حديث الجمعةشهر ربيع الثاني

حديث الجمعة 418: وهكذا تشكَّل بناء التكفير في التاريخ

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد للهِ ربِّ العالمين وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وعلى آلِهِ الهداةِ الميامين وبعد فهذه بعض العناوين:


وهكذا تشكَّل بناء التكفير في التاريخ:


حدثتْ (لعبةُ التحكيم) حيث التقى ابنُ العاصِ والأشعري ليتَّخذا قرارًا في أخطرِ شأنٍ يَمسُّ حياة المسلمين وهو (شأنُ الحكم والقيادة السِّياسية)، وكم هي مهزلة كبرى وخيانة عظمى أنْ يتصدَّى لمعالجةِ هذا الشأنِ واتخاذِ القرار فيه طرفان أحدهما يحملُ كلَّ الخداعَ السِّياسي وكلَّ التدنِّي القِيمي، والآخر يحمل كلَّ الغباء السِّياسي والدِّيني والهوس المصلحي غير المحصَّن بضوابط الشرع، النتيجة قرارٌ في غاية السُّوءِ، وهذا ما حدث، وأوجد تداعيات خطيرة جدًّا بقيت آثارها حتى اليوم.


فالمكر السِّياسي بكلِّ ما يحمل من لُعبٍ مُلتويةٍ، وأهدافٍ سيئةٍ، وغاياتٍ فاسدةٍ، أمرٌ مُدمِّر للأوطان والشعوب، وكذلك الغباء السِّياسي بما يحمل من سذاجةٍ، وبَلَهٍ، وارتباكٍ هو الآخر أمرٌ مدمِّرٌ للأوطانِ والشعوب.
لا يُنقِذُ الأوطانَ من مآزِقهَا، وأزماتِها، وأوضاعِها السَّيئةِ إلَّا سياساتٌ نظيفةٌ، وصادقةٌ، وبصيرةٌ…


فمتى فقدت السِّياسةُ النظافةَ تحوَّلت أطماعًا، ومصالحَ، ورغباتٍ، ونزواتٍ، وشهواتٍ، وفسادًا، وعبثًا، وظلمًا وجورًا…
ومتى فقدتْ السِّياسةُ الصِّدقَ تحوَّلتْ خُدَعًا، وحُيَلًا، ومَكْرًا، وكذبًا، ونفاقًا، ودَجَلًا، وغدرًا، وفجورًا…
ومتى فقدتْ السِّياسةُ الوعيَ والبصيرةَ تاهتْ، وضلَّتْ، وزاغتْ، وانحرفتْ، وارتبكتْ مساراتها، وتعثَّرتْ أهدافها، وسقطت في المنحدراتِ والمطباتِ والمنزلقاتِ المدمِّرةِ…


أعودُ إلى (لعبةِ التحكيم) التي أحدثتْ شَرْخًا خطيرًا في جسدِ الأمةِ، وفرَّخَتْ (تيارًا) حمل (منهج التكفير) مُسيَّجًا بشعار (لا حكم إلَّا لله) وهو شعارٌ قال عنه أميرُ المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السَّلام) أنَّه (كلمة حقٍّ يراد بها باطل)، فهذا الشعار يحمل مضمونًا إيمانيًا لا غبار عليه إلَّا أنَّ توظيفه كان لأغراضٍ باطلةٍ، ولأهدافٍ سيئةٍ.


وما أكثر ما توظَّف (الشعاراتُ الحقَّة) لغاياتٍ مشبوهة وضالَّةٍ، فها هي جماعات التكفير والإرهاب في هذا العصر تُوظِّفُ (شعاراتِ الدِّين) توظيفًا كاذبًا ومزوّرًا، وخادعًا، ومُضلّلًا، فتحوَّل عنوانُ (الجهادِ) لدى هؤلاء إلى ذبحٍ، وقتلٍ، وقطعٍ للرقاب، وحرق للأجساد، وأكلٍّ للأكباد، ودمارٍ، وفساد، وعبثٍ، وتطرفٍ، وعنفٍ، وإرهاب…


ولم يستثنِ جهادُهم الموبوء طفلًا، ولا شيخا، ولا امرأة، ولا مريضًا، ولا ضعيفًا، ولا عاجزًا، ولا مشلولًا… هكذا توغَّلوا في الدِّماء، وراحوا يذبحون البشر كما تذبح الأغنام، ويضعون الناس أحياءَ في أقفاص ويشعلون فيهم النيران، ودمَّروا المساجد والكنائس ودور العبادة، ونشروا الرُعبَ في كلِّ مكان، كلّ ذلك تحت شعار (الجهاد) الذي شرَّعه الله لحمايةِ الدِّماء والأعراض والأموال، ومن أجلِ حماية الحياة من كلِّ أشكالِ العبث والظلم والفساد، ولكي تُغرس أشجارُ الخير والمحبَّة، والتسامح، والقيم النظيفة، وينتشرُ الأمنُ والأمانُ في كلِّ الأوطان…


نعم كما قال أمير المؤمنين (كلمة حقٍّ أرادوا بها باطلًا) فـ (لا حكم إلَّا لله) شعار انطلقوا من خلاله ليكفِّروا (عليًا) الذي قال فيه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):
• «عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع عليٍّ».
• «عليٌّ مع القرآنِ والقرآنُ مع عليٍّ».
• «عليٌّ مني وأنا من عليٍّ».
• «عليٌّ أخي..».
• «عليٌّ مني بمنزلة هارون من موسى».
• «عليٌّ باب علمي».
• «مَنْ أحبَّ عليًا فقد أحبني، ومَنْ أبغض عليًا فقد أبغضني».
• «مَنْ آذى عليًا فقد آذاني».
• «مَنْ أطاع عليًّا فقد أطاعني».
• «مَنْ فارق عليًّا فقد فارقني».
• «مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه».


والكلمات في هذا السِّياقِ كثيرة ومتواترة، إلَّا أنَّها لم تشفع لعليٍّ عند هؤلاء الذين فقدوا (البصيرة) فضلوا الطريق وأعلنوا (تكفيرهم) لأمير المؤمنين…
وهكذا مرقوا من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية…


• قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) مخبرًا عن هؤلاء:
«إنَّ قومًا يتعمقون في الدِّين، يمرقون منه كما يمرق السَّهم من الرمية».


• وقال (صلََّى الله عليه وآله وسلَّم):
«سيخرج قومٌ يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدِّين كما يمرق السَّهم من الرمية».


• وقال أمير المؤمنين (عليه السَّلام):
«إنَّ نبي الله قال لي: سيخرج قوم يتكلمون بكلام الحق، لا يجاوز حلقوهم، يخرجون من الحقِّ خروج السهم – أو مروق السّهم -».


كان هؤلاء يقال لهم (أصحاب الجباه السود) لكثرة سجودهم، وكانوا من عباد الليل، وقراء القرآن إلَّا أنَّ عملهم هذا على غير هدى وبصيرة، «العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السَّير إلَّا بعدًا»، أيُّ بصيرة لدى مَنْ يتقرب إلى الله بحرب عليٍّ وبقتله…


أذكر هنا مثلين من مفارقات تديُّن هؤلاء:


المثال الأول: مرّوا وهم في طريقهم إلى النهروان ليعلنوا تمردهم على أمير المؤمنين… مروا بحائط – يعني بستان – وقد تدلَّت أشجاره في الطريق، فامتدت يد أحدهم فاقتطفت ثمرة ووضعها في فيه، فصرخوا فيه (لقد ارتكبت جرمًا كبيرًا أما تخاف الله) ولكنَّهم لم يخافوا الله وهم يعلنون (تكفيرهم وحربهم لعليّ بن أبي طالب).


كذاك الذي جاء إلى ابن عباس يسأله عن دم البعوضة، فأجابه ابن عباس (تقتلون الحسين وتسألون عن دم البعوضة).


المثال الثاني: مرّوا في طريقهم على خنزير فرفع أحدهم سيفه وقتل الخنزير فضجوا عليه لقد أفسدتَ في الأرض…
ولقيهم عبد الله بن الخباب – من كبار التابعين وأحد أصحاب أمير المؤمنين- في عنقه مصحف، على حمار ومعه امرأتُه وهي حاملٌ، فقالوا: إنَّ هذا الذي في عنقك ليأمرنا بقتلك…


فقال لهم: ما أحياه القرآن فأحيوه، وما أماتَهُ فأميتوه.
قالوا له: حدِّثنا عن أبيك [الخباب بن الأرت صحابي]
فقال: إنِّي سمعت أبي يقول: سمعت رسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول:
«ستكون بعدي فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا» فكن عبد الله المقتول ولا تكن القاتل.


قالوا: فما تقول في عليٍّ بعد التحكيم والحكومة؟
قال: إنَّ عليًا أعلم بالله، وأشدُّ توقيًا على دينه، وأنفذ بصيرةً…
فقالوا: إنَّك لستَ تتبع الهدى، إنَّما تتبع الرجال على أسمائهم…
ثمَّ قربّوه إلى شاطِئ النهر، فأضجعوهُ فذبحوه، ولم يكتفوا بذلك بل بقروا بطن امرأته وألقوا ما فيها من دون مبرر…
هذا نموذج لتدينٍ ممسوخ…
وهو نموذج يتكرَّر في كلِّ زمان..
وقد أخبر النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عن ظهور هذه النماذج الممسوخة التدين في آخر الزمان.


• قال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):
«سيخرج في آخر الزمان قومٌ أحداثُ الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يقرأون القرآنَ لا يتجاوز حناجرهم، يمرقون من الدِّين كما يمرق السَّهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإنَّ في قتلهم أجرًا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة».


• وقال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):
«يخرج في آخر الزمان قومٌ أحداثُ الأسنانِ، سفهاءُ الأحلام، قولهم من خيرِ أقوال أهل البرية، صلاتُهم أكثرُ من صلاتكم، وقراءتُهم أكثرُ مِن قراءتِكم، لا يجاوز إيمانُهم تراقيهم – أو قال حناجرهم- يمرقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية فاقتلوهم».


• وفي رواية ثالثة قال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):
«يخرج في هذه الأمة قوم تحقرِّون صلاتكم مع صلاتِهم، يقرأون القرآن ولا يجاوز حلوقَهم، يمرقون من الدِّين مروق السهم من الرمية».


تحدثت الرواية الأولى والثانية عن قتل هؤلاء التكفيرين المتشدِّدين (فاقتلوهم)، وهنا سؤال يُطرح:
هل أنَّ (القتل) أو (الخيار العسكري) في مواجهة التطرُّف والإرهاب وفي مواجهة المتطرفين والإرهابيين هو (الخيار) الذي لا خيار معه؟
إذا رجعنا إلى موقف الإمام عليٍّ من أولئك المتطرفين التكفيريين لا نجده بدأ بخيار الحرب والمواجهة العسكرية وإنَّما بدأ بالحوار والمناصحة، ثمَّ أنّه ترك لهم الحرية في أنْ يُعبِّروا عن آرائهم وقناعاتهم وإنْ كانتْ متطرِّفة ومتشدِّدة وما كان يجد مبرِّرًا لقتالهم ما داموا لم يمارسوا إفسادًا أو اعتداءً أو قتلًا…


خطب أمير المؤمنين (عليه السَّلام) يومًا، فقال رجلٌ من هؤلاء المتطرفين معلقًا على كلام الإمام، وبمسمع من عليٍّ ومن كلِّ الناس الحاضرين: (قاتله الله كافرًا ما أفقهه) يعني أمير المؤمنين… فوثب القوم ليقتلوه..
فقال لهم أمير المؤمنين: «رويدًا إنَّما هو سبٌّ بسبٍّ أو عفوٌ عن ذنب».
تصوروا أنَّ شخصًا يتجرَّأ علنًا في محضر عام على رأس الدولة حاكم المسلمين، فيصفه بالكفر، ويدعو عليه بالانتقام من الله…
كان موقف الحشد الحاضر الانفعال والغضب والتصميم على قتل هذ الرجل..


أمَّا عليٌّ أمير المؤمنين، وحاكم الدولة الإسلامية، ورأس السُّلطة فقد تعامل مع الموقف بكلِّ هدوء وبلا انفعال أو غضب… وأوقف فورة الحشد الغاضب، وعبَّر عن رأيه بقوله «إنَّما هو سبٌّ بسبّ أو عفوٌ عن ذنب» فمن حق الإمام أنْ يردَّ عليه بسبٍّ إن أراد أن يقتص وإلَّا فخيار العفو مفتوح…


فتِّشوا عن كلِّ أنظمة الدُّنيا في هذا العصر الذي يتغنَّى بأرقى الديمقراطيات وأرقى الدَّساتير أن يوجد في دولةٍ من دول العالم أنْ يقف شخص معترضًا خطاب الحاكم وبلغةٍ قاسيةٍ، فلا يقابله الحاكم إلَّا بابتسامة هادئة، مطمئنًا له أنَّ مصيره لن يكون عقابًا مشدَّدًا، إنما هو كلمة بكلمةٍ أو عفو وتكرُّم..


فالتعبير عن الرأي مكفولٌ في دولة الإمام عليٍّ (عليه السَّلام) حتى لو كان هذا الرأي يطال رأس الحكم، وهذا لا يعني التساهل في الحفاظ على هيبة الحكم وهيبة الحاكم، فمطلوب أنْ تكون الكلمة تعبيرًا بحتًا عن الرأي، وأنْ تكون ملتزمة بضوابط التعبير عن الرأي، فليس مقبولًا في نهج أمير المؤمنين اعتماد لغة القذف والسَّب والبذاء، لأنَّ هذه اللغة لا يمكن أنْ تُصحِّح أوضاعًا خاطئة، وإنَّما تشكِّل استفزازًا يعقِّد الأمور ويُؤزِّم العلاقات، ويكرِّس العداء…


حينما كانت الحرب قائمة بين الإمام عليٍّ ومعاوية في صفين، سمع الإمام عليّ قومًا من أصحابه يَسُبُّون معاوية وأهل الشام فتصدَّى لهم قائلًا: «إنِّي أكره لكم أن تكونوا سبَّابين، ولكن لو وصفتم أعمالهم، وذكرتهم حالَهُمْ كان أصوبَ في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبِّكم إيَّاهم: اللَّهُمَّ احقن دماءنا ودماءَهم، واصلح بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتَّى يعرف الحقَّ مَنْ جهلَهُ، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به».
فالمسألة ليست أنْ تستفزَّنا الأوضاع مهما كانت سيئة وخاطئة، وإنَّما كيف نتعاطى مع هذه الأوضاع برشد، وبأساليب حكيمة، وبلغةٍ مسؤولة، وبمواقف محسوبة.


هناك أربع حالات – أو أربعة مواقف – في التعاطي مع الأوضاع الخاطئة والفاسدة سواءً أكانت أوضاعًا دينية أو اجتماعية أو سياسية:
الموقف الأول: المساندة والمباركة والتأييد عن قناعة أو خوف أو مداهنة.
الموقف الثاني: الصمت والسكوت انطلاقًا من بعض المبررات.
الموقف الثالث: أنْ يكون هناك موقف إلَّا أنَّه غير مدروس وغير محسوب.
الموقف الرابع: أن يكون هناك موقف مدروس ومحسوب ويملك رشدًا وبصيرة.


هذا المواقف الأربعة في حاجة إلى توضيح وشرح نعرض له في حديث قادم إن شاء الله تعالى


وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى