حديث الجمعةشهر شوال

حديث الجمعة 546: لماذا هذا الإصرارُ على معالجة (المسائل الرُّوحيَّة) في زحمةِ قضايا أهمِّ وأخطر؟

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الهُداةِ الميامين.
ضرورة معالجة المسائل الرُّوحيَّة
وبعد:

فقد قال اللهُ تعالى في: (سورة الحديد: الآية 16): ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾.

هذا المقطع القرآنيُّ يُعالج قضيَّةً من أخطر القضايا في حياةِ الإنسان المؤمن، وهي قضية (الجفاف الرُّوحيُّ).

هُنا تُطرح إشكاليَّة تقول: لماذا هذا الإصرارُ على معالجة (المسائل الرُّوحيَّة) في زحمةِ قضايا أهمِّ وأخطر، وهي قضايا الثَّقافةِ، وقضايا الاجتماع، وقضايا الاقتصاد، وقضايا السِّياسة.

هذه القضايا هي التي تشغل هَمَّ النَّاس في هذا الزَّمان، أمَّا (القضايا الرُّوحيَّة)، فهي آخر (الأولويَّات، والاهتمامات).

فمطلوبٌ من الخطابِ الدِّينيِّ أنْ يُعالج القضايا الثَّقافيَّةَ، والاجتماعيَّةَ، والاقتصاديَّةَ، والسِّياسيَّة، فما دامت هي الأهم، والأخطر، والأَوْلى!

فقيمة الخطاب الدِّينيِّ حينما يعالج همومَ النَّاس المُلحَّة، والتي فرضت نفسَها على واقعِهم وحياتِهم، وإلَّا فسوف يبقى هذا الخطابُ فاقدًا لحضورِهِ، وفاقدًا لقيمتِهِ، ولن يتفاعل معه النَّاس.
إذا كانَ النَّاسُ يعيشون همومًا اقتصاديَّةً، ومعيشيَّةً ضاغطةً.

وإذا كان النَّاسُ يعيشون همومًا سياسيَّةً فرضت نفسَها.
وإذا كان النَّاسُ يعيشون أوضاعًا اجتماعيَّة متأزِّمة.
وإذا كان النَّاسُ تتجاذبهم تيَّاراتُ الفكر، والثَّقافة، ومفاهيم هذا العصر المتعدِّدة.

فهل يسمحُ للخطاب الدِّينيِّ أنْ يكون غائبًا عن كلِّ هذه المساحات؛ ليحضر في قضايا الرُّوح والأخلاق؟
وهل الدِّين فقط روح، وأخلاق؟

في الجواب عن هذه الإشكاليَّة نقول:
أوَّلًا: بالتَّأكيد أنَّ الخطاب الدِّينيَّ مَعْنِيٌّ بمعالجة كلِّ شؤون الحياة الثَّقافيَّة، والرُّوحيَّة، والأخلاقيَّة، والاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة، والسِّياسيَّة، والحقوقيَّة، لأنَّ الدِّينُ هو للحياة بكلِّ امتداداتِها، ومساحاتها، إلَّا أنَّه يجب الحذرُ كلُّ الحَذَر مِن أيَّة معالجات تسبِّبُ خلافاتٍ حادَّة، وجدليَّاتٍ صعبة، وإرباكاتٍ كبيرةً، وتَزُجُّ بالخطابِ الدِّينيِّ في معتركاتٍ ضارَّةِ بوحدةِ الشُّعوب، وبأمنِ الأوطان.
فالوحدة من ثوابت الدِّين.
•﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾. (سورة الأنبياء: الآية 92).
•﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾. (سورة المؤمنون: الآية 52).
•﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ …﴾. (سورة الأنفال: الآية 46).
﴿… تَذْهَبَ رِيحُكُمْ …﴾: عزَّتكم، وقوَّتكم، وهَيْبتكم، ودولتكم.
وأمَّا حبُّ الأوطان فمِن أساسيَّات الدِّين.
•في الحديث: «حبُّ الوطنِ من الإيمان». (ميزان الحكمة 4/3566، محمَّد الريشهري).
•وفي حديث آخر: «عمِّرت البلدان بحبِّ الأوطان». (ميزان الحكمة 4/3566، محمَّد الريشهري).
ثانيًا: أنْ يُدَّعى أنَّ (القضايا الرُّوحيَّة، والأخلاقيَّة) هي آخر الأولويَّات، والاهتمامات قولٌ خطأ جدًّا؛ فمن الأولويَّات الحِفاظ على الهُويَّةِ الدِّينيَّةِ، والرُّوحيَّةِ، والأخلاقيَّةِ.
الأمَّة حينما تفقد هذه (الهُويَّة) تفقد وجودَها، وعنوانَها، وأصالتَها.

ما يحاوله أعداءُ هذه الأمَّة أنْ يسرقوا (هُويَّتَها)؛ لتبقى بلا هُويَّة.
فلا قيمةَ لثقافةِ بلا هُويَّة.
ولا قيمةَ لاقتصاد بلا هُويَّة.
ولا قيمة لسياسةٍ بلا هُويَّة.
ثالثًا: إنَّ أزمة المشاريعِ الثَّقافيَّةِ، والاجتماعيَّةِ، والاقتصاديَّةِ، والسِّياسيَّةِ هي (أزمةٌ روحيَّة، وأخلاقيَّة).
فمَن يتصدَّى لأيِّ مشروعٍ ثقافيٍّ، أو اجتماعيٍّ، أو اقتصاديٍّ، أو سياسيٍّ يجب أنْ يتوفَّر على الكفاءة الرُّوحيَّة، والأخلاقيَّة) وإلَّا انحرف هذا المشروع عن أهدافِهِ.
فأساس الأزمات هو (الفساد).
وكيف يتشكَّل الفساد؟
حينما يغيب في داخل الإنسان (الضَّمير الأخلاقيِّ).
وحينما تتلوَّث الرُّوح.
وحينما تتسيَّد الأهواء، والمصالح الذَّاتيَّة.
ومهما فُرِضتْ الرَّقاباتُ الخارجيَّة، فإنَّها تفشل في معالجة الفساد، ما دام الدَّاخل في حاجة إلى معالجة.
لجان المراقبة، والمحاسبة ضروريَّة، ولكنَّها تبقى عاجزة عن ملاحقه كلِّ أشكال الفساد.
ودورات الإعداد الإداري مهمَّة جدًّا، ولكنَّها لا تؤسِّس للنَّظافة الدَّاخليَّة.
هناك تكون الضَّرورة إلى (دورات تربويَّة، روحيَّة، وأخلاقيَّة).
نخلص إلى القول بأنَّ معالجة الشَّأن الرُّوحيِّ والأخلاقيِّ تشكِّل ضرورة قصوى مهما كانت الهموم الأخرى كبيرة.
ولقد أولى القرآن الكريم (المسألة الرُّوحيَّة، والأخلاقيَّة) اهتمامًا كبيرًا.

والنَّصُّ القرآنيُّ الكريم الذي بدأنا به هو واحد من نصوص قرآنيَّة كثيرة أعطت الشَّأن الرُّوحيَّ قيمة واضحة، فالنَّصُّ يتحدَّث عن (خشوع القلب لذِكْر الله).
•﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ …﴾. (سورة الحديد: الآية 16).
هنا يُحذِّر القرآن الكريم من حالة (الجفاف الرُّوحيِّ) حينما تتحجَّر القلوب، فلا تخشع لذِكْر الله تعالى.
•﴿… وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى …﴾. (سورة النِّساء: الآية 142).
الكسل في الصَّلاة هو صورة من صور (الجفاف الرُّوحيِّ).
الكسلُ في الصَّلاة هو مظهر من مظاهر تحجُّر القلب!
هنا سؤال يُطرح:
لماذا تُصابُ الرُّوحُ بالجفاف؟
ولماذا يُصاب القلب بالتَّحجُّر؟
فينعكسُ ذلك على الصَّلاة.
وينعكسُ ذلك على الذِّكْر.
وينعكسُ ذلك على الدُّعاء.
وينعكسُ ذلك على تلاوة القرآن الكريم.
وينعكسُ ذلك على كلِّ ألوانِ العبادة.
وهكذا تصبح العبادة ثقيلة على هؤلاء الذين جفَّت أرواحهم، وتحجَّرتْ قلوبهم، وتصحَّرت نفوسُهم.
•يقول تعالى في: (سورة البقرة: الآية:45): ﴿… وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ (سورة البقرة: الآية 45).
﴿… لَكَبِيرَةٌ …﴾: ثقيلة، وصعبة، وشاقَّة، على مَنْ؟!
على أولئك الَّذين يعيشون جفافًا روحيًّا، وتحجُّرًا في قلوبهم، وتصحُّرا في نفوسهم.
أمَّا الخاشعون الذَّين ذابوا في حبِّ الله تعالى، وعاشوا التَّذلُّل، والانكسار، فهؤلاء عشَّاق العبادة، عشَّاق الصَّلاة، عشاق الذِّكْر، والدُّعاء، والتِّلاوة.
•﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ …﴾. (سورة الأنفال: الآية 2).
– الوَجَل: الخوف والخشية من الله تعالى.
•﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ …﴾. (سورة المائدة: الآية 83).
يبقى السُّؤال المهمُّ:
•ما أسباب الجفاف الرُّوحيِّ؟
•ما أسباب تحجُّر القلوب؟

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى