حديث الجمعة 625: موسمَ الصِّدِّيقةِ الزَّهراء (ع) – الهُدْنةُ المُوقَّتةُ في غَزَّةَ
حديث الجمعة 625 - يوم الخميس (ليلة الجمعة) 15 جمادى الأولى 1445هـ الموافق: 30 نوفمبر 2023 م
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين مُحمَّدٍ وآلِهِ الهُداةِ الميامين.
السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
موسمَ الصِّدِّيقةِ الزَّهراء (عليها السَّلام)
في هذه الأيامِ نعيش (موسمَ الصِّدِّيقةِ الزَّهراء عليها السَّلام)
فما المطلوبُ مِن خطابِ هذا الموسم في أحزانِه وفي أفراحه؟
مطلوبٌ مِن هذا الخطابِ أنْ يتمركزَ حول عنوانين:
العنوان الأوَّل: شخصيَّة الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام)
العنوان الثَّاني: قضايا المرأةِ المُسلمة
والعنوانان متكاملان مترابطان، فالصِّدِّيقة الزَّهراء هي النَّموذج الأرقى للمرأة المسلمة.
وإذا كان هناك موسمٌ يجب أنْ يتمركز فيه الحديث عن المرأة المسلمة فهو موسم الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام).
فنجاح هذا الموسم:
– بقدرتِهِ على إبراز شيئ مِن شخصيَّة الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام).
– وبقدرتِهِ على معالجةِ قضايا المرأة المسلمة.
فلا يتكامل خطابُ هذا الموسم الفاطميُّ إلَّا بمعالجة هذين البعدين.
الحديث عن الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام) هو حديث تاريخ وحديث حاضر، ويجب أنْ يتكامل الحديثان، فالتَّأصيل التَّاريخيُّ الواعي له قِيمتُه الكبرى، والاستحضار المعاصر يُشكِّل ضرورة كبرى أيضًا.
– فلا يصحُّ أنْ ننفصل عن التَّاريخ
– ولا يصحُّ أنْ نتجمَّد في التَّاريخ
وبقدر ما يتزاوجُ الماضي والحاضر نعيشُ (التَّأصيل) و(التَّحديث)
معالجة إشكاليَّة: الزَّهراء (عليها السَّلام) نتاج مرحلة مضت، فلا تصلح كنموذج للأجيال في كلِّ الأعصر والأزمان
هنا نحاول أنْ نعالج إشكاليَّة تقول:
إنَّ الصِّدِّيقةَ الزَّهراء (عليها السَّلام) هي نتاج مرحلة تاريخيَّة مضت لها خصوصيَّاتها الزَّمانيَّة والمكانيَّة، فلا تصلح أنْ تكون نموذجًا لكلِّ الأجيال في كلِّ الأعصرِ والأزمان.
هذه الإشكاليَّة باطلة.
لماذا؟
لأنَّ المفاهيمَ والقِيمَ التي تمثلُّها الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام) هي فوق الزَّمان والمكان.
أوضِّحُ الفكرةَ مِن خلالِ تناولِ بعضٍ مِن هذه المفاهيم والقِيم والتي تتجاوز الزَّمان والمكان:
(1) عقيدةُ الإيمان باللَّهِ سبحانه
هذه العقيدة ضرورة وحاجة دائمة ومستمرة في كلِّ زمانٍ وفي كلِّ مكانٍ، وهي ليست نتاج مرحلةٍ مِن التَّاريخ لتنتهي بانتهاء تلك المرحلة.
فالأجيال في كلِّ زمانٍ، وفي كلِّ مكانٍ هي في حاجة إلى عقيدةِ الإيمانِ باللَّهِ.
مِن هنا تكون الضَّرورة لاستحضار النَّماذج الكبرى لهذا الإيمان.
ولا شكَّ أنَّ الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام) هي مِن أرقى النَّماذج الإيمانيَّة.
فأجيال المرأة المسلمة في عصرنا الحاضر لكي تشكِّل إيمانها وعقيدتها باللَّه في حاجة جدًّا أنْ تتمثَّل النَّماذج الإيمانيَّة الكبرى، والصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام) واحدة مِن هذه النَّماذج.
خاصَّة وأنَّ العصرَ الحاضر يزدحم بنماذج دخيلةٍ استطاعت أنْ تخترق أوساطنا النِّسائيَّة، وافدةً مِن الغربِ ومِن الشَّرقِ، مثقلةً بكلِّ قِيمها الفاسدة والفاسقة والضَّالة، والمدعومة مِن مواقع متنفِّذةٍ في أوطاننا الإسلاميَّة.
في ظلِّ هذا الموج مِن التَّرويج للنَّماذجِ الدَّخيلةِ تكونُ الحاجةُ كبيرة جدًّا لاستحضار النَّماذج الإيمانيَّة في دنيا المرأة، وفي قمَّة هذه النَّماذج (الصِّدِّيقة الزَّهراء) فهي المرأة الأولى في كلِّ تاريخ النِّساء منذ (حواء) أمّ البشر وحتَّى آخر امرأة في تاريخ هذه الدُّنيا.
(2) الصِّدِّيقةُ الزَّهراء (عليها السَّلام) قمَّةً رُوحِيَّةً وأخلاقيَّة
وكما تُمثِّلُ الصِّدِّيقةُ الزَّهراء (عليها السَّلام) قمَّةً مِن قِمم العقيدةِ الإيمانيَّةِ بكلِّ امتداداتها الثَّقافيَّةِ والفكريَّةِ فهي تُمثِّل (قمَّةً رُوحِيَّةً وأخلاقيَّة).
فكم هي أجيالنا في حاجةٍ إلى (رصيدٍ كبيرٍ مِن القِيم الرُّوحيَّة والأخلاقيَّة)، في عصرٍ زحفت على واقعنا بكلِّ مساحاتِه أمواجٌ مِن تيَّاراتِ الفُسقِ والفُجورِ والدَّعارةِ والمثليَّةِ والشُّذوذ، والتي يُروَّج لها بكلِّ الوسائل التي اقتحمت كلَّ واقعنا، وكلَّ أجيالنا.
هنا الحاجةُ كلُّ الحاجةِ إلى استحضار قممِ الأخلاقِ والفضيلةِ في تاريخ أُمَّتِنَا، وتُمثِّل الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام) واحدة مِن أكبر هذه القِمم، فأجيالُ المرأة المسلمةِ في عصرنا الحاضر في أمسِّ الحاجة إلى استحضار الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام)، والى استحضار زينب الحوراء، وإلى استحضار خديجة الكبرى وكلِّ المُثُل العُليا في القِيَم الرُّوحيَّة والأخلاقيَّة، القِيَم التي صنعتها عقيدة الإيمان.
فالمعترك في هذا العصرِ بين قِيم دخيلة، وقيمِ الدِّينِ الأصيلة.
هنا الضَّرورةُ كلُّ الضَّرورةِ أنْ نوظِّفَ هذا الموسمَ موسمَ الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام) توظيفًا واعيًا، وجَادًّا، وهادِفًا، وقادرًا أنْ يكون له حضورُهُ الكبير في تأصيل قِيَم الدِّين في زحمة التَّحدِّيات الصَّعبة التي تواجه كلَّ واقعِنا الإيمانيّ، وكلَّ واقعنا الرُّوحيّ والأخلاقيّ.
هنا في هذا المعترك العقيديّ والرُّوحيّ والأخلاقيّ تقف الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام)، وتقف زينب الحوراء، وتقف كلُّ القمم الإيمانيَّة مِن النِّساء المؤمناتِ الصَّالحاتِ المجاهدات في مواجهةِ مواقعِ الضَّلال والفَسَادِ والانحراف.
فكم هي مسؤوليَّة الخطابِ الدِّينيّ، وخاصَّة خطاب المنبر كبيرة جدًّا في إدارة هذا المعترك بين خطِّ الإيمان والصَّلاحِ وخطِّ الضَّلال والفساد، خاصَّة وأنَّ هذا الخطّ الأخير مدعوم بقوَّة مِن قِبلِ مواقع سياسيَّة واقتصاديَّة وإعلاميَّة.
فالخطاب الدِّينيُّ في أمسِّ الحاجة أنْ يُطوِّر مِن قُدراته وأدواته، وأنْ يوظِّف هذه المناسبات الدِّينيَّة توظيفًا جادًّا، وهادفًا، وقادرًا أنْ يكون بمستوى تحدِّيات هذا العصر.
(3) الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام) قِمَّةٌ مِن قِمم العبادة لله تعالى
إذا كانت الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام) قِمَّةً مِن قِمم العقيدة، وقِمَّة مِن قِمم الأخلاق والفضيلة فهي قِمَّةٌ مِن قِمم العبادة لله تعالى.
أخبر النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عن عبادة ابنته فاطِمَة (عليها السَّلام) فقال:
- إنَّها «…، مَتى قامَت في مِحرابِها بَينَ يَدَي رَبِّها (جَلَّ جَلالُهُ) زَهَرَ نورُها لِمَلائِكَةِ السَّماءِ كَما يَزهَرُ نورُ الكَواكِبِ لِأَهلِ الأَرضِ، ويَقولُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لِمَلائِكَتِهِ: يا مَلائِكَتِي، انظُروا إلى أمَتي فاطِمَةَ سَيِّدَةِ إمائي قائِمَةً بَينَ يَدَيَّ، تَرتَعِدُ فَرائِصُها مِن خِيفَتي، وقَد أقبَلَت بِقَلبِها عَلى عِبادَتي، …».[1] (الصَّدوق: الأمالي، الصَّفحة 175، مجلس 24، ح 177/1)
وهنا يُطرح هذا السُّؤال:
هل أنَّ الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام) العابدة هي نموذج يبقى في التَّاريخ أم هي قدوة لكلِّ الأجيال؟
إذا كان دور العبادة قد انتهى فينتهي دور الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام)، أمَا وأنَّ العبادة حاجة مستمِّرة ما بقيت الدُّنيا فدور الزَّهراء العابدة مستمِّرٌ في كلِّ الأعصر والأزمان.
فالإشكاليَّة التي تقول أنَّ الزَّهراء (عليها السَّلام) نموذج في التَّاريخ فلا تصلح أنْ تكون قدوة في عصرنا الحاضر، هذه الإشكاليَّة باطلة وساقطة، فالحاجة إلى إيمان الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام) مستمِّرة، والحاجة إلى أخلاقِ الزَّهراء (عليها السَّلام) مستمِّرة، والحاجة إلى عبادة الزَّهراء (عليها السَّلام) مستمِّرة.
فما بقيت الحياة، وما بقي الإنسان فالحاجة إلى الإيمان باقية، والحاجة الى الأخلاق باقية، والحاجة إلى العبادة باقية.
وهكذا تبقى الزَّهراء القدوة ضرورة لكلِّ الأعصر والأزمان، ولكلِّ الأجيال.
للحديث تتمة – إنْ شاء الله تعالى -.
كلمة أخيرة
الهُدْنةُ المُوقَّتةُ في غَزَّةَ هل ألغتْ خيارَ القِتال، وهلْ تنجحُ المسَاعي لإيجادِ هُدنةٍ دائمةٍ؟
الاستفزازاتُ الصُّهيونيَّةُ تهدِّدُ كلَّ المساعي، وتصريحاتُ القادةِ الصَّهاينةِ لا زالتْ مُشَبعةً بنَهَمِ البطشِ والقَتْلِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ.
وسواءً استمرَّتْ هذه الهُدنةِ أم سقطتْ، فلا زالتْ صَرْخَاتُ غَزَّةَ تَصِلُ إلى أسماعِنا، صَرْخَاتُ الشُّهداءِ، صَرْخاتُ الجرحى، صَرْخاتُ المعتقلين، صَرْخاتُ المحاصرينَ، صرْخات الأطفالِ، النِّساء، صَرْخاتُ كلِّ أبناءِ غَزَّةَ.
نعم، لا زالتْ هذه الصَّرْخاتُ تَصِلُ إلى أسماعنا، إلى أسماعِ أنظمتنا، إلى أسماعِ شُعوبِنا، إلى أسماعِ كلِّ سِياسيِّنا، وكلِّ مثقَّفينا، وكلِّ ناشطينا، إلى كلِّ مساجدنا، وكلِّ منابرنا، وكلِّ عُلمائنا، وكلِّ خُطبائنا…
فماذا أجبنا؟
ماذا أجابتْ أنظمتُنا؟
ما مواقفُها، ما كلمتُها، ما إعلامُها، ما خياراتها؟
هل تملكُ الأنظمةُ أنْ تصنعَ شيئًا؟
تملك أنْ تصنع الكثير…
هناك حاجةٌ أنْ تتوحدَ المواقفُ، هناك حاجةٌ إلى قراراتٍ جريئةٍ.
انعقدت لقاءات قمَّة، فهل خرجتْ بقراراتٍ في حجم التَّحدِّي الصُّهيونيّ، في حجم المأساة الفلسطينيَّة، في حجم الضَّحايا؟
ويبقى دورُ الشُّعوب…
قالتْ كلمتَها، عبَّرتْ عن غضبِها، ولا زالت الضَّرورة أنْ يرتفعَ صوتُ الشُّعوبِ، أنْ يرتفعَ صوتُ العُلماءِ والخُطباء، أنْ يرتفعَ صوتُ المثقَّفين والسِّياسيِّين، والحُقوقيين، والإعلاميِّن، وكلِّ القدرات…
أنْ يرتفع صوتُ الجماهير.
إنَّه امتحانٌ صعبٌ تمرُّ به أُمَّتُنا العربيَّة، وأُمَّتُنا الإسلاميَّة.
فإمَّا النَّجاحُ، وإمَّا الفشل…
تملك أُمَّتُنا قُدراتٍ، طاقاتٍ، إمكاناتٍ الَّا أنَّها مهدورةٌ، ضائعةٌ، مشتَّتةٌ!
كيف نُوحِّد هذه القدرات والطَّاقات والإمكانات؟
كيف نُحصِّنُها؟
كيف نُوظِّفُها؟
خطابُ اليأسِ هو الذّي يسيطرُ على كلِّ واقعنا.
خطابُ الفُرقةِ والخِلافِ والصِّراعِ هو الذي يملأ كلَّ مساحاتنا.
لهذا تداعتْ علينا الأُمم، تكالبتْ على كلِّ مُقَدَّراتنا، وكلِّ ثرواتِنا، وكلِّ سياستِنا، وكلِّ اقتصادِنا، وكلِّ إعلامنا…
ولستُ متجنِّيًا في حديثي، هذا ما اكّده نبيُّنا الأعظم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حينما قال:
- «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ من كلِّ أفق كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلَى قَصْعَتِهَا».
هكذا تتكالب القوى مِن غربِ الأرض وشرقها؛ لتسرق كلَّ مقدَّرات هذه الأُمَّة، ولتعبث بكلِّ وجودها…
هنا يتساءل الصَّحابة:
- يا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)! فمِنْ قِلَّةٍ بنا يَوْمَئِذٍ؟
فيجيب النَّبيُّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):
- «لا ولكنّكُمْ غُثاءٌ كَغُثاءِ السَّيْلِ، …».[2] (المُتَّقي الهندي: كنز العمال 11/58، ح 30913)
فالمسلمون في هذا العصر يُقدَّر عددهم بالمليارات، ولكن يحكمهم الشَّتات والخِلاف والتَّمزُّق، فما أحوج أُمَّتنا بكلِّ أنظمتِها، وبكلِّ شعوبِها أنْ تتوحَّدَ وتتقاربَ استجابة لِنداء الله تعالى:
- {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ…}. (سورة آل عمران: الآية 103)
عزِّتُنا بوحدتِنا، قوَّتُنا بوحدتِنا، انتصارُنا بوحدتِنا.
وآخر دَعْوَانَا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين…
[1] الصَّدوق: الأمالي، ص 175، (المجلس الرَّابع والعشرون)، ح 177/1.
[2] المُتَّقي الهندي: كنز العمال 11/58، (ك: الفتن والأهواء، ف 2: في الفتن والهرج)، ح 30913.