخر في مشوار البحث عن الحقيقة، وهذا ما فعله نبي الإسلام صلَّى الله عليه وآله في حواره مع المشركين، فرغم أنّه يحمل الهدى كلّ الهدى وهم يحملون الضَّلال كلّ الضَّلال إلّا أنّه خاطبهم في موقع الحوار والدعوة: ﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾. (سبأ/24)
لم يتحدّث معهم بلغة أنَّه على هدى، وأنَّهم على ضلال، وإنَّما الطرفان يبحثان عن الحقيقة وهو الواثق كلّ الوثوق أنّه يملك الحقيقة، وهكذا يمكن أن ينفتح الآخر على الحقيقة، وهذا لا يتم بإلغائه، بنفيه، بمصادرته.


المكوِّن الثاني:
أن نعالج مشكل «التعصّب» هذا المشكل الخطير الذي يهدِّد الأواصر والروابط والعلاقات، ويوتِّر الأجواء الدينيَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة والسِّياسيَّة…
• جاء في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:
«من كان في قلبه حبَّةٌ مِن خردلٍ مِن عصبيَّةٍ بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهليَّة»[3].
• وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم:
«مَنْ تعصَّب أو تُعصِّب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه»[4].
• وقال صلّى الله عليه وآله:
«ليس منَّا من دعا إلى عصبيَّةٍ، وليس منَّا من قاتل على عصبيَّةٍ»[5].
• وسئل الإمام زين العابدين عليه السَّلام عن العصبيَّة المذمومة فقال:
«العصبيَّة التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرًا من خيار قومٍ آخرين، وليس من العصبيَّة أن يحبَّ الرجل قومه، ولكن من العصبيَّة أن يُعين قومَه على الظُّلم»[6].


فالتعصُّب هو إطلاق العنان للغريزة العمياء التي لا ترى إلاّ «الأنا المذهبي» أو «الأنا الثقافي» أو «الأنا السِّياسي» ليبقى الآخر بشكلٍ مطلقٍ خارج دائرة الدِّين، وخارج دائرة الحقِّ، وخارج دائرة الخير، وفي جو هذا «الانسجان المتعصّب» تنمو الدعوات المتشدِّدة، المتطرِّفة، وقد كلَّفت المواقف المتعصبة المتطرِّفة الأوطانَ أثمانًا باهضةً جدًا مِن صراعاتٍ ومواجهاتٍ، وأرواحًا، ودماءً ..


المكوِّن الثالث:
أن ننشِّط اللقاءات والحوارات الجادَّة والهادفة إلى تعزيز العلاقات والتواصلات بين أطياف وانتماءات ومكوِّنات الشعب، وإلى إزالة كلِّ أشكال التأزُّم والتوتُّر والتشنُّج والخلاف والصِّراع.
وهنا نحتاج إلى:
• نوايا صادقة.
• وعزائم قويّة.
• وحكمةٍ وبصيرة.
• وصبرٍ وإصرارٍ وتحمّل.


هنا نتحدَّث عن لقاءاتٍ وحواراتٍ شعبيَّة غير محكومة لمزاجات السلطة، ورهانات النِّظام، فكلّما كانت هذه اللقاءات والحوارات تعبيرات شعبيّة متحرِّرة من الضغوطات الرسميَّة والسِّياسية كانت أقدر على إنتاج علاقاتٍ حقيقيَّة بين أطياف هذا الشعب.


المكوِّن الرابع:


أن نحرِّك بقوَّةٍ خطاب الوحدة والتقارب والمحبَّة والتسامح في مواجهة خطابات الفرقة والقطيعة والكراهية والشَّحن والتحريض والفتنة…
وهنا تبرز مسؤولية علماء الدِّين السُّنة والشِّعية في محاصرة كلِّ أشكال التأزيم الطائفي من خلال تجذير الخطاب العاقل الهادف إلى إنتاج المحبَّة والأخوَّة بين أبناء الوطن الواحد مهما تعدَّدت الانتماءات المذهبيَّة والثقافيَّة والسِّياسيَّة، إنَّ التعدّد والتنوع يشكِّل غنى وقوَّة حينما تُرسَم له أجواءه الصحيَّة، وحينما يرعاه خطابٌ عاقلٌ حكيمٌ بصير، وكم هي الكارثة على الوطن حينما يتبنَّى علماء دينٍ مشروعاتِ التأزيم الطائفي.
إنَّ مسؤوليَّة هذا الفصيل من النَّاسِ مسؤولية خطيرة جدًا، فليتَّقوا الله في إسلامهم، وفي أوطانهم، وفي شعوبهم.


المكوّن الخامس:
تتحمَّل السلطة الحاكمة أكبر المسؤوليات في مواجهة حالات التأزيم الطائفي وذلك من خلال إنهاءِ كلِّ أشكال التمييز، فبمقدار ما تنجح السلطة في إلغاء سياسات التمييز بين مكوِّنات الشعب تكون قد وفَّرت الأجواء الصالحة لازدهار الأخوَّة والألفة والمحبَّة بين المواطنين، وأمّا إذا مارست التمييز بكلِّ أشكاله الفاضحة فقد هيَّأت الظروف لنمو المشاحنات والخلافات والصِّراعات بين أبناء الوطن الواحد…
وهنا نلفت إلى خطورة أن تتبنَّى وسائل الإعلام الرسميَّة كالتلفاز والإذاعة والصحافة لغة التأزيم الطائفي، متخلِّية عن مسؤوليَّتها الوطنيَّة في صنع التلاحم بين مكوِّنات الشعب.






الهوامش:
[1] الكليني: الكافي 2/ 435، كتاب الإيمان والكفر، باب التوبة، ح8. (ط5، 1363ش، دار الكتب الإسلاميّة، طهران)
[2] المصدر نفسه: 1/ 43، باب من عمل بغير علم، ح1.
[3] المصدر نفسه: 2/ 308، باب العصبيّة، ح3.
[4] المصدر نفسه: ح2.
[5] الريشهري: ميزان الحكمة 3/ 1992، حرف العين، التعصّب. (ط1، دار الحديث، قم)
[6] الكليني: الكافي 2/ 308، كتاب الإيمان والكفر، باب العصبيّة
، ح7.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى