آخر الأخبارشهر ذي القعدة

حديث الجمعة 659: سَفرُ الحَجِّ يُذكِّرُ بسفرِ الآخرة – الحجُّ يُعطِي هذه الأُمَّةِ عنوانَها الأعظم، وحضورَها الأكبر

مسجد الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) – القفول | حديث الجمعة (659) تاريخ: يوم الخميس (ليلة الجمعة) 24 ذو القعدة 1446هـ - الموافق: 22 مايو 2025 م

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين مُحمَّدٍ وآلِهِ الهُداةِ الميامين.

السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.

 

  • قالَ اللهُ تعالى مُخاطبًا نبيِّه إبراهيم (عليه السَّلام):

﴿وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ﴾.([1])

سَفرُ الحَجِّ يُذكِّرُ بسفرِ الآخرة

  • في سَفَرِ الآخرة يخرج العِبادُ مِن قبورهم مرتدين أكفانَهم، مُلَبِّينَ نداءَ ربِّهم.

وفي سَفَرِ الحَجِّ يضجُّ الحَجيج صارخين «لَبَّيكَ اللَّهُمَّ لَبَّيكَ» مرتدين لباسًا يذكِّرهم بالأكفانِ.

  • في سَفَرِ الآخرة تنقطعُ علاقة العِباد بالدُّنيا.

وحُجَّاج بيت اللهِ تموت في داخلهم نوازعُ الدُّنيا.

  • في سَفَرِ الآخرة يصرخ العبدُ نفسي، نفسي: ﴿لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُمۡ يَوۡمَئِذٖ شَأۡنٞ يُغۡنِيهِ﴾.([2])

واللَّائِذون ببيت الله، والواقفون بعرفات يصرخون (الغوث الغوت) طالبين الخلاص مِن النَّار.

 

فسَفَرُ الحَجّ يُذكِّر بسفر الآخرة.

فكما هو سفرُ الآخرة يحتاج إلى درجةٍ عاليةٍ مِن الإخلاصِ، ودرجةٍ عاليةٍ مِن طهارة القلب، ودرجةٍ عاليةٍ مِن التَّوبة.

فكذلك سَفَرُ الحَجِّ يحتاج إلى هذه المستويات مِن الإخلاصِ، والطَّهارة، والتَّوبة…

لكي تتناثر ذنوبُهُ مع أوَّلِ خطوةٍ مِن خطوات هذه الرِّحلة الرَّبَّانيَّة المباركة.

  • قالَ رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم):

«أيُّ رَجُل خَرَجَ مِن مَنزِلِهِ حاجًّا أو مُعتَمِرًا، فَكُلَّما رَفَعَ قَدَمًا ووَضَعَ قَدَمًا تَناثَرَتِ الذُّنوبُ مِن بَدَنِهِ كَما يَتَناثَرُ الوَرَقُ مِنَ الشَّجَرِ، …».([3])

«فَإِذا وَرَدَ المَدينَةَ وصافَحَني بِالسَّلامِ صافَحَتهُ المَلائِكَةُ بِالسَّلامِ، …».([4])

هكذا يصف الحبيب المصطفى (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) انطلاقة الحَجيج مُيمِّمين شطر البيت الحرام.

  • «فَإِذا وَرَدَ ذَا الحُلَيفَةِ واغتَسَلَ طَهَّرَهُ اللهُ مِنَ الذُّنوبِ، …».([5])

أوَّلُ محطَّة مِن محطَّات هذه الرِّحلة المباركة هو (ميقات الإحرام)

وفي الميقات:

يمارس الحَجيج مجموعة أعمال:

(1) يخلعون الملابس العادِيَّة.

(2) يغتسلون غُسلَ الإحرام.

(3) يلبسون ثياب الإحرام

(وملابس الإحرام تذكِّر بالأكفان).

(4) التَّلبية (الاستسلام المطلق لله).

وهذه الأعمال تحمل دلالات روحيَّة كبرى.

وفي حديث الإمام زين العابدين (عليه السَّلام) مع الشِّبليِّ دلالات كبرى تؤسِّس لعلاقة روحيَّة في مناسك الحجِّ، بغضِّ النَّظر عن سند هذا الحديث.

حجَّ الشِّبليُّ ورجع، فالتقاه الإمام زين العابدين (عليه السَّلام)، وهنا دار هذا الحوار:

  • «حَجَجتَ يا شِبلِيُّ؟
  • قالَ: نَعَم، يَا ابنَ رَسولِ اللهِ.
  • فقالَ (عليه السَّلام): أنَزَلتَ الميقاتَ، وتَجَرَّدتَ عن مَخيطِ الثِّيابِ، واغتَسَلتَ؟
  • قالَ: نَعَم.
  • قالَ: فَحينَ نَزَلتَ الميقاتَ نَوَيتَ أنَّكَ خَلَعتَ ثَوبَ المَعصِيَةِ ولَبِستَ ثَوبَ الطَّاعَةِ؟
  • قالَ: لا.
  • قالَ: فَحينَ تَجَرَّدتَ عَن مَخيطِ ثِيابِكَ نَوَيتَ أنَّكَ تَجَرَّدتَ مِنَ الرِّياءِ والنِّفاقِ والدُّخولِ فِي الشُّبُهاتِ؟
  • قالَ: لا.
  • قالَ: فَحينَ اغتَسَلتَ نَوَيتَ أنَّكَ اغتَسَلتَ مِنَ الخَطايا والذُّنوبِ؟
  • قالَ: لا.
  • قالَ: فما نَزَلتَ الميقاتَ، ولا تَجَرَّدتَ عن مَخيطِ الثِّيابِ، ولاَ اغتَسَلتَ،
  • ثُمَّ قالَ: تَنَظَّفتَ، وأحرَمتَ، وعَقَدتَ بالحَجِّ؟
  • نَعَم.
  • فَحينَ تَنَظَّفتَ وأحرَمتَ وعَقَدتَ الحَجَّ، نَوَيتَ أنَّكَ تَنَظَّفتَ بِنورَةِ التَّوبَةِ الخالِصَةِ للهِ تَعالى؟
  • قالَ: لا.
  • قالَ: فَحينَ أحرَمتَ نَوَيتَ أنَّكَ حَرَّمتَ عَلى نَفسِكَ كُلَّ مُحَرَّم حَرَّمَهُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ؟
  • قالَ: لا.
  • قالَ: فَحينَ عَقَدتَ الحَجَّ نَوَيتَ أنَّكَ قَد حَلَلتَ كُلَّ عَقْدٍ لِغَيرِ اللهِ؟
  • قالَ: لا.
  • قالَ لَهُ (عليه السَّلام): ما تَنَظَّفتَ، ولا أحرَمتَ، ولا عَقَدتَ الحَجَّ!

، …، …، …».[6]

 

وهكذا استمرَّ الإمام زين العابدين (عليه السَّلام) مع الشِّبليِّ يضعه أمام المُعطياتِ الرُّوحيَّة الكبرى لمناسك الحَجِّ، والتي تعطى هذه الفريضة دلالاتٍ تتجاوز الشَّكل، وتمتدُّ إلى أوسع المضامين.

إذا تجمَّدت فريضة الحَجّ، وكذلك بقيَّة الفرائض، كفريضة الصَّلاةِ، وفريضة الصِّيام، وبقيَّة الممارسات العِباديَّة كالذِّكر، والدُّعاء، وتِلاوة القُرآن – إذا تجمَّدت عند الشَّكل وغاب المضمون أصبحت مفرَّغة مِن دلالاتها الكبرى، وأصبحت جافَّة وفاترة.

ولنا مع فريضة الحَجّ بعضَ وقفاتٍ، فهذا هو موسمُ هذه الفريضةِ الكبرى بكلِّ خصوصيَّاتها المتميِّزة، وبكلِّ دلالاتها العظمى.

أتناول في حديثٍ قادمٍ – إن شاء الله تعالى – بعضَ محطَّات هذه الفريضة، وبعض معطيات هذه العِبادة… وهي زادٌ كبير لحُجَّاج بيت الله، بل لكلِّ المسلمين في أقطار الأرض لو ملكوا وعيها، وعاشوا قِيمها، وتمثَّلُوا أهدافها، ولم تبق مناسك الحَجِّ مجرَّد طقوسٍ مُفرَّغةٍ، ومجرَّد ممارساتٍ فاترة، بل طاقةُ فعلٍ وتغيير وبناءٍ.

 

كلمة أخيرة

الحجُّ يُعطِي هذه الأُمَّةِ عنوانَها الأعظم، وحضورَها الأكبر.

  • قالَ اللهُ تعالى (البقرة 143):

﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ …﴾.([7])

أراد اللهُ لهذه الأُمَّةِ أنْ تكونَ الأُمَّةَ القائدة، والشَّاهدة على كلِّ الأُمم.

فهل هي كما أراد الله لها؟

وأين هو موقعها أمام تحدِّيات هذا العصر؟

لقد فقدتْ هذه الأُمَّةُ موقعَها القِياديّ.

أصبحت تعيش التَّبعيَّة.

وقعت فريسةَ الطَّامعين.

تمزَّقت، وتشتَّت، وضعفت.

في الكلمة عن الرَّسولِ الأعظم (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّ) وهو يستشرف مستقبل هذه الأُمَّة:

  • «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِن كلِّ أفقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِهَا!»

قِيل: يا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فمِن قِلَّةٍ بنا يَوْمَئِذٍ؟

قالَ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): «لا، ولَكنَّكُمْ غُثاءٌ كَغُثاءِ السَّيْلِ، يُجْعَلُ الْوَهَنُ فِي قلوبِكم، ويُنْزَعُ الرُّعْبُ مِن قُلُوبِ عَدُوِّكم؛ لِحُبِّكُمُ الدُّنيا، وكَرَاهَتِكم الموتَ».([8])

 

أُمَّةٌ عددُها بالمليارات

تعبث بها قُوى العَالَم!

وتتحدَّاها شرذمةٌ مِن الصَّهاينة احتلَّت أرضها، ودنَّست قُدسَها، وقتلتْ، ودمَّرتْ، وهتكتْ… بمرأى مِن كلِّ العالم، بل بدعمٍ وإسنادٍ مِن قُوى الشَّرِّ في الأرض!

أما يستصرخُ عزمةَ المسلمين دماءُ الطُّفولة البريئة في فلسطين؟!

وصرخات النِّساء والعذارى؟

ودموع الثَّكالى والأيامى؟

وكلُّ المآسي والويلات؟

وكلُّ الجنايات؟

متى تستيقظُ الضَّمائر؟

متى تنشط العزائم؟

متى تتحرَّك الهمم؟

والصَّهاينة يصنعونَ ما يصنعونَ بلا رادعٍ ولا وازع؟!

ها هم ملايين المسلمين مِن حُجَّاجِ بيتِ الله يصرخون «لَبَّيكَ اللَّهُمَّ لَبَّيكَ»، كم هي صادقة هذه التَّلبيات؟

ألا تصل إلى أسماع الصَّهاينة، وإلى أسماع كلِّ مَنْ يريد بالإسلام كيدًا وبالمسلمين سُوءًا؟

نعم، التَّلبيات حينما تكونُ واعيةً صادقة تصنع كلَّ التَّغيير، وكلَّ الإبداع في واقع المسلمين، وفي كلِّ مساراتهم الرُّوحيَّة، والإيمانيَّة، والأخلاقيَّة، والسُّلوكيَّة، والجِهاديَّة…

والتَّلبية حينما يكون لها انتاجها الكبير في واقع المسلمين – لا نتحدَّث عن حُجَّاج بيت الله فقط – وإنَّما هي صرخة توقظ كلَّ ضمائر المسلمين في كلِّ بقاع الأرض، تصنع مِن هذه الأُمَّة وجودًا شامخًا يتحدَّى كلَّ قوى الأرض التي تريد شرًّا بهذا الوجود، مهما تآزرت قُوى الشَّرِّ للنَّيلِ مِنه، ومهما تعملق أعداء هذه الأُمَّة.

إلَّا أنَّ واقع المسلمين بكلِّ صراعاته وخلافاته أنتج وجودًا ممزَّقًا، جعل هذه الأُمَّةَ هدفًا سَهْلًا لكلِّ قُوى الشَّرِّ في الأرض، وحضورًا مشتَّتًا، وعنوانًا غائبًا.

وتبقى صيحاتُ الحَجيج «لَبَّيكَ اللَّهُمَّ لَبَّيكَ» صرخاتِ استنهاضٍ لعزائم المسلمين، ونداءاتٍ توقظ الهِمَم، وتوحِّد الإرادات متى كانت هذه التَّلبيات صادقةً كلَّ الصِّدقِ، وواعيةً كلَّ الوعي، وواثقةً كلَّ الثِّقة.

ومتى كانت هذه التَّلبياتُ تمثِّل عنوانَ الانتماء إلى خطِّ الإيمان، بكلِّ ما يمثِّله هذا الخطُّ مِن عِزَّةٍ وكرامة، وقوَّةٍ وإرادة، وتمثِّل عنوانَ التَّحدِّي لكلِّ قُوى الشَّيطان في الأرضِ مهما تعملقت، ومهما استكبرت، ومهما بطشت.

فأُمَّةٌ ملبِّيةٌ متى كانت صادقة، وواثقة، وواعية لا تسقط، ولا تضعف، ولا تنهزم، ولكنَّ المسألة كلّ المسألة كيف يتأسَّس هذا الصِّدقُ، وهذا الوثوق، وهذا الوعي؟

لا تؤسِّسَه مجرَّد الكلمات، ومجرَّد الخطابات، ومجرَّد الشِّعارات.

وإنَّما تؤسِّسُه الرُّؤيةُ الواعية.

وإنَّما تؤسِّسُه الإرادةُ الصَّادقة.

وإنَّما تؤسِّسُه الطَّاعة والممارسة.

فهل يستحضر المسلمون في هذا الموسم العِباديِّ الكبير، ومِن خِلالِ مناسكِهِ الكبيرةِ كلَّ المُعطياتِ الفاعلةِ، والتي لو تجذَّرت في وعي هذه الأُمَّة؛ لصنعت مِنها أُمَّةً هي الأقوى بين الأُمم، وهي الأعظم، وهي خير أُمَّةٍ أُخرجت للنَّاسِ.

وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

 

[1] سورة الحَجّ: الآية 27.

[2] سورة عَبَس: الآية 37.

[3] السَّمرقندي: تنبيه الغافلين، ص 229، (باب في فضل الحجّ).

[4] المصدر السَّابق.

[5] المصدر السَّابق.

[6] الطَّبرسي: مستدرك الوسائل 10/166، (ك: الحجّ، أبواب العودة إلى منى)، ح [11770] 5.

[7] سورة البَقَرَةِ: الآية 143.

[8] المُتَّقي الهندي: كنز العمال 11/58، (ك: الفتن والأهواء، ف 2: في الفتن والهرج)، ح 30913.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى