حديث الجمعة 583: التَّديُّن وفق المنظور القرآنيِّ
هذا الحديث للعلَّامة السَّيِّد عبد الله الغريفي، قد أُلقي في تاريخ: (3 ذو القعدة 1441 هـ – الموافق: 25 يونيو 2020 م)، وقد تمَّ تفريغه من تسجيل مرئيٍّ، وتنسيقه بما يتناسب وعرضه مكتوبًا للقارئ الكريم.
أعوذ بالله السَّميع العليم من الشَّيطان الغويِّ الرَّجيم
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين، سيِّدنا، ونبيِّنا، وحبيبنا، وقائدنا، محمَّد وعلى آله الطَّيِّبين الطَّاهرين.
السَّلام عليكم أيُّها الأحبَّة جميعًا، ورحمة الله وبركاته.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (سورة فصلت: الآية 30)، وما بعدها.
عنوان الحديث في هذا اللِّقاء الطَّيِّب هو:
التَّديُّن وفق المنظور القرآنيِّ
1-يمكن تصنيف النَّاس وفق المنظور القرآنيِّ إلى:
أ-متديِّنين
ب- غير متديِّنين
وهذا من الاستعمالات الشَّائعة.
التَّديُّن ماذا يعني من دلالة؟
ماذا يحمل من معنى؟
حينما نصف إنسانًا بأنَّه متديِّن ربما قد يعني انتسابه إلى دين.
إنسان ينتمي إلى إسلام، فهو مسلم.
ينتمي إلى الدِّين الإسلاميِّ، فهو متديِّن.
وهناك تعريف آخر يرى أنَّ التَّديُّن هو الالتزام، وليس مجرَّد الانتساب.
وقبل أنْ أوضح فكرة التَّديُّن وفق المنظور القرآنيِّ أقف أوَّلًا مع إشكاليَّة.
إشكاليَّة تصنيف المجتمع، والجواب عن ذلك!
قبل أنْ أتناول توضيح المصطلح تواجهنا إشكاليَّة.
هذه الإشكالية تقول: لماذا تصنِّفون النَّاس إلى متديِّنين، وغير متديِّنين؟
ألا يُساهم هذا في تجزئة المجتمعات؟
أليس في هذا التَّصنيف تشطير للواقع الاجتماعيِّ؟
تشطير للمجتمعات؟
تشطير للأوطان؟
عندما نصنِّف النَّاس هذا متديِّن، وهذا غير متديِّن، فهذا تصنيف، هذا تمزيق، هذا تشتيت!
فلماذا هذا التَّصنيف؟
وما ضرورة أنْ نصنِّف النَّاس إلى متديِّنين، وغير متديِّنين؟
الجواب السَّريع على هذه الإشكاليَّة:
أوَّلًا: الواقع البشريُّ حافل بتصنيفات كثيرة
فنقرأ – الآن – في كلِّ مجالات الواقع الاجتماعيِّ الكثير من التَّصنيفات.
1-إنَّنا نصنِّف النَّاس إلى حكام ورعايا، هذا تصنيف.
عندما تصنِّف النَّاس إلى طبقة حكَّام، وطبقة محكومين، أليس هذا تصنيف؟، نعم هذا تصنيف.
2-حينما نصنِّف النَّاس إلى علماء، وجهَّال، أو إلى علماء، ومتعلِّمين، أليس هذا تصنيف؟، نعم هذا تصنيف.
3-نحن نصنِّف النَّاس إلى مثقَّفين، وغير مثقفين، هذا لون من التَّصنيف.
4-نصنِّف النَّاس إلى أغنياء، وفقراء.
5-نصنِّف النَّاس إلى مواطنين، وغير مواطنين.
6-بل نصنِّف النَّاس إلى وطنيِّين، وغير وطنيين.
إلى آخر قائمة التَّصنيفات.
إذًا، منظومة التَّصنيفات منظومة قائمة في كلِّ المجتمعات.
وأنت تأتي لِتُشكِلَ: لماذا تصنِّف النَّاس إلى متديِّنين، وغير متديِّنين، وأنَّ هذا يشطِّر المجتمع؟!
إنَّ هذه تصنيفات قائمة في الواقع الاجتماعي.
وفي الواقع السِّياسيِّ.
وفي الواقع الثَّقافيِّ.
وفي الواقع الدِّينيِّ.
ثانيًا: القرآن الكريم تحدَّث عن عدَّة تصنيفات
إنَّنا عندما نقرأ القرآن الكريم نجده مليئًا بالتَّصنيفات!
القرآن الكريم تحدَّث عن عدَّة تصنيفات.
عن عدَّة نماذج من التَّصنيف.
1-القرآن الكريم تحدَّث عن المتَّقين، وعن الفاسقين، هذا تصنيف.
تصنيف للنَّاس إلى متَّقين، وإلى فاسقين.
2-نقرأ في القرآن الكريم الأخيار، والأشرار، هذا تصنيف.
تصنيف للنَّاس إلى أخيار، وأشرار.
3-نقرأ في القرآن الكريم التَّصنيف إلى مؤمنين، وكافرين.
4-إلى مؤمنين، ومنافقين.
5-إلى أنبياء، وطواغيت.
6-إلى أصحاب الجنَّة، وأصاب السَّعير.
إذًا القرآن الكريم اعتمد منهج التَّصنيف.
فإنَّ التَّصنيف حالة طبيعيَّة في كلِّ الواقع الاجتماعيِّ، كما أنَّ القرآن الكريم قد مارس ألوانًا من التصنيف.
ثالثًا: الدِّراسة لواقع المجتمعات تفرض هذا النَّمط من التَّصنيفات
لا يمكن أنْ نقرأ مجتمعًا ما من دون أنْ نعتمد منهجَ التَّصنيف.
إنَّني عندما أريد دراسة مجتمع ما، أو واقع اجتماعيٍّ معيَّن من الطَّبيعي أنْ أضطَّر إلى تصنيف الواقع الاجتماعيِّ.
فليس من الممكن أنْ أقرأ مجتمعًا ما من دون أن أعتمد منهج التَّصنيف.
إذًا، هذه الإشكاليَّة القائلة: (لماذا تصنِّفون النَّاس إلى متديِّنين، وغير متديِّنين) ليست واردةً.
بعد هذا التَّمهيد نأتي إلى محاولة تفكيك العنوان.
ما معنى التَّديُّن وفق المنظور القرآنيِّ؟
هذا المصطلح ماذا يحمل من مضامين؟
ماذا يحمل من مرتكزات؟
والحديث – طبعًا – عن التَّديُّن وفق المنظور القرآنيِّ.
إنَّني لا أتحدَّث عن التَّديُّن وفق منظورات أخرى.
القرآن الكريم كيف يطرح لنا مفهوم التَّديُّن؟
ما معنى التَّديُّن وفق المنظور القرآنيِّ؟
هناك تديُّن نظريٌّ، شكليٌّ، وهو مجرَّد الانتساب إلى الدِّين.
أنا تديَّنت بالدِّين، أي: انتسبت إلى الدِّين.
مجرَّد انتساب دون أيِّ ممارسة.
دون أيِّ عمل.
دون أيِّ فعل.
هذا نسمِّيه تَديُّن.
لكن هذا نسمِّيه تديُّنًا نظريًّا (شكليًّا)، وهو مجرَّد انتساب إلى الدِّين من دون أنْ يكون لهذا الانتساب أيُّ حضور في حياة الإنسان، أو يكون الحضورُ ناقصًا.
المعنى الحقيقيُّ للتَّديُّن، وعناصره
المعنى الحقيقيُّ للتَّديُّن وفق المنظور القرآنيِّ يحتاج إلى ثلاثة عناصر.
حتَّى أُصنِّف إنسانًا ضمن منظَّمة المتديِّنين أحتاج إلى ثلاثة عناصر تناولها القرآن الكريم عبر مجموعة آيات قرآنيَّة، وكذلك الأحاديث.
التَّديُّن وفق المنظور القرآنيِّ يعتمد هذه العناصر الثَّلاثة:
العنصر الأوَّل:الاعتقاد بالدِّين
العنصر الثَّاني: الالتزام العمليُّ بالدِّين
العنصر الثَّالث: الدَّعوة إلى الدِّين
هذه عناصر إذا توافرت متكاملة أنتجت لنا إنسانًا متديِّنًا وفق المصطلح القرآنيِّ، وإلَّا فالتَّديُّن يصبح تديُّنًا ناقصًا.
سأعطي توضيحًا سريعًا لكلِّ عنصر من هذه العناصر الثَّلاثة.
العنصر الأوَّل – من عناصر التَّديُّن -: الاعتقاد بالدِّين
هنا اعتقاد.
وهنا قناعة تتشكَّل.
قناعة فكريَّة بالدِّين.
إنَّني عندما أنتسب للإسلام فقد تشكَّلت عندي قناعة بأحقَّانيَّة الإسلام في كلِّ مفاهيمه، وفي كلِّ عقائده، وفي كلِّ تصوراته.
إذًا، هنا اعتقاد فكريٌّ، عقليٌّ.
وهنا قناعة قلبيَّة.
فالآية الكريمة التي بدأنا بها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ …﴾ (سورة فصلت: الآية 30).
بدأت بهذا العنصر: ﴿… قَالُوا رَبُّنَا اللهُ …﴾، أي: اعتقدوا بالله تعالى، واعتقدوا بكلِّ المنظومة الإيمانيَّة التي تنطلق من الإيمان بالله سبحانه.
الإيمان بالله (عزَّ وجلَّ) تنطلق منظومة من مجموعة مفاهيم الإيمان بالأنبياء (عليهم السَّلام).
الإيمان باليوم الآخر.
مجموعة مفاهيم عَقيدِيَّة.
تنطلق من مفهوم الإيمان بالله سبحانه.
إذًا، هنا يتشكَّل المرتكز الأساس للإيمان، للتَّديُّن والإيمان بالدِّين.
أنت متديِّن بالإسلام، أي تؤمن بالإسلام، تعتقد بهذا الدِّين بِدْأً من مرتكز الإيمان بالله تعالى، وامتدادًا إلى منظومة العقائد.
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ …﴾، إذًا اعتقدوا بالله تعالى، واعتقدوا بالدِّين.
﴿… قَالُوا …﴾، يعني: اعتقدوا، ليس مجرَّد نطقوا، وإنَّما اعتقدوا، القول هنا يعني الاعتقاد، وألَّا يكون الإنسان منافقًا، فإذا كان ليس معتقدًا، فهو منافق.
فالإيمان والاعتقاد بالله سبحانه، وبكلِّ مرتكزات الدِّين هو الذي يشكِّل الانتماء إلى الدِّين.
هذا عنصر أساس، وهو المرتكز الأساس للتَّديُّن.
فالإيمان، والاعتقاد بالله (عزَّ وجلَّ)، وبكلِّ مرتكزات الدِّين هو الذي يشكِّل الانتماء إلى الدِّين، وهذا ما أكَّدته الكثير من الآيات القرآنيَّة.
1-الآية التي بدأنا بها الحديث ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ …﴾ (سورة فصلت: الآية 30).
إذًا، أسَّست الآية لمرتكز أساس، المرتكز الأوَّل، وهو إيمانهم بالله تعالى، إيمانهم بالعقائد.
2-﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا …﴾ (سورة العصر: الآية 1 – 3).
إذاً هناك إيمان.
3-﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (سورة فصلت: الآية 33) يعلن انتمائه للدِّين.
هذا العنصر الأوَّل من عناصر التَّديُّن وهو الانتساب إلى الدِّين، والاعتقاد بالدِّين في مكوِّنات العقديَّة، وفي كلِّ امتداداته.
هذا العنصر الأوَّل من عناصر التَّديُّن.
العنصر الثَّاني – من عناصر التَّديُّن -: الالتزام العمليُّ بالدِّين
أنا آمنت بالدِّين فكريًّا وثقافيًّا، وأدخلت الدِّين في قلبي، في وجداني، في ضميري، في مشاعري، لكنِّي لم ألتزم عمليًّا بمفاهيم الدِّين، بتوجيهات الدِّين بمنظومة التَّعاليم الدِّينيَّة، فلستُ متديِّنًا!، أنا متديِّن انتسابًا، هُويَّةً، أمَّا عمليًّا، فأنا لستُ متديِّنًا.
حتَّى تكتمل صورة التَّديُّن، فإلى جانب المنظومة الفكريَّة العقديَّة أحتاج إلى تطبيق.
أحتاج إلى عمل.
أحتاج إلى ممارسة.
أحتاج إلى سلوك.
1-﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ …﴾، هنا انتماء هنا عقيدة.
﴿… ثُمَّ اسْتَقَامُوا …﴾، الاستقامة هو الانطلاق في خطِّ الالتزام على كلِّ المستويات.
2-﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ …﴾ (سورة العصر: الآية 1 – 3)
إذًا، هناك إيمان.
وهناك عمل.
حتَّى يتشكَّل التَّديُّن وفق المنظور القرآنيِّ أحتاج إلى إيمان.
وأحتاج إلى عمل.
أحتاج إلى سلوك، ومنظومة قِيم.
حينما أتحدَّث عن الالتزام العملي أعني تحويل المفاهيم إلى واقع عمليٍّ في حياة الإنسان.
إنَّ المفاهيم إذا بَقِيت مجرَّد مخزونات فكريَّة ثقافيَّة في العقل، ومجرَّد منظومة من المشاعر والقِيم في القلب، فهذه لا تشكِّل الهُويَّة الانتمائيَّة الحقيقيَّة.
هذه المنظومة الفكريَّة الثَّقافيَّة في العقل، وهذه منظومة القِيم، والمشاعر، والعواطف في القلب لا بدَّ أنْ أحرِّكها في الخارج.
أحوِّلها إلى سلوك.
أحوِّلها إلى عمل.
أحوِّلها إلى ممارسة.
إذًا، هنا تحوَّل المفهوم إلى عمل، وتحوَّلت المشاعر إلى سلوك.
هذا عنصر أساس في الانتساب إلى الدِّين.
هذا عنصر أساس في تشكُّل مفهوم التَّديُّن.
الالتزام العمليُّ هو تحويل المفاهيم إلى واقع عمليٍّ متحرِّك في حياة الإنسان.
وحينما نتحدَّث عن تحريك المفاهيم في الواقع لا أتحدَّث عن تحريك المفاهيم في مساحة معيَّنة فقط.
مطلوب أنْ أحرِّك مفاهيم الدِّين في كلِّ مساحات حياتي.
حياتي مجزَّأة إلى مساحات.
أ- على مستوى الواقع العباديِّ
أُحرِّك الدِّين في الواقع العباديِّ.
أصلِّي، أصوم، أحجُّ، أزكِّي، أُخمِّس.
هذه مفاهيم في الواقع العباديِّ.
ب- على مستوى الواقع الأخلاقيِّ.
مستوى آخر: أُحرِّك الدِّين في الواقع الأخلاقيِّ.
قد أحرِّك الدِّين في الواقع العباديِّ.
أُصلِّي، أصوم، أحجُّ، لكنَّ القِيمَ الأخلاقيَّة، السُّلوك الأخلاقيَّ، لا تنطلق من الدِّين.
إذًا، أنا لم أحرِّك الدِّين في موقع الأخلاق!
مطلوبٌ كما أُحرِّك الدِّين في الواقع العباديِّ، أنْ أُحرِّك الدِّين في الواقع الأخلاقيِّ.
في تعاملاتي مع الآخرين.
في تعاملاتي مع أُسرتي.
في تعاملاتي مع أولادي.
هناك منظومة قِيم.
هناك منظومة أخلاق.
ليس متديِّنًا مَن لا ينشِّط الرُّؤى الدِّينيَّة في موقع الأخلاق، أو في الواقع الأخلاقيِّ.
ج- على مستوى الواقع الاجتماعيِّ
أنْ أُحرِّك رؤى الدِّين، ومفاهيم وقِيم الدِّين في الواقع الاجتماعيِّ، والعلاقات الاجتماعيَّة مع النَّاس.
د- على مستوى الواقع الاقتصاديِّ
أنْ أُحرِّك منظومة المفاهيم الدِّينيَّة في الواقع الاقتصاديِّ.
وأنا متديِّن في العبادة متديِّن في الأخلاق، لكن في معاملاتي الاقتصاديَّة بعيد عن الدِّين، بعيد عن رؤى الدِّين!
ه- على مستوى الواقع السِّياسيِّ
أنْ أُحرِّك منظومة المفاهيم في الواقع السِّياسيِّ.
و- وفي كلِّ المستويات الحياتيَّة.
أخلص إلى نتيجة مهمًّة جدًّا، وهي: إنَّ التَّديُّن لا يتجزَّأ.
ما معنى أنَّ التَّديُّن لا يتجزَّأ؟
هل يمكن أنْ أكون متديِّنًا في الواقع العباديِّ، وأبقى غير متديِّن في الواقع الاجتماعيِّ؟!
هل يصحُّ أن نصنِّف الإنسانَ هذا متديِّن في الواقع العباديِّ، وغير متديِّن في الواقع الاجتماعيِّ؟!
هذا متديِّن في الواقع الأخلاقيِّ، ولكن غير متديِّن في الواقع الاقتصاديِّ، وفي الواقع السِّياسيِّ.
فمثل هذا اللَّون من التَّجزئة هل يمكن القبول به؟
لا!
مفهوم (التَّديُّن) مفهوم شامل لا يقبل التَّجزئة.
إنَّ الذي لا يحرِّك الدِّين في كلِّ الواقع الذي يتحرَّك فيه لا أسمِّيه متديِّنًا.
لا يوجد عندنا متديِّن في الصَّلاة، وغير متديِّن في الأخلاق.
لا يوجد عندنا متديِّن في الأخلاق، وغير متديِّن في الممارسات الاجتماعيَّة.
لا يوجد عندنا متديِّن في السُّلوكات الاقتصاديَّة، وغير متديِّن في الواقع السِّياسيِّ.
إذًا، مفهوم التَّديُّن كما هو مفهوم التَّقوى، هو مفهوم شموليٌّ، مفهوم لا يتجزَّأ.
إذًا، العنصر الثَّاني من عناصر التَّديُّن هو الالتزام العمليُّ بالدِّين.
العنصر الثَّالث هو: الدَّعوة إلى الدِّين
حينما نقرأ قوله تعالى:
﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا …﴾ (سورة العصر: الآية 1 – 3)، هذا العنصر الأوَّل.
﴿… وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ …﴾ (سورة العصر: الآية 1 – 3)، هذا العنصر الثَّاني.
﴿… وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ (سورة العصر: الآية 1 – 3).
إذًا، يمارس دعوة إلى الدِّين. هذا العنصر الثَّالث.
1-﴿… يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ …﴾ (سورة التَّوبة: الآية 71).
2-«قال النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله): إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) لَيَبْغَضُ المؤمن الضَّعيف الذي لا دين له.
فقيل له: وما المؤمن الذي لا دين له؟
قال: الذي لا ينهى عن المنكر» (الكافي 5/59، الشَّيخ الكليني)!
كلمَّا ارتقى مستوى الإنسان العلميِّ، والثَّقافيِّ، والاجتماعيِّ، وكلَّما ارتقى موقعه، وإمكاناته ترتقي مسؤوليَّته.
فهنا عندما أقول: يمارس الدَّعوة إلى الدِّين، ويمارس الأمر بالمعروف.
فهذه المسألة تختلف باختلاف المواقع.
بمعنى: هل أنا أطلب من الفلَّاح أنْ يُمارس الدَّعوة إلى الدِّين كما أطلب ذلك من الفقيه؟
الفقيه بموقعه، وبكفاءاته، وبقدراته، فإنَّ مسؤوليَّته تختلف عن الفلاح، وعن الكنَّاس، وعن العامل.
فحينما أقول يمارس دور الدَّعوة، أو يمارس الأمر بالمعروف أو يمارس قول الحقِّ: ﴿… وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ …﴾ يتواصى بالحقِّ مع أهله.
مع جيرانه.
مع كلِّ مَن يلتقي به.
إذًا، كلَّما ارتقى مستوى الإنسان العلميُّ، والثَّقافيُّ، والاجتماعيُّ، والسِّياسيُّ ارتقى موقعه، وإمكاناته.
وكلَّما ارتقى موقعه، وإمكاناته ترتقي مسؤوليَّته.
الحاكم مسؤوليَّته غير مسؤوليَّة أصغر مواطن.
فأصغر مواطن مسؤول أن يمارس دورًا.
والحاكم مسؤول أنْ يمارس دورًا.
والمثقَّف الكبير مسؤول أنْ يمارس دورًا.
والأميُّ الجاهل مسؤول أنْ يمارس دورًا.
لكن المساحة واسعة، والمواقع متعدِّدة.
فمسؤوليَّة الدَّعوة إلى الدِّين في حدود القُدُرات.
إذًا، آمنوا بالدِّين، وعملوا بالدِّين، ودعوا إلى الدِّين هذا هو المفهوم المتكامل للتَّديُّن.
1-الآية التي بدأنا بها الحديث تقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (سورة فصلت: الآية 30).
بماذا تتنزَّل عليهم الملائكة؟
بشارات الملائكة للمؤمنين العاملين
تتنزَّل عليهم الملائكة بمجموعة بشارات.
هذا النَّمط من المتديِّنين المؤمنين الذي يؤمنون، ويعملون، ويدعون تبشِّرهم الملائكة.
بماذا تبشِّرهم الملائكة؟
الآية وما بعدها من الآيات ذَكَرت سبع بشارات لهذا النَّمط من النَّاس.
البشارة الأولى: ﴿… أَلَّا تَخَافُوا …﴾ (سورة فصلت: الآية 30).
﴿… أَلَّا تَخَافُوا …﴾ من عقاب الله تعالى.
ولا من عذاب الله (عزَّ وجلَّ).
اطمَئِنُّوا هذه بشارة كبرى!
الملائكة تبشِّرهم!
ولكن كيف تبشِّرهم؟، ومتى؟
سأجيب عن ذلك بعد قليل.
الملائكة تبشِّر هذا النَّمط من النَّاس المؤمنين العاملين المطبِّقين الدَّاعين إلى الله تعالى.
أوَّل البِشارات: ﴿… أَلَّا تَخَافُوا …﴾، لا تخافوا من عقاب الله تعالى، ومن غضب الله سبحانه.
البشارة الثَّانية: ﴿… وَلَا تَحْزَنُوا …﴾ (سورة فصلت: الآية 30).
فأنتم من الفائزين.
أمامكم مستقبل كبير، فأنتم من الفائزين.
البشارة الثَّالثة: ﴿… وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (سورة فصلت: الآية 30).
الجنَّة أمامكم.
أنتم سائرون إلى مستقرٍّ، ونعيم، فيما تحمل الجنة من نعيم دائم.
البشارة الرَّابعة: ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ …﴾ (سورة فصلت: الآية 31).
طبعًا، هذا حديث الملائكة مع المؤمنين الصَّالحين.
﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ …﴾، أمرنا الله تعالى أنْ نسدِّد خطاكم في الدُّنيا، وأنْ نستقبلكم في الآخرة.
في الدُّنيا نحن معكم نسدِّد خطاكم.
نسدِّد مسيرتكم.
نرشِّد أوضاعكم.
ثمَّ نستقبلكم حينما تنتقلون إلى الدَّار الآخرة!
﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ …﴾ بتكليف من الله تعالى.
بأمر من الله سبحانه.
البشارة الخامسة: ﴿… وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ …﴾ (سورة فصلت: الآية 31).
لكم في الجنَّة من اللَّذَّات، والمُتَع، والخَيْرَات ما تشتهي أنفسكم.
البشارة السَّادسة: ﴿… وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ (سورة فصلت: الآية 31).
أي: كلُّ ما يخطر على بالكم، فإنَّ الله سبحانه يوفِّره لكم.
كلَّ ما تعيشون رغبة معيَّنة تتوفَّر لديكم!
البشارة الأخيرة (السَّابعة): ﴿نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ …﴾ (سورة فصلت: الآية 32).
أنتم ضيوف الله الغفور الرَّحيم.
هذه بشارات تقدِّمها الملائكة لمَن آمنوا، ﴿… الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا …﴾، ودعوا، وعملوا صالحًا تبشِّرهم الملائكة.
هنا السُّؤال الأخير: متى تتنزل عليهم الملائكة؛ لتحمل لهم هذه البِشارات؟
هذه بشارات الملائكة تقدِّمها للمؤمنين في خطاب مباشر بين الملائكة، وبين هؤلاء المؤمنين.
متى تتنزَّل الملائكة؛ لتبشر هؤلاء المؤمنين بهذه البشارات الكبرى؟
هناك مجموعة أقوال أعرضها بإيجاز سريع.
القول الأوَّل: عند الموت، ووقت خروج الرُّوح.
لحظة خروج الرُّوح تتنزَّل الملائكة؛ لتبشِّرهم.
اللَّحظة الحاسمة المُرعِبة المُخيفة، ﴿وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ …﴾ (سورة ق: الآية 19).
في هذه اللَّحظة المرعبة المخيفة يجدون الملائكة أمامهم تبشِّرهم.
إذًا، البشارات تقدِّمها الملائكة في لحظة الاحتضار.
هذا القول الأوَّل.
القول الثَّاني: إنَّ الملائكة تقدِّم هذه البشارات عند دخول القبر.
اللَّيلة المخيفة المرعبة الموحشة المظلمة تتنزَّل الملائكة عليهم تبشِّرهم بهذه البشارات السَّبع.
القول الثَّالث: عند الإحياء، والبعث، والنُّشور.
﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا …﴾ (سورة المعارج: الآية 44)، هذا خروج مرعب مخيف، هنا الملائكة أيضًا تكون حاضرة؛ لتبشرهم بهذه البشارات السَّبع.
القول الرَّابع: في يوم القيامة.
تستقبلهم الملائكة في المحشر، حيث النَّاس في ذهول، وحيث النَّاس في رعب.
هنا الملائكة تكون حاضرة؛ لتبشر هؤلاء المؤمنين.
القول الخامس: البشارات في كلِّ هذه المواطن.
تكون مستمرَّة بدءًا من لحظة (الموت)، و(في القبر)، و(عند البَعْث)، و(في يوم القيامة).
القول الخامس يجمع كلَّ هذه الأقوال.
ولعلَّه هو الصَّحيح.
فمن الممكن أنْ تكون البِشارات في كلِّ المواقع، ما المشكلة في ذلك؟
البِشارات في كلِّ هذه المواطن تكون مستمرَّة بدءًا من لحظة الموت تكون الملائكة حاضرة تبشِّرهم.
تكون معهم في القبر تبشِّرهم.
تكون معهم حينما يخرجون من القبور تبشِّرهم.
تكون معهم حينما يكونون في القيامة، وأهوال القيامة تبشِّرهم.
فإذًا، البشارات في كلِّ هذه المواطن تكون مستمرَّة من لحظة (الموت)، و(في القبر)، و(عند البعث)، و(في يوم القيامة).
نسأله تعالى أنْ يشملنا بفيضه، ورحمته، وكرمه، وعفوه، ورضوانه.
إنَّه الرَّبُّ الكريم، ورحمته وسعت كلَّ شيئٍ.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
والسَّلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.