حديث الجمعة 25: المراسيمُ الحُسَينيّة: مُعالجةٌ نقديَّةٌ صَرِيحة
حديث الجمعة 25 | 3 محرم 1424 هـ | 6 مارس 2003 م | المكان: مسجد الإمام الصادق (ع) | القفول - البحرين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد وآله الطيبين الطاهرين….
أيها الأحبة في الله:
عظّم الله أجوركم بمصاب الإمام الحسين، ومصاب الصفوة من أهل بيته وأصحابه.
في هذه الأيام نعيش الذكرى الفاجعة، فاجعة كربلاء، هذه الفاجعة التي تحتضن بين حناياها أعظم مأساة في التاريخ، كان ضحيتها العترة الطاهرة من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
حيث غدوا صرعى مضرجين بدمائهم يفترشون ثرى كربلاء، وقد مزقت أجسادهم سيوف البغي، ورماح الطغيان، وتناثرت أشلاؤهم تحت حوافر الخيول.
وبقيت نساؤهم أسارى حيارى نادبات، وبقيت أطفالهم يتامى والهات، تلاحقهن سياط مسعورة، كلما تندّت من مقلة طفلة دمعة، أو تحركت آهة، هوت السياط المجنونة، فتخرس الدمعة، وتتجمد الآهة، وهكذا تشتد المحنة، ويتفاقم الخطب… وزينب الأسيرة المثكولة تواجه الموقف بصبر وثبات، ترعى عليلا قد أرهقته الآلام، وتحتضن صبيه وصبايا ذاهلات، وتهدئ نسوة باكيات نادبات.
هذا والقلب منها مشدود إلى الجسد المقدس الذي يفترش الرمضاء، بلا مواراة، تناهبته السيوف والرماح وحوافر الخيول، وكذلك الأجساد الطاهرة الراقدة فوق الرمال الحمراء.
هكذا ارتسمت خيوط الفاجعة، التي تجذّرت في ذاكرة التاريخ، وترسخت في وجدان الزمن، واحتضنتها القلوب العاشقة، وانصهرت معها الأرواح الظامئة، فكان الحزن الخالد، وكان البكاء المقدس، وكانت مجالس الذكرى المتجددة، وكان المنبر، وكان الموكب، وكانت الشعائر، وكانت مراسم عاشوراء.
وهنا – أيها المؤمنون – دعونا ننتقل من لغة الوجدان والحب والعاطفة، إلى لغة النقد والمراجعة والمحاسبة.
نبدأ بطرح هذا السؤال:
٭ لماذا تحمّل الإمام الحسين، وآل الحسين، وأصحاب الحسين كل هذا العناء الصعب، وكل هذا البلاء الصعب، وكل هذه التضحيات والمحن والآلام؟
لا شك أن كل هذا من أجل الإسلام، من أجل الدين، من أجل القرآن، فقضية كربلاء هي قضية الإسلام وقضية الدين وقضية القرآن، أراد الإمام الحسين من خلال ثورته أن يحدد «الخط الأصيل» في حركة الإسلام وفي حركة الدين، وفي حركة القرآن، في مقابل «الخط المنحرف» الذي أراد النظام الحاكم أن يكرّسه في واقع المسلمين.
وانطلاقا من هذا الفهم نتساءل:
ما هو دور «المراسيم العاشورية» في تركيز قيم الإسلام والدين والقرآن في واقع الأمة؟
وفي ضوء هذا التساؤل نحاول – من خلال مجموعة أحاديث – أن نعالج بعض قضايا «المراسيم الحسينية» معالجة نقدية صريحة، وما لم نتوفر على هذه المعالجات فسوف تتكرس الحالات الخاطئة والمتخلفة الأمر الذي يؤدي إلى «إجهاض» الأهداف الحقيقية لهذه «المراسيم» كما يؤدي إلى إعطاء الصورة المشوهة التي تنعكس بسلبياتها على سمعة المذهب نفسه.
ورغم أن الصراحة في مثل هذه القضايا قد تكلّف الإنسان ثمنا باهظا، إلا أن المسئولية الشرعية تفرض علينا أن نقول الكلمة، ألسنا نعيش ذكرى كربلاء التي علمتنا أن نكون الأقوياء من أجل الحق.
المنبر الحسيني:
القضية الأولى التي أتناولها في حديث الليلة، هي «قضية المنبر الحسيني»، فما هي رؤيتنا لخطاب المنبر الحسيني، وما هي رؤيتنا لخطباء المنبر الحسيني. والحديث عن واقع المنبر الحسيني في البحرين خاصة، وإن كانت السمات تتقارب في أغلب المناطق الشيعية.
هل أن مستوى خطاب المنبر الحسيني – عندنا – يشكل المستوى المطلوب في هذا العصر؟
وهل أن مستوى خطباء المنبر كما تفرضه حاجات المرحلة وضروراتها؟
في البداية يجب أن نثمّن دور الكثير من الخطباء المخلصين العاملين، بما قدموه من خدمات كبيرة في الحفاظ على أهداف المنبر، وفي حماية خط الانتماء إلى مدرسة الأئمة من أهل البيت، وفي الدفاع عن قيم الإسلام، وفي صياغة الأجيال الملتزمة، إلا أنّ هذا لا يعفينا من ممارسة النقد والمحاسبة من أجل التصحيح والتطوير، وفي هذا السياق نقول: بأن خطاب المنبر الحسيني – في بلدنا – لازال في حاجة كبيرة إلى التطوير، كما أن خطباء المنبر – عندنا – لا زالوا في حاجة إلى ارتقاء ونهوض، ففي ظل المتغيرات العلمية والفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية، وفي ظل القفزات الكبيرة في مستوى وعي الجمهور، وفي ظل التحديات الصعبة التي تواجه الإنسان المسلم، يبدو أن خطاب المنبر الحسيني لازال دون المستوى المطلوب، إن لم يكن متخلفا في كثير من الأحيان، فهل تملك ساحتنا خطباء من الطراز الأول كما هم «النماذج» من الخطباء البارزين في الساحة الشيعية العالمية؟
أنا لا أعتقد أننا تنقصنا القدرات الخطابية إلا أنها تعيش «التحجم» و«الانغلاق» في داخل الساحة المحلية، وبإمكانها لو طوّرت نفسها أن تكون من الطراز المتقدم في الساحة الشيعية العالمية، الواقع الخطابي – عندنا – لازال كما قلت في حاجة إلى النهوض والتجديد للخروج من حالات الضعف والتخلف…
ما هي الأسباب التي أدت إلى نقص «المستويات الخطابية المتميزة»، ولا أقول غياب «المستويات المتميزة» ففي الساحة بعض النماذج، لكنها قليلة، ولذلك عبّرت بنقص «المستويات».
– فما هي أسباب هذا النقص؟
– وما هي أسباب إنتشار المستويات العادية؟
وقبل أن نعالج الأسباب يجب أن نحدّد أهم المؤهلات الأساسية التي تكوّن «الكفاءة الخطابية» وأعني هنا الخطابية الحسينية ونوجز هذه المؤهلات فيما يلي:
1- المؤهلات العلمية والفكرية والثقافية.
2- المؤهلات النفسية والروحية.
3- المؤهلات العملية والسلوكية والأخلاقية.
4- المؤهلات الاجتماعية والسياسية.
5- المؤهلات الفنية والخطابية.
فما هي الاسباب في نقص الكفاءات والقدرات الخطابية؟
السبب الأول:
عدم وجود «المؤسسة» التي تعنى باختيار الكفاءات وإعدادها، وتأهيل الخطباء وإنتاجهم، كانت الطريقة التقليدية التاريخية في إعداد خطباء المنبر الحسيني هي «التتلمذ والتصنع» على يد خطيب معروف متميز، وقد انتجت هذه الطريقة مستويات جيدة من الخطباء، إلا أن هذه الطريقة اختفت، بل أصبحت غير قادرة على الانتاج في ظل المستجدات والمتغيرات، إن اعداد الخطيب في هذه المرحلة يحتاج إلى «عمل مؤسسي» مدروس، بعد أن أصبحت الجهود الفردية عاجزة عن إنتاج الخطيب المعاصر.
السبب الثاني:
القصور الذاتي لدى عدد من خطباء المنبر الحسيني، والإهمال والتقصير لدى البعض الآخر…
يوجد عدد من المتصدين للخطابة لا يملكون قدرات ذاتية تؤهلهم لأداء هذه المهمة، ما خلا «القدرة الصوتية» والتي كثيرا ما أغرت البعض في اختيار هذا الطريق مهما كانت القدرات الأخرى، وإن غياب المؤسسات المركزية المشرفة أتاح الفرصة لكل من تستهويه «مهارة الصوت» أن يلج هذا الميدان وإن كان فاقداً لكل المؤهلات… وهناك نسبة من الخطباء يملكون «استعدادات ذاتية» ولكنهم يقصّرون في تفعيل هذه الاستعدادات، ورغم أن الجهد الفردي قد يعجز أحيانا إلا أن ذلك لا يعني أن هذا الجهد يفشل دائما، فمن الخطباء ما استطاعت جهودهم الذاتية أن ترقى بهم إلى مستويات متقدمة ومن هنا نؤكد أهمية «الاجتهاد والمعاناة الذاتية» في تأهيل الخطيب الحسيني… ومن الملاحظ أن عددا ليس قليلا من خطباء المنبر الحسيني لا يبذلون الجهد المناسب لتأهيل أنفسهم على مستوى هذه المهمة الخطيرة، وكما قلنا أن بعض الخطباء قد تغريهم أصواتهم فيكتفون بما يحصلون عليه من بعض الاشتهار…
السبب الثالث:
القائمون على شؤون المآتم والمجالس الحسينية يتحملون قسطا من المسئولية في انخفاض مستوى الكفاءات الخطابية…
قد تتسائلون: وما علاقة هؤلاء القائمين بمسألة انخفاض المستويات الخطابية، هناك علاقة واضحة، فلو أصرّ القائمون على شؤون المآتم على اختيار الكفاءات المؤهلة، وأصرّوا على رفض الكفاءات غير المؤهلة لشكّل ذلك حافزاً قوياً على تحريك القدرات وتنشيط الإمكانات، ولكن الملاحظ أن الكثير من هؤلاء المشرفين على الحسينيات، وربّما انطلاقا من حسابات مادية لا يهتمون بالاختيار النوعي، وقد لا يعنيهم أكثر من «الصوت» والقدرة على «التنغيم»، فلا يعنيهم مستوى الوعي والثقافة، ولا يعنيهم المستوى الروحي، ولا يعنيهم مستوى الكفاءة الخطابية.
وهنا نؤكد أن توفّر المسئولين على عناصر الوعي والاخلاص والمبدئية الحسينية يساهم بدرجة كبيرة جدا في تطوير مستوى المنبر وإنتاج الكفاءات الخطابية المؤهلة، فكلما كان المشرف على شؤون المأتم أكثر وعيا وإخلاصا ومبدئية، كان دوره أكبر في الارتقاء بمستوى المنبر من خلال الاختيار الأوعى والأصدق للقدرات الخطابية وهنا نقترح أن تتشكل «هيئة مركزية» للتنسيق بين الحسينيات، والاهتمام بمسألة اختيار الخطباء.
السبب الرابع:
إن جمهور المنبر الحسيني هو القوة القادرة على محاسبة المستويات الخطابية، فهذا الجمهور هو الذي يعطي للخطيب حضوره واشتهاره، وبإمكانه أن يسلب منه ذلك، فجمهور المنبر الحسيني يتحمل مسئولية كبيرة وخطيرة وكلّما كان الجمهور أكثر وعيا وبصيرة، وأكثر إخلاصا وصدقا، وأكثر مبدئية والتزاماً كان دوره أكثر فاعلية، وأقوى عطاء.
إننا نحمّل الجمهور مسئولية التصدي والمراقبة والمحاسبة في مواجهة كل المستويات الخطابية المتخلفة، وكل المستويات العابثة، وكل المستويات التي تحاول أن تزرع الفتنة والفرقة في داخل الصف المؤمن، إننا لا نريد أن نحرّض الجمهور، وإنما نريد مسئولية هذا الجمهور المؤمن الواعي الملتزم في الحفاظ على أصالة المنبر، وخطاب المنبر، وأن لا يتحول المنبر إلى وسيلة للتلاعب والعبث، مع احترامنا وتقديرنا لكل الكفاءات المنبرية المخلصة الصادقة التي أعطت من جهدها وفكرها وامكاناتها في خدمة أهداف الثورة الحسينية، وكان لها دورها الجاد والفاعل في الحفاظ على أجيال الأمة، وحماية مسيرة الولاء والايمان، وهذا لا يلغي ضرورة المراقبة والمحاسبة.
وحينما نطالب الجمهور الحسيني أن يمارس هذا الدور لا يعني أن يفرض الناس رغباتهم وإن كانت بعيدة عن أهداف المنبر الحسيني على الخطباء والدعاة والمبلغين، الأمر ليس كذلك، فكما تعلمون أن للمنبر الحسيني أهدافه كما أن له شروطه ومؤهلاته، فمسئولية الجمهور الحفاظ على هذه الأهداف والشروط والمؤهلات، في ضوء هذه المسئولية يمارس الجمهور رقابته ومحاسبته، أما اذا انحرف الجمهور عن هذه الأهداف والمنطلقات فلا يملك صلاحية المراقبة والمحاسبة فحتى يمارس الجمهور الحسيني دوره وصلاحياته يجب أن يتوفر على مجموعة شروط:
1- أن يملك وعياً ناضجاً بأهداف المنبر الحسيني.
2- أن يملك أخلاصا لهذه الأهداف.
3- أن ينطلق عمليا في خط تلك الأهداف.
نكتفي بهذا القدر من الحديث حول القضية الأولى، وسوف نتابع الحديث لمعالجة قضايا أخرى إن شاء الله تعالى.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.