حديث الجمعةشهر جمادى الأولى

حديث الجمعة 361: أنماط من الكَذِب شائعة (2) – خيارات العنف مرفوضة – حادث الديه

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وعلى آله الهداة المعصومين، وبعد فمع بعض العناوين:



أنماط من الكَذِب شائعة (2):


(2) الكَذِبُ في المزاح:
هذا النمط من الكَذِب شائع في أوساط النَّاس، باعتقاد أنَّه لا يُعدُّ كَذِبًا، ما دام ليس جدِّيًا، وإنَّما يُطلق مزاحًا وهزلًا…
فما موقف الشرع من هذا النمط من الكذب المزاحي والهزلي؟
إنَّه محرَّمٌ تمامًا كما هو الكَذِبُ الجاد، لا فرق في ذلك، لا فرق أنْ يكونَ الكذِبُ جدًّا أو هزلًا،
وهذا ما أكَّدت عليه الأحاديث:


• قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله:
«إنَّ الكَذِبَ لا يصلحُ منه جدٌّ ولا هزل، ولا أنْ يعد الرجل ابنه ثُمَّ لا ينجز له، إنَّ الصدق يهدي إلى البرِّ، وإنَّ البرَّ يهدي الجنَّة، وإنَّ الكَذبَ يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجور يهدي إلى النَّار».


يؤكِّد هذا الحديث النبوي على مجموعة أمور:
الأمر الأوَّل: النهي عن الكَذِب في حال الجدِّ وفي حال الهزل، فكلا النوعين من الكَذِبِ غير صالح، وغير مسموح به في شرع الله تعالى.


الأمر الثاني: التحذير من الوعود الكاذبة مع الأطفال وهذا ممَّا هو شائع في أوساط الأسر، فما أكثر ما يعد الآباء أو الأمهات أبناءهم الصغار وعودًا خادعة من أجل تهدئتهم، ويبقى الصغار يعيشون انتظار تلك الوعود إلَّا أنَّهم لا يجدون شيئًا، وهكذا تنغرس في داخلهم صفة الكذب وخلف الوعد، لذلك جاء في الحديث: «إذا وعد أحدكم صبيَّه فلينجز»، وفي حديث آخر: «إذا وعدتم الصبيان فأوفوا لهم» هذه الأحاديث تؤكِّد على ضرورة الوفاء بالوعود حتَّى مع الصبيان الصغار لكي لا نزرع في داخلهم عادة الكذب، في داخل الأسرة يبدأ الأطفال يتعلَّمون (الكَذِبَ) فها هو شخص يطرق الباب، فيقول الأب لأبنه الصغير: (قل له إنَّ أبي ليس موجودًا) ويذهب هذا الطفل البريئ يقول للطارق: (أبي غير موجود في البيت) وهنا تتحرَّك في داخل الطفل الضحيَّة تساؤلات بريئة: كيف لا يكون أبي موجودًا في البيت، وها هو جالس في داخل البيت، المسألة يبدو سهلة يجوز للإنسان أنْ يقول شيئًا مخالفًا للواقع، فيتعلَّم الطفل هذه الخصلة بكلِّ براءة وهو لا يعلم أنَّ هذه الصفة تسمَّى (كَذِبًا) فيكون قد أخذ درسًا عمليًا في الكذب.


وها هي الأم تحاول أنْ تعطي الدواء لطفلها، فيرفض، فتحاول أنْ تقنعه لكي يشرب الدواء فتقول له: (اشرب ابني أنَّه حلو لذيذ) فيصدِّق الطفل الصغير كلام أمَّه، فيشرب الدواء، وإذا به مرٌّ لا يطاق، فيتساءل في داخله لماذا قالت لي أمِّي إنَّه حلو لذيذ، هكذا ينشأ الطفل وقد أخذ دروسًا عملية في الكَذِبِ، وخلف الوعود من الآباء والأمَّهات.


الأمر الثالث: الذي أكَّد عليه الحديث النبوي المتقدِّم أنَّ الصدقَ يقود إلى البِّرِ – أيَّ الخير والصَّلاح – والبِّرُ يقود للجنَّةِ…


أمَّا الكَذِبُ فيقود إلى الفجور – أي الشر والفساد – والفجور يقود إلى النَّار…


نتابع بعض الأحاديث التي تحذِّر من الكَذِبِ في الجدّ والهزل:


• قال رسول الله صلّى الله عليه وآله:
«أنا زعيم ببيتٍ في ربَض الجنَّةِ، وبيتٍ في وسط الجنَّةِ، وبيت في أعلى الجنَّة، لم ترك المراء وإنْ كان محقًّا، ولِمَنْ تركَ الكَذِبَ وإنْ كان هزلًا، ولِمَنَ حسَّنَ خُلَقَه».


• وقال صلَّى الله عليه وآله:
«ويلٌ لِمَنْ يُحدِّث، فيكذب ليُضحك به القوم، ويلٌ له، ويلٌ له»


• وقال أمير المؤمنين عليه السَّلام:
«لا يجدُ عبدٌ طعم الإيمانَ حتَّى يترك الكَذِبَ هزله وجدَّه».


• وقال الإمام زين العابدين عليه السَّلام:
«اتقوا الكَذِبَ الصغير منه والكبير، في كلِّ جِدٍّ وهزلٍ، فإنَّ الرجلَ إذا كذبَ في الصغير اجترأ على الكبير».


وجاء في بعض الأحاديث تعبير (الكذيبة) تصغير (كذبة)
• سألت أسماء رسول الله صلَّى الله عليه وآله:
إنْ قالت إحدانا لشيئ تشتهيه: لا أشتهيه، يُعدُّ ذلك كَذِبًا؟ فقال صلَّى الله عليه وآله: «إنَّ الكَذِبَ يُكتب كَذِبًا، حتَّى تُكتب الكُذَيبةَ كُذيبة».


• وقال صلَّى الله عليه وآله لبعض النسوة وقد قُدِّم لهنَّ شرابٌ فقلن: لا نشتهيه: «لا تجمعنَّ جوعًا وكذبًا».


للحديث تتمَّة إنْ شاء الله في اللِّقاء القادم…


 


خيارات العنف مرفوضة:
خياراتُ العنف مرفوضة مهما كانت الدواعي والأسباب والمبرِّرات، وسواء أكانت خياراتُ سُلطةٍ أو خياراتُ شارع، خياراتُ أنظمة أو خياراتُ معارضين.


العنف بكلِّ أشكاله وألوانه مرفوضٌ ومدانٌ شرعًا وعقلًا وقانونًا.


(1)  الدِّين الحقُّ يُشدِّد على حُرمة الدِّماء، والأعراض، والأموال.
الدِّينُ الحقُّ يقول: ﴿من قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا…﴾. {المائدة/32}
الدِّينُ الحقُّ يقول: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ {النساء/93} 
الدِّينُ الحقُّ يقول: «لزوال الدُّنيا جميعًا أهون على اللهِ من دمٍ سُفكَ بغير حقّ».


وكذلك الأعراض، والأموال أكَّد على حرمتها وصونها وحفظها الدِّينُ الحقُّ «من استطاع منكم أنْ يلقى الله تعالى وهو نقي الرَّاحةِ من دماء المسلمين وأموالهم، سليم اللِّسان من أعراضهم فليفعل».


وليس دينًا حقًّا هذا الذي يُشرعن لسفك الدماء البريئة، وزهق الأرواح، وذبح الأطفال والنِّساء والشيوخ…


وليس دينًا حقًّا هذا الذي ينشر الرُّعب والخوف في نفوس النَّاس، ويقتل الأمن والأمان…


وليس دينًا حقًّا هذا الذي يبرِّر الإرهاب والفساد والأرض، والعبث بالمقدَّرات والمقدَّسات…


وليس دينًا حقًّا هذا الذي يُسوِّغ الظلمَ والجورَ، والاعتداءَ على الكرامات وسرقةَ الحقوق…


في الدِّينِ الحقِّ حمايةُ الأرواح والدماء والأعراض والأموال…
في الدِّينِ الحقّ نشر الأمن والأمان…


في الدِّينِ الحقّ لا عنف ولا إرهاب، ولا تطرُّف ولا ظلم ولا فساد…
في الدِّينِ الحقّ صون الحقوق والكرامات…


فالويل كلُّ الويل لمجتمعات يغيب مِنها الدِّين الحقّ، ويغيبُ فيها المتدينون الصَّادقون…


أنظمة حكم، قوى سياسية، جماعات فكر، جماهير، مكوِّنات مجتمع، إذا غاب عندها (ضمير الدِّين الحقّ) كانت مرتعًا لكلِّ نزعات الشَّر والفساد، وهذه النزعات التي تؤسِّس التطرُّف، والعنف، والإرهاب، والعبث بأمن البلدان والأوطان…


نداءات عالية ترتفع لمحاربة العنف والتطرُّف والإرهاب، عقوبات مُغلَّظة ضدَّ مَن يمارس العنف والتطرُّف والإرهاب…
هذا أمرٌ مطلوب ومشروع ولا يرفضه إلَّا مَنْ تلوَّث ضميره وعقله، وخان أمانة الدين والوطن..


إلَّا أنَّ السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل تكفي هذه النداءات وهذه العقوبات لاقتلاع جذور العنف والتطرُّف والإرهاب؟


لا أظنُّها وحدها قادرة على ذلك…
الأمر في حاجة إلى نشر (ثقافة الدِّين الحقُّ) وليس الدِّين الذي توظِّفه أنظمة حكم وجماعات تكفير وقوى مشبوهة…
ثقافة الدِّين الحق المستقاة من نصوص القرآن الصريحة الواضحة، ومن كلمات السُّنة المعصومة الثابتة…


لا ينهي العنف والتطرُّف والإرهاب إلَّا صوت الدِّين الحقّ، وضمير الدِّين الحقّ… حينما أتحدَّث عن الدِّين الحقّ وضمير الدِّين الحقّ، لا أتحدَّث عن مذاهب، أتحدَّث عن أصول ومسلَّمات في الدِّين تقرُّها كلُّ المذاهب التي تنتمي للدِّين، وإنَّنا ندعو إلى ثقافة الدِّين التي توحِّد ولا تفرِّق ولا تنشر الكراهية والعداوة والخلاف، إلى ثقافة الدِّين التي تؤكِّد على الرَّحمة والرأفة ولا تدفع نحو القسوة والشدَّة، إلى ثقافة الدِّين التي تجسِّد الاعتدال والرأفة ولا تنزع نحو التطرُّف والعنف…


وتبقى هذه الثقافة فاقدة الأثر إذا جنحت سياسات الحكم إلى الظلم والفساد والإفساد والتمييز والإقصاء فكما أنَّ اللوثة في التفكير الديني لها آثارها الخطيرة في إنتاج حالات النزوع نحو العنف والتطرُّف والإرهاب، فإنَّ اللوثة في التفكير السِّياسي، حاكمًا هذا التفكير أو محكومًا لها أثرها المدمر في صناعة العنف والتطرُّف والإرهاب، إذا لم تقتلع جذور العنف والتطرُّف والإرهاب من عقل السياسات الحاكمة ومن عقل كلِّ صنِّاع السِّياسة، ومن عقل كلِّ قوى السِّياسة، موالية أو معارضة، فلا يمكن أنْ يقضى على العنف والإرهاب والتطرُّف…


 


حادث الديه:
أدنَّا بشدة حادث الديه، وجرَّمنا مَنْ يقف وراءه أيًّا يكون، ولم تكن هذه الإدانة وهذا التجريم مجرَّد تسجيل موقف أو استجابة لإملاءات، إنَّما هو التكليف الشرعي الذي فرض علينا أن نرفض أيَّ مساسٍ بالأرواح، لا فرق في ذلك بين أرواح مَنْ ينتمي للشعب أو للسلطة، ولا بين أرواح مواطنين أو مقيمين…


وإذا كان هذا العمل مُدانًا ومجرَّمًا من قِبَل كلِّ الغيارى على أمن هذا الوطن، إلَّا أنَّه في الوقت ذاته لا يجوز للسُّلطة أنْ توظِّف الحدث لضرب الحراك السِّلمي كما لا يجوز لها أنْ تجنح إلى فرض عقوبات جماعية على قرى ومناطق بكاملها، بذريعة البحث عن المتورِّطين في هذا العمل، إذا كان ما حدث عملًا شائنًا وظلمًا فاحشًا، فإنَّ توظيفه ضدَّ حراك الشعب المشروع، وضدَّ طائفة أو قرى ومناطق بكاملها أمر أشدُّ شينًا، وأفحش ظلمًا، كما أنَّ ممارسة الإعلام الرَّسمي وشبه الرَّسمي تحريضًا ممنهجًا ومملوءًا بكلماتٍ مسيئة عملٌ غير مشروع وله تداعياته المضرَّة والمدمِّرة، الوطن في هذا الظرف محتاج إلى خطابٍ عاقلٍ بصير، لا إلى خطابٍ طائش أهوج، محتاج إلى خطاب يزرع المحبَّة والتسامح والتآلف، لا إلى خطاب يُنتج الكراهية والقسوة والتباعد… حمى الله هذا الوطن شرَّ الغوائل والمحن والفتن…


وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين



 


 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى