آخر الأخبار

كلمة العلاّمة الغريفي في تأبين الأستاذ سالم النُّويدري بمسجد السَّيد هاشم التوبلاني

مسجد السَّيد هاشم التوبلاني – توبلي| تأبين الأستاذ سالم النُّويدري | تاريخ: يوم الخميس (ليلة الجمعة)، 3 ذو القعدة 1446هـ الموافق: 1 مايو 2025 م

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيم

السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته.

رغم انحراف صحَّتي إلَّا أنَّني أجد نفسي مُلزمًا أنْ أقولَ بعض كلماتٍ وفاءً لأستاذٍ ومُربٍّ وصانعِ أجيالٍ، وواحدٍ مِن أعمدةِ هذا الوطنِ، وناشطٍ أعطى الكثيرَ مِن حياتِهِ في تأصيلِ الوعي والثَّقافةِ والقِيَمِ والأخلاق.

والكلمةُ هنا لن تحاولَ أنْ تقاربَ شخصيَّة الفقيد الكبير في مساحاتِها المتنوعةِ، وإنَّما هي وقفاتٌ عاجلةٌ تحاولُ أنْ ترسمَ بعض مساراتِ علاقتي بالأستاذِ النُّويدري منذ بداياتِها وحتَّى آخر أشواطِها، ورُبَّما لامست الكلمة بإيجاز بعضَ لقطاتٍ مِن أدواره الكبيرة، وبعض لمحاتٍ عاجلة مِن حياتِه.

نعم، نلتقي في هذا الحفلِ التَّأبينيّ الحزين.

وكمْ هو صعبٌ صعبٌ أنْ أقفَ مؤبِّنًا لإنسانٍ تمركز في القلب، وملأ كلَّ الرُّوحِ والوِجدانِ.

فالفاجعةُ أكبرُ مِن الكلماتِ.

لكنّه بعضُ وفاءٍ، حينما تمتزجُ الحروفُ بالعَبرات، وحينما تمتزج الكلماتُ بالآهاتِ والحسَرات.

علاقة امتدتْ عُمرًا طويلًا لا تختصرُها بعضُ حُرُوفٍ مُتَعثرةٍ، وبعضُ كلماتٍ عاجلةٍ.

فاستميحُ الفقيدَ الحبيبَ عُذرًا إنْ تعثَّرتْ الحروفُ، وارتبكتْ الكلماتُ.

فالحدَثُ جَلَلٌ

والفراقُ مفجعٌ

والأسى كبير

واللَّوعةُ قاسية

والفاجعةُ ثقيلة.

ولكنَّا نحتسبك أيُّها العبدُ الصَّالح عند ربٍّ رحيم، في صحبة أولياء أبرار.

بعد هذه المقدّمةِ العاجلةِ ننفتح على بعضِ عناوين، مجرَّد انفتاحٍ عاجل، ومجرَّد مقاربة سريعة، ومجرَّد ملامسةٍ عابرة:

 

كيف تشكَّلتْ علاقتي مع الأستاذِ سالم النُّويدري؟

في مرحلةِ السِّتينات مِن القرنِ الميلاديّ الماضي، وكنتُ في العشريناتِ مِن عمري حينما بدأ تعرُّفي على الأستاذِ سالم النُّويدري، وكان أكبر سنًّا مِنّي.

وكانت فرصةً مِن أغنى الفُرَصِ.

وبقيت متجذّرةً في حياتي.

فتحت لي هذه المعرفةُ بالأستاذ النُّويدري آفاقًا أغنتني بالكثير مِن العطاءات الثَّقافيَّة في مرحلةٍ كان الوَعْيُ الإيمانيّ يتحرك ببطء، وكان صُنَّاعُ الوعي يتستَّرونَ، ويصمتون.

نعم في تلك المرحلة وجدنا في الأستاذ سالم النُّويدري نموذجًا كبيرًا حرَّك المياه الرَّاكدة، وفتح آفاقًا مِن مساراتِ الوَعْي، هو ونخبةٌ مِن أقرانِهِ الذين صنعوا مُنطلقًا لحراكٍ رساليٍّ أسَّس لمرحلةٍ هي مِن أغنى المراحلِ في صناعة أجيالِ هذا الوطن.

وإذا أردنا أنْ نتحدَّث عن مخاضاتِ تلك الحُقبةِ التَّاريخيَّة بكلِّ تحدِّياتِها الصَّعبةِ، فلا يسعُنا بكلِّ تأكيد أنْ ننسَى دور أستاذِنا النُّويدري، هذا الدَّور بكلِّ مُعطياتِهِ الفاعلةِ في أيَّامٍ ليس مِن السَّهلِ أنْ تنشطَ القُدُراتُ الإيمانيَّةُ، وليس مِن السَّهلِ أنْ تتأصَّل مسارات الوَعْي.

في تلكَ الأيَّامِ كان لأسْتاذِنا النُّويدري الحضورُ كلُّ الحضور، والعطاءُ كلُّ العطاءِ، والنَّشاطُ كلُّ النَّشاط.

 

كيف كانَ دورُهُ التَّبليغيُّ في تلك المرحلة؟

بكلِّ تعقيداتِها، وبكلِّ إشكالاتِها، وبكلِّ تحدِّياتِها؟

كان منهجَهُ احتضانُ النُّخبِ الشَّبابيَّة.

وقد اعتمد في هذا الشَّأنِ مجموعةَ مَسَاراتٍ:

[ما كان يمارسُ عملًا ارتجاليًّا]

المَسارُ الأوَّل:

انتقاء النَّماذج الشَّبابيَّة المتميِّزة في قُدُراتِها الذِّهنيَّةِ والثَّقافيَّة، وفي إمكاناتِها النَّفسيَّةِ والرُّوحيَّةِ، وفي استعداداتِها العمليَّةِ والحركيَّة.

وقد استطاع هذا الانتقاء أنْ يكتشفَ مخزونًا كبيرًا مِن الطَّاقاتِ الشَّبابيَّة التي ظلَّت مغمورةً زمنًا طويلًا، وظلَّت مُعطَّلةً دهرًا كبيرًا.

 

المَسارُ الثَّاني:

صناعة الوَعْي الرِّسَاليّ لدى مساحةٍ كبيرةٍ مِن الجيلِ الشَّبابيّ، بما يُعبِّر عنه هذا الوَعْي مِن فهمٍ أصيلٍ لمعنى الانتماءِ إلى الدِّين.

وهكذا استطاع الأستاذ النُّويدري وشركاءُ دربِهِ أنْ يؤسِّسُوا لمساراتٍ شبابيَّةٍ معبَّئةٍ بمستوياتٍ عاليةٍ مِن الوَعْي والبَّصيرة، ومملوءةٍ بالطَّاقاتِ الإيمانيَّةِ والرُّوحيَّة في زحمةِ الموجِ الضَّالِ والفاسدِ والمُدمِّر…

فأسْتاذنا النُّويدري أحدُ أبرزِ روَّاد الوَعْي في هذا الوطنِ، مُوظِّفًا في ذلك قُدُراتِه الكتابيَّةِ، وقُدُراتِهِ الخطابيَّةِ، وقُدُراتِهِ الحواريَّةِ.

 

المَسارُ الثَّالث:

وفي سِياقِ صناعةِ الجيلِ الإيمانيِّ مارسَ أسْتاذُنا النُويدري وشركاءُ دربِهِ دورًا متميِّزًا في تحصين الشَّباب روحيًّا، وأخلاقيًّا، وسُلوكيًّا مِن خلالِ البرامج الإيمانيَّة، والدُّروسِ الدِّينيَّة، والمحاضراتِ واللِّقاءاتِ والفعَّاليَّاتِ.

والتي واجهت كلَّ المشاريعِ الضَّالة والفاسدة والفاسقة، والتي اعتمدت أحدث الأدوات والوسائل مقتحمةً أوطاننا العربيَّة والإسلاميَّة، وسارقةً لمساحاتٍ كبيرة مِن أجيالِ أُمَّتنا، وأجبالِ أوطاننا.

 

المَسارُ الرَّابع:

ومارس أسْتاذُنا النُّويدري، وشركاءُ دربِه دورًا كبيرًا في إنتاج أجيالٍ رساليَّةٍ ناشطةٍ، استطاعت أنْ توظِّف قُدُراتِها الفكريَّة، والنَّفسيَّة، والعمليَّة في خدمةِ أهدافِ الدِّين، في مرحلةٍ امتلأتْ السَّاحةُ بقوى دخيلة حاولت أنْ تسرق أجيالنا، وأنْ تسرق شبابنا لولا جهود حملة الوَعْي مِن أمثال الأستاذ النُّويدري، وجهود منابرنا، وجهود مساجدنا …

 

كيف تَمَرحلتْ العلاقةُ مع الأستاذ النُّويدري؟

المرحلة الأولى: السِّتينات حتَّى منتصف السَّبعينات

كانت مرحلة تجذَّرتْ فيها العلاقةُ مع الأستاذ النُّويدري، وكانت مرحلة غنيَّة كلَّ الغِنى بالنَّشاطات الدِّينيَّة رغم التَّعقيدات والتَّحدِّيات والإشكالات، ولست هنا في صددِ الحديث عن خصوصيَّات المرحلة وصعوباتها ومخاضاتها، ما أردتُهُ فقط هو المَرْحَلَةُ لعلاقتي مع أسْتاذنا النُّويدري، وأنَّها علاقة متجذِّرة وقديمة، وليست علاقة شكَّلتها ظروف طارئة، وحسابات ذاتيَّة، وقناعات مرتجلة.

 

المرحلة الثَّانية: في منتصف السَّبعينات

في منتصف السَّبعينات كانت هجرتي إلى دولة الإمارات العربيَّة، والتي استمرَّت أربع عشرة سنة.

فهل انقطعت العلاقة مع الأستاذ النُّويدري؟

لم تنقطع العلاقة وكانت عن بُعد.

أتابع عطاءاتِه ونتاجاتِه العلميَّةَ والفكريَّةَ، وبرامجَهُ الثَّقافيَّة، وخدماتِهِ الاجتماعيَّةَ، وكان له حضورُه الفاعل والمتميِّز في السَّاحة البحرانيَّة، وكلُّ النَّاشطين في هذه السَّاحةِ يعترفون له بالدَّورِ الفاعل على كلِّ المُسْتَوياتِ.

وكانَ يعملُ بكلِّ إخلاصٍ، لا يطلب جاهًا ولا شُهرةً، ولا يطلبُ مالًا ولا دُنيا، يكتب ويُحاضِر، ويعلِّم بعيدًا عن الرِّياءِ والسُّمعةِ، وفي زحمة كلِّ المُعوِّقات.

هكذا كنت أتابعُ عن بُعد دورَه وعطاءه العلميَّ والثَّقافيَّ والرِّساليَّ، مُمثِّلًا عنوانًا كبيرًا مِن عناوين المسيرةِ الرِّساليَّةِ والجِهاديَّةِ، لا يملُّ ولا يتعبُ ما دامَ يحملُ قُدْرةً، وما دامَ يملك طاقةً، هذا هو دأبُ العاملين المُخلِصين، والدُّعاةِ الصَّادقين.

 

المرحلة الثَّالثة: وبدأت مرحلةٌ جديدةٌ في العلاقةِ مع الأستاذِ النُّويدري

حينما ضمَّتَنا الهجرةُ إلى جوارِ سيِّدتِنا ومولاتِنا الحوراءِ زينبَ ابنةِ أمير المؤمنين (عليهما السَّلام) فيما بعد منتصف الثَّمانينات مِن القرنِ الميلاديِّ الماضي.

وكانت مرحلة غنيَّةً كلَّ الغناءِ بالعطاء.

هناك التقيت برفقاء أخيار، وأخصُّ منهم الأستاذ سالم النُّويدري، وحبيبَنا السَّيِّد معتوق أبو محمَّد، وآخرين كانوا أخوةً أوفياء.

هناك إلى جوار مولاتنا الحوراء كانت العلاقة مع الأحبَّة لها طعم متميِّز، صحيح كانت الغربةُ عن الوطن لها مرارتُها، ولها آهاتُها، ولها هواجسُها، ولها دموعُها.

إلَّا أنَّ مجاورةَ الحوراء زينب ابنة أمير المؤمنين (عليهما السَّلام)، والتي جسَّدت قِمَّة الصَّبرِ والصُّمودِ والتَّضحية والعطاءِ ملأتنا ثباتًا وهُدوءًا، وراحةً واطمئنانًا.

نعم عند السَّيِّدة الحوراء كانت واحدةً مِن أهمِّ محطَّاتِ العلاقة مع الأستاذِ سالم النُّويدري، وكانت محطَّةً غنيَّةً كلَّ الغِنى بالمحبَّةِ والصَّفاء والمودَّةِ، ومشحونةً بالعطاءِ الرُّوحيِّ والوجدانيِّ، ومملوءة بالفاعليَّةِ والنَّشاطِ في خدمةِ أهدافِ الرِّسالةِ، وأهدافِ الخطِّ الإيمانيّ.

وكان للأستاذ النُّويدري دورُه الفاعل في كلِّ مساحاتِ النَّشاط والعطاءِ، والتي انفتحت على آفاقَ كبيرة، واتَّسعت كثيرًا.

ورغم أنَّ همومَ هذا الوطن كانت تتمركز في داخِلنا، إلَّا أنَّ الهمَّ الأوسع كان له حضوره الكبير في كلِّ تطلّعاتِنا وبرامجنا.

وكان أسْتاذُنا النُّويدري عقلًا فاعلًا في مساراتِ هذا المخاض الإيمانيّ، والهمّ الرِّساليّ.

ورغم ازدحام مخاضاتِ العملِ في تلك المرحلةِ كان الأستاذ النُّويدري مهمومًا بالبحثِ والكتابة والتَّأليف، وهذا الجانب في حياة أسْتاذنا النُّويدري يحتاج إلى قراءة متخصِّصة، لا إلى إطلالةٍ عاجلةٍ، وأتمنَّى أنْ ينهض بهذه المهمَّة بعض أصحاب الكفاءاتِ النَّقديَّة والعلميَّة والأدبيَّة، والوطنُ غنيٌّ بهذه الكفاءات والقُدُرات.

إنَّ نتاجًا علميًّا في مستوى (أعلام الثَّقافة الإسلاميَّة في البحرين… خلال ١٤ قرنًا) يحتاج إلى قراءةٍ متأنيَّةٍ ومتخصِّصة، لا إلى وقفات عاجلةٍ لا تعطي لهذا الطَّودِ حقَّه العلميّ والبحثيّ.

 

المرحلة الرَّابعة: في منتصف التِّسعينات

وكيف استمرَّتْ العلاقةُ مع الأستاذ النُّويدري

في منتصفِ التِّسعيناتِ مِن القرن الماضي عاد الأستاذ النُّويدري إلى الوطن، واستمرَّ بقائي هناك في المهجر وإلى جوار الحوراء زينب، وهنا عاد التَّباعد المكاني مع الأستاذ.

عاد الأستاذ إلى الوطن ليبدأ مشوارًا جديدًا في مسارات النَّشاط التَّبليغيّ، كان الكاتب والمحاضر والنَّاشط، والمهموم بكلِّ قضايا الوطن، يعمل بكلِّ صدقٍ وإخلاصٍ لا ييأس، ولا يتعب، وكان أكبر مِن العناوين الذَّاتيَّة، والانحيازات الشَّخصيَّة.

ولا شكَّ أنَّ كلمة في حفلٍ تأبينيٍّ عاجزة كلَّ العجز أنْ تُقارِبَ قمَّةً مِن قمم الوَعْي، ورمزًا مِن رموز العَطاء.

 

المرحلة الخامسة: مع إطلالة الألفين الميلادية

ومع إطلالةِ الألفين الميلاديَّة عدتُ إلى الوطن بعد غياب دام رُبعَ قَرْنٍ، والتحمت العلاقة مِن جديد مع أسْتاذنا النُّويدري، إنَّها علاقة الدَّرب الطَّويل بكلِّ همومِه المشتركةِ، وعناءاته الكبيرة.

بقي الأستاذ كما عهدناه قمَّة عَطاءٍ وجهادٍ وصبر وثبات وصدق وإخلاصٍ، فعطاءاتُه الغنيَّة استمرَّت، ومساهماتُه الثَّقافيَّة كان لها حضورها وجهوده التَّبليغيَّة لم تتعطَّل فكان المحاضر، وكان النَّاشط، وكان المربِّي، وكان الباحث، وكان الكاتب، ولستُ هنا في صدد الحديث عن مُعوِّقات تلك المرحلة، وإشكالاتها، إلَّا أنَّ أسْتاذنا كان أكبر مِن المعوِّقات والإشكالات.

 

حتَّى زَحَفَ إليه المرض

بكلِّ ثِقلِهِ في السَّنواتِ الأخيرة، فعطَّل لديه كلَّ القُدُراتِ، وتجمَّد الحَراكُ، وصمتتْ الكلمةُ…

إلَّا أنَّ إنجازاتِه العلميَّة بقيت متحرِّكة، وبقيت ناطقة، وبقيت فاعلة.

فرمزٌ كبيرٌ في مستوى الأستاذ النُّويدري لا يمكن أنْ يُغَيِّبُه مَرَضٌ، أو يُغَيِّبُه رحيلٌ فهو الحاضر كلَّ الحضور في عقولِنا، وفي ضمائِرنا، وفي كلِّ مسيرتِنا.

وسوف يبقى عنوانًا كبيرًا لكلِّ أجيالِنا.

هذه الأجيالُ التي تغذَّتْ مِن فكرهِ، وعلمِهِ، وعطاءاتِه الرُّوحيَّة، والأخلاقيَّة، والاجتماعيَّة…

 

وفي ختامِ الكلمة:

أحملُ كلَّ العزاءِ إلى عائلةِ أسْتاذِنا الكبير.

وإلى أولادِهِ الأطياب، آملًا أنْ أجد فيهم امتدادًا لهذا العنوان الشَّاخص.

كما أحمل العزاءَ لإخوتِهِ وذويهِ، ولكلِّ مُحبِّيهِ وعارفيه.

حشره الله مع الأبرارِ والصَّالحين والأولياء والمقرَّبين بما قدَّم وأعطى، وبذلَ وجاهد.

فنمْ قريرَ العَين أيُّها العبدُ الصَّالح.

نمْ قرير العَين بما قدَّمتَ وأعطيت.

وفي الختام نقرأ الفاتحة إلى روحِهِ الطَّاهرة.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى