في ذكرى شهادة الإمام العسكري عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصّلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الهداة الميامين..
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
في ذكرى شهادة الإمام العسكري عليه السلام:
نحاول أن نقرأ المرحلة التاريخيّة التي عاصرها الإمام الحسن العسكري عليه السلام، وهذه القراءة ضروريّة لمعرفة الأساليب التي مارسها الإمام في ظلّ تلك الظروف فالأئمّة عليهم السّلام كانوا يحرّكون أساليبهم وأدوارهم من خلال فهمٍ دقيقٍ جدًا للأوضاع المتحرِّكة حولهم، وللظروف الموضوعيّة المحيطة بهم، فما كانوا يندفعون اندفاعات انفعاليّة غير محسوبة، وما كانوا يتقاعسون عن أداء مسؤوليّاتهم في الدفاع عن الإسلام وحماية الشريعة وتوجيه الأمّة….
إنّ اهتمام الأئمّة عليهم السّلام برصد الأوضاع السّياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والروحيّة، المتحرّكة في عصورهم هو الذي جعل أساليبهم وأدوارهم تتنوّع وتتعدّد رغم وحدة الهدف الاستراتيجي المركزي لكلّ الأئمّة عليهم السّلام..
فمطلوبٌ من العاملين الإسلاميين أن يرصدوا بدقّة الأوضاع التي يعاصرونها لكي يحدّدوا الأساليب الأصلح والأقدر على تحقيق الأهداف ومواجهة الأوضاع…..
ولا يعني هذا الاستسلام للظروف الضاغطة والخنوع أمام قهر الأنظمة الحاكمة واستبدادها، وإنّما هو «الاختيار الواعي والمدروس» للأساليب والممارسات، لكي لا يتحول الموقف إلى ردود فعلٍ انفعاليّة طائشة، أو ممارساتٍ مرتجلة لها نتائجها المدمّرة، وأثارها الخطيرة…
وحينما نتحدّث عن أهميّة القراءة للأوضاع والظروف المتحرّكة يجب أن نلتفت إلى محذورٍ خطير… البعض يهوّل من حجم الأوضاع والظروف القاهرة والضاغطة إلى حدٍ يوحي لنفسه بالعجز عن ممارسة أيّ دورٍ في اتجاه الإصلاح والتغيير… هذا أمر لابدّ من الحذر منه..
نخلص إلى أنّ التعاطي مع الظروف والأوضاع التي تحكم المجتمعات له ثلاثة أشكالٍ من المواقف لدى العاملين الإسلاميين والسّياسيين:
الشكل الأول: الموقف الذي لا يضع حسابًا للظروف الأوضاع، هذا الموقف يوصف بالارتجال والانفعال والاندفاع غير الواعي وبالتالي فهو موقف فاشل، وله أثار خطيرة ومدمرّة…
الشكل الثاني: الموقف الذي يهوّل من هيمنة الظروف والأوضاع إلى درجة الإحساس بالعجز الكامل، واليأس الكامل، ومن خلال هذا الإحساس يترشّح التصور بضرورة الصمت والسكوت ومسايرة الأوضاع والتخلّي عن أيّ محاولةٍ في اتجاه الرفض والتغيير..
بل ربمّا دفع هذا الإحساس البعض إلى المداهنة المقيتة للأنظمة الحاكمة بحجّة «التقيّة السّياسية»
الشكل الثالث: الموقف الذي يملك وعيًّا في قراءة الأوضاع والظروف، ويملك فهمًا في تشخيص المكوّنات السّياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والدينيّة، ويملك إحساسًا بمسؤوليّة الموقف، وبمسؤوليّة التصدّي من خلال هذا الوعي، وهذا الفهم، وهذا الإحساس، ومن خلال «البصيرة الدينيّة» و«الرؤية الفقهيّة» يتشكّل الموقف فيما هو الأسلوب وفيما هي الممارسة، وفيما هو التكليف فلا خنوع ولا استسلام ولا مداهنة… ولا ارتجال، ولا انفعال، ولا اندفاع غير محسوب النتائج….
قد يقال: ما المانع أن تتعدّد الرؤى والمواقف والخيارات، ما دامت القناعات متعددة؟
لا مشكلة في أن تتعدّد القناعات الدينيّة أو السّياسيّة أو الثقافيّة، ما دامت هذه القناعات غير محكومةٍ للجهل والتعصّب والأنانيات، والأغراض المشبوهة….
ولا مشكلة في أن تتعدّد الرؤى والمواقف والخيارات ما دام هذا التعدّد يثري المسيرة الدينيّة والسّياسيّة والثقافيّة، ويخدم مصالح الأمّة وأهدافها المشروعة…..
أمّا إذا تحوّل هذا التعدّد إلى تفريطٍ في المسؤوليّات، وإلى غباءٍ في الممارسات وإلى طيشٍ في المواقف، وإلى صراعاتٍ وعداواتٍ وفتنٍ وأهواءٍ وأغراضٍ مشبوهة.. وإلى تفتيتٍ وتشتيتٍ وتمزيقٍ وإضعاف….
فهو تعدّد مرفوض، ومدان، وخطير…
وهنا يتحدّد دور المخلصين الواعين في تقويم الرؤى والمواقف والخيارات بعيدًا عن ضغوطات الأهواء والمصالح، وبعيدًا عن حالات الانفعال والارتجال، واستنادًا إلى بصيرةٍ من عقلٍ ودين، وإحساسًا بضرورة الوحدة والائتلاف، ودفاعًا عن الحقوق والكرامات، وإصرارًا على المبادئ والقيم، واستعدادًا للتضحية والعطاء…..
أرجئ الحديث عن القراءة لمرحلة الإمام العسكري عليه السّلام إلى الأسبوع القادم بإذن الله تعالى..