حديث الجمعةشهر ربيع الثاني

حديث الجمعة 244: قلوبنا على هذا الوطن الذي ينزف دمًا…

 
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الهداة الميامين..


قلوبنا على هذا الوطن الذي ينزف دمًا…
كلنّا نريد الأمن لهذا الوطن..
ولكن…
هل مِن الأمنِ أن يعيشَ الوطنُ هذه المخاضات الصعبة، أن تزهقَ أرواحٌ، أن تسقط ضحايا، أن تمتلأ المستشفيات بالجرحى، أن تتصاعد وتيرة الملاحقات والاعتقالات، والمداهمات، والاعتداءات حتى على المساجد والحسينيات… وأن… وأن…


ما حدث من اعتصامات ومسيرات ليست إلّا تداعيات لأزمةٍ سياسيّة، وليست أسبابًا لهذه الأزمة..
من الأخطاء السّياسية أن تتعامل الأنظمة الحاكمة مع التداعيات كأسبابٍ للأزمات، ممّا يدفعها في اتجاه العنف من أجل إسكات الأصوات…


أمّا إذا تعاملت معها كتداعياتٍ أنتجتها أزمات سياسيّة لها أسبابها، فمن الضروري أن تتجه المعالجة إلى تلك الأسباب، وعندها سوف تنتهي كلّ التداعيات بلا حاجةٍ إلى هذا الكم من العنف الذي يدخل البلدان في مزيدٍ من التعقيد والتأزيم والاحتقان.


لا زالت خطابات التصعيد الأمني هي الخطابات التي تفرض نفسها على المشهد السّياسي في البحرين.
وبكلّ صراحةٍ نقول: إنّ خطابًا تصعيديًّا – وخاصّة إذا كان ثأريًّا – لن يكون إلّا خطابًا مدمِّرًا، مُحطِّمًا، مُؤزِّمًا، والويل كلّ الويل لوطنٍ يسوده هذا الخطاب.


إنّ أيَّ قطرة دمٍ تسقط، وإنّ أيَّ جرحٍ ينزف، وإنَّ أيَّ دمعةٍ في عين يتيم أو يتيمة، وإنّ أيَّ آهةٍ في قلب أبٍ ثاكل أو أم ثكلى أو زوجةٍ فاقدة، وإنَّ أيَّ خفقةِ رعبٍ، وذعرٍ، وخوف… كلّ ذلك يشارك فيه خطابُ التحشيد والتحريض والثأر والإنتقام..


قد يقال: لماذا تحملِّون دائمًا النظام مسؤولية هذا العنف، لماذا لا تتحدّثون عن خطاباتِ عُنفٍ صادرة من قوى معارضة، من شارعٍ متشنّج، من جمهور منفعل؟


إنّنا ندين أيَّ خطابِ عنفٍ، سواءً أكان خطابَ سلطةٍ، أو خطابَ معارضةٍ، أو خطابَ شارعٍ، لا فرق في ذلك كلّه، إلّا أنّ الأنظمة الحاكمة حينما تمارس العنف فهي تملك الأدوات الأكثر بطشًا، وفتكًا، وقسوة…


ولا نريد أن نبرّر لأيّ شكلٍ من أشكال العنف، فالعنف مرفوضٌ مهما كانت ذرائعه، لذا كان إصرارنا أن تكون أساليب المطالبة بالحقوق المشروعة أساليب سلميّة.


ولكنّ المشكلة حينما تضيق بعض الأنظمة الحاكمة بهذه الأساليب، الأمر الذي يدفع الشارع إلى النزوع نحو أساليب ربّما تصنّف في خانة العنف، إنّ الأنظمة تتحمّل في الكثير من الأحيان مسؤوليّة الدفع في اتجاه هذه الخيارات.


وإذا كنّا لن نسمح لأنفسنا في أيّ ظرفٍ من الظروف أن نفرّط في أمن هذا الوطن واستقراره، فإنّنا نؤكّد أنّ هذا لن يتم من خلال خيار العنف والقتل، هذا الخيار الذي أثبتت كلُّ تجاربِ الماضي والحاضر أنّه خيارٌ فاشل.


يجب الاعتراف بوجود مأزقٍ سياسي، وأنّ هذا المأزق له أسبابه ومنتجاته، ولا خلاصَ من هذا المأزق إلّا حينما نلامس بكلّ صراحةٍ وجرءةٍ تلك الأسباب والمنتجات…


المعالجات الأمنيّة تمارس قفزًا يتجاوز الأسباب إلى التداعيات، الذي يربك المشهد السّياسي، فالغضب الشعبي بكلّ تمظهراته وأساليبه وحركاته هو تعبيرٌ أفرزته أزماتٌ سياسيّة، وليس مجرّد انفعالٍ ناتجٍ عن مزاجاتٍ نفسيّة، كما أنّه ليس دائمًا صدى لدفوعات خارجيّة – وفق نظريّة المؤامرة – وكما هي الشمّاعة الجاهزة لمواجهة حركات ثورات الشعوب.


وهنا يكون الفارق كبيرًا في موقف الأنظمة:
فحينما تتعامل هذه الأنظمة مع الغضب الشعبي، كونه انفلاتًا مزاجيًا، أو كونه صدًى لدفوعاتٍ خارجيّة من الطبيعي أن تكون العلاجات الأمنيّة والتي تعتمد المواجهة والعنف والقمع هي الخيار.


ولكن حينما تتعامل هذه الأنظمة مع فورات الشعوب كونها تعبيراتٌ أنتجتها أزماتٌ سياسيّة، فمن الطبيعي أن تكون العلاجات السّياسية والتي تعتمد الحوار والتفاهم هي الخيار.


إنّ المشهد السّياسي في هذا البلد لا يزال يتّجه نحو التأزّم.


أين العقدة في هذا الأمر؟
هل أنّ النظام يصرّ على بقاء التأزيم؟
هل أنّ القوى السّياسية لا تريد الخروج من هذا المأزق؟
هل أنّ الشعب لا يبحث عن مخرج؟


ما نقرأه:
أنّ النظام ليس من مصلحته أن يبقى التأزم السّياسي..
وأنّ القوى السّياسية تريد لهذا الوطن أن يتعافى من أزماته..
وأنّ الشعب بكلّ مكوّناته يبحث عن خلاصٍ من هذا الواقع المأزوم…


فالعقدة كلّ العقدة في تشخيص خارطة الطريق للخروج من هذا المأزق..
النظام اختار طريقًا شائكًا وعرًا، كلّف ثمنًا باهضًا من أرواح ودماء وآلام وجراحات، وقلق ورعب، وتشنّجات، وانفعالات، وتصدّعات، وشروخات، واصطفافات، وعداوات…
وأنا واثقٌ كلّ الثّقة أنّ النظام – بعد مراجعةٍ هادئةٍ ومتأنِّية بعيدًا عن قعقعاتِ المدرَّعات، وأزيز الطائرات، وصخب الدبّابات – سوف يقتنع أنّ هذا المسار الأمني المعبّأ بالعنف ما كان خيارًا صائبًا، وسوف يكتشف أنّ الخطابات التي صفّقت لهذا الخيار ما صنعت خيرًا لهذا الوطن…


ربّما يُقال: إنّ جنوح البعض إلى شعاراتٍ أغضبت النظام كان السبب في هذا التصعيد الأمني..
لا نجد هذا مبرّرًا، في البداية لم يرتفع أيّ شعارٍ حادّ، غير أنّ القسوة في المواجهة هي التي دفعت في اتجاه مزيدٍ من الغضب والانفعال، ومزيدٍ من التصعيد في سقوف المطالب، رغم أنّ القوى السّياسية المتصدِّية كانت واضحة في مطالبها وشعاراتها والتي لم تتجاوز السياقات الطبيعيّة المقبولة..


وحدث ما حدث، واشتدّت القبضة الأمنيّة، إلّا أنّ هذا لن يعالج الأزمات السّياسية، والتي هي في حاجةٍ إلى معالجاتٍ سياسيةٍ، وليس إلى معالجاتٍ أمنيّةٍ…


وإذا استطاعت القبضة الأمنيّة أن تُسكت الأصوات الغاضبة المطالبة بالإصلاحات السّياسية – وهذا أمرٌ في غاية الصعوبة – فإنّ الغضب سوف يبقى نارًا تحت الرّماد تنتظر أيّ لحظةٍ لتشتعل حريقًا، ربّما يكون أكثر ضراوة، وأكبر خطرًا..


فالعلاج أن ينتهي هذا الغضب حينما تتحرّك الإصلاحات السّياسية التي تستجيب لإرادة الشعب، وتلبّي طموحاته المشروعة، ومطالبه العادلة..


وهذا هو الفارق بين الخيارين السّياسي والأمني، الخيار السّياسي يتّجه لمعالجة الأسباب التي أنتجت المشكل السّياسي، والمأزق السّياسي، بينما يتّجه الخيار الأمني إلى محاصرة التداعيات، وإلى لجم التعبيرات، وإلى إسكات الصرخات، لتبقى الأسباب، ويبقى الألم، ويبقى المُشكل..


أضع مثال بين أيديكم هذا المثال:
مريضٌ يعبث المرض داخله، يصرخ من الألم..
كيف يتعاطى الطبيب مع هذا المريض؟
هل يقتله لكي يتخلّص منه؟
هل يضربه ليُسكت صرخاتِه؟
هل يعطيه مسكّناتٍ ليخفّف من أوجاعه؟
هل يعالج أسباب المرض لكي يتشافى ويتعافى؟


الخياران الأول والثاني يتنافيان مع القِيَم الإنسانيّة، ويُعدَّان من الجرائم التي تُرتكب ضدّ الإنسان، وتُعاقب عليهما شرائع السّماء وقوانين الأرض.
الخيار الثالث يُشكّل ضرورة مستعجلة من أجل تخفيف معاناة هذا المريض…
ويبقى الخيار الرابع المطلوب لإنقاذ المريض من مرضه..


وهكذا الشعوب حينما تحاصرها الأزمات السّياسية، ممّا يضّطرها أن ترفع أصواتها صارخةً من المعاناة، ومطالبةً بالحقوق…
فما هي خيارات الأنظمة مع معاناة الشعوب؟


بعض الأنظمة تختار القتل وهو خيار لا يملك شرعيّةً من دينٍ أو قِيم أو قانون…
وأنظمةٌ أخرى تحاول إسكات صرخات الشعوب بوسائل لا ترقى إلى القتل كالملاحقات والمضايقات والاعتقالات وهي وسائل أخرى غير مشروعة، ومدانة دينًا وقانونًا..


وأنظمةٌ ثالثة تعتمد المُسكِّنات السّياسية لمعالجة أوجاع الشعوب، وهو أسلوبٌ مخدِّر مرحليًا، ولا يقدّم أيّ حلٍّ لمشكلات الشعوب.


وأمّا الأنظمة التي تمثّل إرادة الشعوب، فهي تبحث دائمًا عن المعالجات الحقيقيّة للخلاص من المآزق والأزمات السّياسية..


وعند هذا المنعطف من الحديث أودّ أن أوجز القول في كلماتٍ أتمنّى أن تصل إلى من يهمّه الأمر وإلى كلِّ حريصٍ على أمن هذا الوطن واستقراره:


الكلمة الأولى:
إنّ من صالح هذا الوطن أن تتوقّف كلّ مظاهر العسكرة والاستنفار الأمني، والتي أوجدت وضعًا مشحونًا بالتأزّم والتوتّر والاحتقان.
إنّه لا يصبّ في صالح هذا الوطن هذا الحصار الذي طال المدن، والقرى، والشوارع، والطرق، وحتى مواقع العبادة، ممّا أنتج في بعض الأوقات صعوبة:
في أن يصل النّاس إلى مدنهم وقراهم..
وفي أن يصل النّاس إلى مواقع العمل..
وفي أن يصل الطلاب والمعلمين إلى مدارسهم..
وفي أن يصل النّاس إلى المساجد لأداء الصّلوات في أيام الجمعة..


هل كلّ هذا يخلق أمنًا واستقرارًا؟
إنّنا نريد الأمن والاستقرار لهذا الوطن، إلّا أنّ ما نشاهده من الإجراءات تُعقِّد الأوضاع، وتزيد الأمور توتّرًا وتأزّمًا، واحتقانًا.


الكلمة الثانية:
ليس من صالح الوطن هذا التكثيف في الملاحقات، والمضايقات، والمداهمات، والاعتقالات والتي طالت رموزًا دينيّة وسياسيّة كبيرة، وامتدّت لتشمل أعدادًا واسعةً من أنباء هذا الشعب، ولم تستثن مثقّفًا أو معلِّمًا أو طالبًا أو موظّفًا أو إنسانًا عاديًا.. والمقلق جدًا أنّ هناك أعدادًا من النساء معتقلات بينهنّ نساء حوامل..


وهنا أؤكّد أنّ اعتقال شخصيّةً علمائيّةً كبيرةً كسماحة الشيخ عبد الجليل المقداد، وكذلك رموز سياسيّة شاخصة لن يُساهم في إنتاج الأمن والاستقرار، مهما كانت مبررِّات هذه الاعتقالات، نقول هذا الكلام من منطلق الحبّ لهذا الوطن، والإصرار على حماية أمنه واستقراره…
ولا نقول هذا الكلام بدافع التأجيج والتصعيد في مرحلةٍ نحتاج جميعًا إلى مزيدٍ من الحكمةِ في التعاطي مع تعقيدات المشهد السّياسي والأمني..


الكلمة الثالثة:
إنّ من صالح هذا الوطن أن يُعاد صوغ المشهد السّياسي بطريقةٍ صحيحة، تُعّبر عن رغبةٍ جادّةٍ في إصلاح الأوضاع، وإنهاء كلّ أسباب التأزّم والاحتقان، في مرحلةٍ أثبتت ضروراتُها ومتغيّراتُها..
أن لا جدوى في اعتماد أساليب الترقيع السّياسي والتي باتت عاجزة عن تحقيق الحد الأدنى من مطالب الشعوب وما عادت قادرة أن تعالج أزمات الأوطان، فمطلوبٌ شيئٌ من الجرءة والشجاعة ليس في مزيدٍ من العنف، وإنّما في مزيدٍ من الإصلاح السّياسي، وفي مزيدٍ من التماهي مع إرادة الشعب ومع تطلّعاته المشروعة.


وهنا تأتي القيمة للحوار الجادّ الهادف الحقيقي، وأمّا اتهام القوى السّياسية بأنّها ضيّعت فرصة الحوار فكلامٌ غير دقيق، لقد أرادة هذه القوى أن يكون حوارًا منتجًا قادرًا على ملامسة الأسباب الحقيقيّة للأزمة السّياسية، لا أن يكون حوارًا يبدأ لينتهي من حيث بدأ، ممّا يُعقِّد الأوضاع أكثر ويضعها أمام طرقٍ مغلوقة..


وحينما تداعى بعد الوسطاء الخليجيّين مشكورين، لإنقاذ الوضع، وفي هذا السياق جاءت مبادرة الكويت.. لم تتردّد قوى المعارضة في الاستجابة لهذه الرغبة الكريمة من الكويت، وقدّمت رؤيتها لمعالجة الأزمة السّياسية في البلد، إلّا أنّ هذه المبادرة لا زالت تقف على أبوابٍ مسدودة، وربّما قيل أنّها قد أقبرت.
ويؤسفنا ذلك، لأنّه ليس في مصلحة الوطن أن يستمر هذا الغليان الأمني، وأن تستمر هذه الأجواء المشحونة بالتوتر والاحتقان، وكلّما تخفّفت الأوضاع من عوامل التأزيم وفّر ذلك الفرصة لمعالجاتٍ أكثر عقلانيّة، ممّا يؤسّس لإيجاد مناخاتٍ ملائمة لإنتاج الأمن والأمان، وهذا لا يمكن أن يتم في ظلّ التعقيداتِ الراهنة المحكومة لأجواء الطوارئ.


للاستماع للمحاضرة صوتيا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى