شهر ذي الحجة

حديث الجمعة 660: تشابه بين موسمين مِن مواسم الله تعالى، موسم الصِّيامِ وموسم الحَجِّ – فلتكن الأعياد فرصتنا لإعادة كلِّ الحسابات

مسجد الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) – القفول حديث الجمعة (660) تاريخ: يوم الخميس (ليلة الجمعة) 1 ذو الحجَّة 1446هـ الموافق: 29 مايو 2025 م

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين مُحمَّدٍ وآلِهِ الهُداةِ الميامين.

السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.

 

  • جاء في الكلمة عن الإمام الصَّادق (عليه السَّلام):

«الْحَاجُّ والْمُعْتَمِرُ وَفْدُ الله إِنْ سَأَلُوه أَعْطَاهُمْ، وإِنْ دَعَوْه أَجَابَهُمْ، وإِنْ شَفَعُوا شَفَّعَهُمْ، وإِنْ سَكَتُوا ابْتَدَأَهُمْ، ويُعَوَّضُونَ بِالدِّرْهَمِ أَلْفَ [أَلْفِ] دِرْهَمٍ».([1])

 

هناك تشابه بين موسمين مِن مواسم الله تعالى، موسم الصِّيامِ وموسم الحَجِّ:

الصَّائمون ضيوفُ الله.

وحُجَّاجُ بيت الله ضيوف الرَّحمن.

  • في الخطبة الرَّمضانيَّة قالَ النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) متحدِّثًا عن شهرِ الله:

«…، هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللهِ، …».([2])

  • وجاء في الحديث عن الحُجَّاج والمُعتمِرين أنَّهم: «…، وَفْدُ اللَّه إِنْ سَأَلُوه أَعْطَاهُمْ، وإِنْ دَعَوْه أَجَابَهُمْ، …» كما تقدَّم الحديث.

 

والفريضتان عِبادتان

والعِبادة في المفهوم الفقهيِّ ما تحتاج إلى (نِيَّة القُربة إلى الله تعالى) وبدون هذه النِّيَّة يكون العمل باطلًا.

الصَّلاة عِبادة تحتاج إلى نِيَّة القُربة.

الصِّيامُ عِبادة تحتاج إلى نِيَّة القُربة إلى الله.

الحَجُّ عِبادة تحتاج إلى نِيَّة القُربة إلى الله.

وكذلك العُمرة.

وإلى جانب العِبادات هناك في الشَّريعة أمور تسمَّى «تكاليف توصليَّة» ولا يشترط فيها نِيَّة القُربة إلى الله تعالى.

أذكر هنا أمثلة منها:

  • البِرُّ بالوالدين.
  • صلةُ الأرحام.
  • النَّفقةُ على الزَّوجة والعيال.
  • ردُّ التَّحيَّة.
  • أداءُ الأمانة
  • الأمرُ بالمعروفِ والنَّهي عن المنكر.

هذه بعض أمثلة مِن التَّكاليف التَّوصليَّة، والتي تصحُّ وإنْ فقدت نِيَّة القُربة إلى الله تعالى.

ولكن هنا نقطة مهمَّة جدًّا يجب الالتفات إليها.

صحيح هذه التَّكاليف في صحَّتها لا تحتاج إلى (نِيَّة القُربة) إلَّا أنَّ الثَّواب متوقِّفٌ على (نِيَّة القُربة إلى الله).

أنت تكون ممتثلًا للتَّكليف الشَّرعيِّ إذا برَرت والديك خوفًا، ووصلت أرحامك مجاملة، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر رياءً، ورددت التَّحيَّة لكي لا يُقال عنك متكبِّرًا، وأدَّيت الأمانة لكي تُمدح، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر لأهداف دُنيويَّة.

عملكَ في كلِّ هذه الحالات مجزي شرعًا، وتُعتَبر قد امتثلت التَّكليف.

إلَّا أنَّ هناك ملاحظة مهمَّة جدًّا وهي أنَّك لا تحظى بالثَّواب الإلهيِّ في هذه الحالات إلَّا إذا قصدت التَّقرُّب إلى الله، فهناك فرق بين الإِجْزاءِ والثَّواب.

فإذا برَرت والديك خوفًا امتثلت التَّكليف، إلَّا أنَّك لا تحظى بالثَّواب إلَّا إذا قصدت التَّقرُّب إلى الله.

وهكذا بقيَّةُ الأعمالِ التَّوصُليَّة:

فإذا وصلت رحمك استجابة لأمر الله.

وأنفقت على زوجتك طاعة لله.

ورددت التَّحيَّة طمعًا في ثواب الله.

وأدَّيتَ الأمانة خوفًا مِن الله.

وأمرت بالمعروفِ ونهيتَ عن المنكر لتحظى برضى الله تعالى.

فإنَّك في جميع هذه الحالاتِ، وغيرها مِن الأمور التَّوصُليَّة يسجَّل لك العطاء الإلهيّ، ما دامت نيَّتُك صادقة.

الصِّيامُ والحَجُّ فريضتان تُختَمان بعيد، ففريضة الصِّيام تُختم بعيد الفطر، وفريضة الحَجِّ تُختم بعيد الأضحى.

والعِيدُ يحملُ دلالاتٍ كبرى.

الدَّلالةُ الأولى: يُمثِّلُ العِيدُ وِلادةً إيمانيَّةً جديدةً

فالصَّائمون حينما يُؤدُّون زكاة فطرِهم، ويُصلُّون صلاة عِيدهم يرجعون مغفورًا لهم.

وحُجَّاجُ بيت الله حينما يَرمُون جمارهَم في يومِ عيد الأضحى، ويذبحون هَديَهم، ويحلقون رؤوسهم أو يقصِّرون يخرُجون مِن ذُنوبهم.

 

الدَّلالةُ الثَّانية: العِيدُ يُمثِّلُ فرحةَ الانتصارِ على الشَّيطان، وعلى كلِّ المعاصي والذُّنوب

هكذا انتصارُ الصَّائمين فيحتفلون في يوم فطرهم.

وهكذا انتصار الحَجيج فيفرحون في يوم الأضحى.

فالعِيدُ الحقيقيُّ هو عيد الانتصار على الشَّيطان، وعلى الهَوى.

فـ”ليس العِيدُ لِمَنْ لبسَ الجديد، إنَّما العِيدُ لِمَن أمِنَ مِنْ الوعيد”.([3])

  • «…، كُلُّ يَوْمٍ لا يُعْصَى اللهُ فِيهِ فَهُوَ يَوْمُ عِيدٍ».([4])

كما قالَ أميرُ المؤمنين (عليه السَّلام).

  • وقالَ رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم):

«قَدِمتُ المَدينَةَ ولِأهلِ المَدينَةِ يَومانِ يَلعَبونَ فيهِما في الجاهِلِيَّةِ، وإنَّ اللهَ قَد أبدَلَكُم بِهِما خَيرًا مِنهُما: يَومَ الفِطرِ، ويَومَ النَّحرِ».([5])

 

الدَّلالةُ الثَّالثة: العِيدُ يومُ الجوائز الكُبرى للصَّائمين الفائزين

  • في الحديث عن رسولِ الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):

«إِذَا كَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ نَادَى مُنَادٍ: أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، اغْدُوا إِلَى جَوَائِزِكُمْ، ثُمَّ قَالَ: يَا جَابِرُ، جَوَائِزُ اللهِ لَيْسَتْ بجَوَائِز هَؤُلَاءِ الْمُلُوكِ، ثُمَّ قَالَ: هُوَ يَوْمُ الْجَوَائِزِ».([6])

وهكذا يحظى الحَجيج بجوائزهم يوم النَّحر بعد الحلقِ والتَّقصير.

فالفرحة في العِيدين الفطرِ والأضحى هي فرحة الفوز والقبول، فالصَّائمون أتمُّوا صومَهُمْ، وحُجَّاج بيت الله في آخرِ أشواطِ حَجِّهم.

ولا فرحةَ أكبر مِن فرحة الفوزِ بعطاء الله، وبفيضه وكرمه.

 

الدَّلالةُ الرَّابعة: العِيدُ يومُ المحبَّةِ والتَّسامح

وما أجمل أنْ تتصافى القُلوب، وأنْ تتقارب الأرواح، وأنْ تتشكَّل الأُخوَّة الإيمانيَّة، في الأعياد

تتأسَّسُ هذه المَضامين.

وكم للمحبَّة في اللهِ مِن قِيمةٍ عُظمى، وكم للأُخوَّة الإيمانيَّة مِن مقامات كُبرى.

  • قالَ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم):

«إنَّ أوثَق عُرَى الإسلامِ أنْ تُحِبَّ في اللهِ وتُبْغِضَ في اللهِ».([7])

  • وعنه (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) مخاطبًا بعض أصحابه:

«يا عَبدَ اللهِ! أحبِب فِي اللهِ، وأبغِض فِي اللهِ، ووالِ فِي اللهِ، وعادِ فِي اللهِ؛ فَإِنَّهُ لا تُنالُ وِلايَةُ اللهِ إلَّا بِذلِكَ، ولا يَجِدُ الرَّجُلُ طَعمَ الإِيمانِ – وإنْ كَثُرَت صَلاتُهُ وصِيامُهُ – حَتَّى يَكونَ كَذلِكَ، وقَد صارَت مُؤاخاةُ النّاسِ يَومَكُم هذا أكثَرُها فِي الدُّنيا؛ عَلَيها يَتَوادُّونَ، وعَلَيها يَتَباغَضونَ، … ».[8]

  • وقالَ الإمامُ الصَّادق (عليه السَّلام):

«إِنَّ الْمُتَحَابِّينَ فِي الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، قَدْ أَضَاءَ نُورُ وُجُوهِهِمْ، ونُورُ أَجْسَادِهِمْ، ونُورُ مَنَابِرِهِمْ كُلَّ شَيْئٍ حَتَّى يُعْرَفُوا بِه، فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ الْمُتَحَابُّونَ فِي الله».([9])

  • إنَّ الله تعالى قالَ لموسى (عليه السَّلام):

«هَل عَمِلْتَ لي عَملًا قَطُّ؟

قالَ: إلهي صَلّيتُ لكَ، وصُمْتُ، وتَصَدّقْتُ، وذَكَرتُك كثيرًا.

قالَ اللهُ تباركَ وتعالى: أمَّا الصَّلاةُ فلَكَ بُرْهانٌ، والصَّومُ جُنّةٌ، والصَّدقَةُ ظِلٌّ، والزكاة نور، وذكرك لي قصور، فأيَّ عَملٍ عَمِلتَ لِي؟

قالَ موسى (عليه السَّلام): دُلَّني على العَملِ الَّذي هُوَ لَكَ.

قالَ [الله تعالى]: يا مُوسى، هَل والَيْتَ لِي وَلِيًّا، أوهَل عَادَيْتَ لِي عَدُوًّا قَطُّ؟

فَعلِمَ موسى: أنَّ أفْضَلَ الأعْمالِ الحُبُّ في اللهِ والبُغْضُ في اللهِ».([10])

والأحاديث في هذا المعنى متواترة جدًّا.

فقِيمة الأعياد بمقدار ما تنتج مِن هذا الحبِّ الإيمانيِّ، وبمقدار ما تؤسِّسُ لهذه الأُخوَّة الرُّوحيَّة، فما أحوجَنا في هذه الأعياد إلى محاسبة علاقاتنا لنؤسِّسَ لكيانٍ هو الأقوى والأوثق في عصرٍ هيمنت فيه أغراضُ الدُّنيا، ومصالحها، وغابت دوافع الآخرة.

فلتكن الأعياد فرصتنا لإعادة كلِّ الحسابات.

نعيد حساباتِنا كأفراد، وكمؤسَّسات وكيانات، وكأنظمة حاكمة.

وهكذا تتطلَّع الشُّعوبُ في هذه المناسبات إلى مبادرات كبيرة وطيِّبة، تملأ النُّفوس اطمئنانًا، وأملًا، وهدوءًا، وسعادةً، واستقرارًا.

هكذا تتقارب الإرادات، وتتشكَّل الخيارات الصَّالحة في هذا الزَّمان المزدحم بالأزمات، وبالمكدِّراتِ والمنغِّصاتِ.

الأعياد فرصة كبرى لإنتاج المحبَّة.

ولتنشيطِ العطاءِ الرُّوحيِّ، والأخلاقيِّ، والثَّقافيِّ، والاجتماعيِّ، والسِّياسيِّ.

وبقدر ما يكون هذا العطاء جادًّا، وصادقًا وكبيرًا؛ تكون الأعياد طيِّبةً وبهيجةً وفاعلةً.

ولا فرصة أثمن مِن فرصة الأعيادِ لمراجعةِ كلِّ الحسابات، متى ما كانت هذه المراجعة جادَّةً وواعية وصادقة.

هكذا تمرُّ الأعياد طيِّبة ومباركة وبهيجة.

هكذا تمرُّ الأعياد لتمسح كلَّ الآلام والآهات.

هكذا تمرُّ الأعياد لتصحِّح كلَّ الأوضاع.

هكذا تمرُّ الأعياد لتزرع الخير والحبَّ والصَّفاء.

هكذا تمرُّ الأعياد لتعيد كلَّ الحسابات.

ويوم تُحقِّق الأعياد هذه المعطيات فهي أعيادٌ حقَّة، وهي أعيادٌ زاهرة، وهي أعيادٌ كريمة، وهي أعيادٌ جميلة.

فنحن نصنع أعيادنا.

 

وتبقى فلسطين

وآلام فلسطين ودماءُ فلسطين وكلُّ مآسي فلسطين الجرحُ النَّازف الذي يكدِّر أعيادنا، إلَّا أنْ يتحوَّل هذا الجرحُ صرخةً توقظ الضَّمائر، وصرخةً تنهض بالعزائم والإرادات، وغضبةً ترفضُ كلَّ المهادنات والمساومات.

وآخرُ دَعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العَالمين.

 

[1] الكليني: الكافي 4/262، (ك: الحجّ، ب: فضل الحجّ والعمرة وثوابهما)، ح 14.

[2] الصَّدوق: الأمالي، ص 154، (المجلس العشرون)، ح 149/4.

[3] البهائي العاملي: الكشكول 1/278.

[4] ابن ميثم البحراني: شرح نهج البلاغة 5/1024، (ب: المختار من حكم أمير المؤمنين)، ح 403.

[5] المتَّقي الهندي: كنز العمَّال 8/251، (ك: الصَّوم، ف 8: في صلاة عيد الفطر وصدقته)، ح 24097.

[6] الكليني: الكافي 4/168، (ك: الصِّيام، ب: يوم الفطر)، ح 3.

[7] المتَّقي الهندي: كنز العمَّال 9/4، (ك: الصُّحبة، ب 1: في التَّرغيب فيها)، ح 24651.

[8] الصَّدوق: معاني الأخبار، ص 399، (نوادر المعاني)، ح 58.

[9] الكليني: الكافي 2/125، (ك: الإيمان والكفر، ب: الحبُّ في الله)، ح 4.

[10] الطَّبرسي: مشكاة الأنوار، ص 124، (ب 3: في محاسن الأفعال وشرف الخصال …، ف 5: في المحبَّ والشَّوق).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى