حديث الجمعة 33: ثَقافة التَّقوى: الوَعْي والتَّطبيق ج3 – الأحوال الشخصية وصيحات التقنين(1)
حديث الجمعة 33 | 6 ربيع الأول 1424 ه | 8 مايو 2003 م | المكان: مسجد الإمام الصادق (ع) | القفول - البحرين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين،
أتناول في حديثي معكم – أيَّها الأحبة – هذه الليلة الموضوعين التاليين:
٭ ثقافة التقوى: الوعي والتطبيق.
٭ الأحوال الشخصية وصيحات التقنين
الموضوع الأول: ثقافة التقوى: الوعي والتطبيق:
تحدثنا في حلقتين سابقتين عن أهمية وضرورة ثقافة التقوى، وإنّ غياب هذه الثقافة ينتج حياة فاقدة لمضمونها الروحي، ومتى فقدت الحياة مضمونها الروحي كانت حياة أزمات وتوترات، وحياة ضياع وانحراف، وهل مأساة العالم المعاصر إلاّ غياب البعد الروحي، مأساة العالم المعاصر ثقافة لا تحمل قيماً روحية، وسياسية لا تحمل قيماً روحية، واقتصاد لا يحمل قيما روحية، وإعلام لا يحمل قيما روحية ومناهج تعليم لا تحمل قيماً روحية.
نعم مأساة العالم المعاصر، واقع لا يحمل قيماً روحية، ولن يتحرر العالم المعاصر من أزماته وتوتراته، ومن كل ضياعاته وانحرافاته، ومآزقه ومآسيه ما دام مصراً على رفض القيم الروحية، واهمون أولئك الذين يعتقدون أنــّهم قادرون أن يحرروا إنسان هذا العصر من عذاباته بعيداً عن قيم الدين ومبادئه…
مسؤوليتنا – أيَّها الأحبة – أن نعمل على نشر ثقافة القيم الروحية بكل ما نملك من إمكانات ووسائل وإن كلفنا ذلك الكثير من التعب والمعاناة، والكثير من الصعوبات والتحديات في هذا العصر الذي هيمنت عليه قيم المادة، وقيم الانحراف، وقيم الضياع الأخلاقي…
ولا تقولوا كيف نواجه طوفان الفساد الأخلاقي، ومشروعات الدمار الروحي، إنــّكم تملكون إرادة الإيمان، وصلابة الإيمان، وعنفوان الإيمان فلا معنى لليأس والإحباط والانهزام، نعم يجب علينا أن نتوفر على وسائل العصر في مواجهة مشروعات الفساد المدمر.
وبعد أن أكدّنا ضرورة ثقافة التقوى، وضرورة الثقافة الروحية، يجب أن نؤكد على مسألتين:
المسألة الأولى:
أن تكون ثقافتنا الروحية ثقافة واعية وبصيرة، وأن تكون ثقافة التقوى ثقافة واعية وبصيرة.
كثيرون يفهمون الثقافة الروحية، ويفهمون ثقافة التقوى فهماً مغلوطاً، وفهماً بليداً، وفهماً ساذجاً.
ومن خلال هذا الفهم المغلوط والبليد والساذج تتحول القيم الروحية، وتتحول التقوى إلى أدوات تخدير، ووسائل تجميد، الكثيرون يفهمون القيم الروحية مجموعة قيم تدعوا إلى اعتزال الحياة المادية، واعتزال الحركة الاجتماعية، واعتزال العمل الاقتصادي، واعتزال الممارسة السياسية، فلا يمكن أن نكون روحانين – بمعنى أن نحمل القيم الروحية – ونحن في قلب الحياة المادية، ونحن في عمق الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي؟!
والكثيرون يرون أن لتعاطي مع هذا الواقع هو تلوث روحي، وابتعاد عن مضمون التقوى، فلكي تكون متقياً أكثر يجب أن تبتعد عن الحياة أكثر..
هذا الفهم للقيم الروحية، وهذا الفهم للتقوى فهم مرفوض، وفهم خاطئ، فيه إساءة كبيرة للدين، ولمبادئ الدين، ولقيم الدين، وهذا الفهم يعطي مبرراً لأعداء الدين أن يتهموا الدين بأنــّه وسيلة تخدير وتخلف وجمود.
كيف نمارس التقوى؟
أيــَّها الأحبة:
قبل أن نمارس التقوى يجب أن نملك وعي التقوى، ألم يرد في الحديث: (قصم ظهري إثنان عالم متهتك وجاهل متنسك)، (العالم المتهتك): وهو العالم الفاسق الذي يمارس المخالفات الشرعية، لا شك أنَّ هذا الإنسان يشكّل خطراً كبيراً على الدين لأنـّه يكون سبباً في انحراف الناس عن الدين، وسبباً في ابتعاد الناس عن الدين، فهو يدعو الناس إلى الدين ولكنه أول من ينتهك حرمات الدين، وأحكام الدين وقيم الدين.
هذا النمط من العلماء عبّرت عنهم الأحاديث بأنهم (قطاع الطريق) لأنهم يقطعون طريق الناس إلى الله تعالى، فما أشد شقاء هؤلاء وسوف يكون عذابهم شديداً يوم الحساب فهم يأمرون الناس بما لا يفعلون (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).
روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال في وصيته لأبي ذر: (يا أبا ذر يطّلع قوم من أهل الجنة إلى قوم من أهل النار فيقولون: ما أدخلكم النار وإنــّما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم؟ فيقولون: إنا كنا نأمركم بالخير ولا نفعله).
وفي حديث آخر مروي أيضاً عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في سخط الله حتى يكفّ أو يعمل بما قال أو دعا إليه).
وقال الله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) فمن صفات العالم المتهتك أنه يأمر الناس بالبر وينسى نفسه.
وأما الجاهل المتنسك فهو ذلك الإنسان الذي يمارس التدين والتنسك بطريقة مغلوطة وخاطئة، وبالتالي فهو يقدم للناس تديناً مشوهاً، وتنسكاً ممسوخاً، هذا النمط من المتدينين الجهلاء، والمتنسكين البلهاء يشكلون أزمة صعبة في الأوساط الدينية، لا عيب أن يكون الإنسان جاهلا فيتعلم ولكن هؤلاء لا يريدون أن يتعلموا ولا يريدون أن يتفهموا في الدين، بل يصرون على أن ما يمارسونه هو الدين، وهكذا تتراكم العادات والممارسات الخارجة عن الدين فتصبح دينا، ويظنها الناس ديناً، وبالتالي يحمل هؤلاء أخطاءهم وجهلهم وانحرافاتهم على الدين، ومن المؤسف جداً أن الناقدين للدين والمعادين للدين والهادفين لتشويه الدين والإساءة إلى الدين يعتمدون ممارسات هؤلاء المتدينين الجهلاء معياراً لتقييم الدين، ولتعريف الدين.
الدين لا يؤخذ من ممارسات الناس وسلوكياتهم مهما كان موقع هؤلاء الناس، ألا أن يكونوا (المعصومين) فكل ما يصدر عنهم يجسد الدين وأما ما عدا المعصومين فسلوكهم وتصرفاتهم لا تشكل معيارا للدين، هؤلاء الناس غير المعصومين قد يلتقي سلوكهم مع الدين فنعبر عنهم بالأتقياء والصالحين والملتزمين، وقد لا يلتقي هذا السلوك مع الدين، وربّما يكون ذلك عن عمد وعلم وإصرار، فنعبر عن هؤلاء بالعصاة والفساق والمنحرفين، وقد يكون ذلك عن جهل أو خطأ أو نيسان وغيرها من الحالات المعذرة أو غير المعذرة…
المهم ليس صحيحاً أن ندرس الدين من خلال سلوك الناس غير المعصومين، الدين يدرس من خلال الكتاب العزيز ومن خلال ما ثبت عن المعصومين، وهنا نحتاج إلى التخصص والفقاهة، وهناك ضرورات ثابتة من الدين على مستوى الواجبات والمحرمات والمستحبات والمكروهات والمباحات، وعلى مستوى الصحة والفساد هذه الضرورات والبديهيات الدينية يعلمها كل الناس الذين يعيشون أجواء الدين، فهي لا تحتاج إلى فقاهة واجتهاد.
سوف أتابع حديثي حول ثقافة التقوى في حلقات قادمة إن شاء الله…
الموضوع الثاني: الأحوال الشخصية وصيحات التقنين(1):
في هذه الأيام تتعالى في البحرين وتيرة الدعوة إلى ما يسمونه بتقنين الأحوال الشخصية من خلال المجلس النيابي، وقبل أن أتناول الموقف من هذه الدعوة والتي تتبناها هيئات نسائية، وتتبناها جهات رسمية، وشخصيات متعددة الاتجاهات وأعضاء في البرلمان، قبل هذا أود أن أمهد بمقدمة…
الإسلام عقيدة ونظام:
تعلمون أن الإسلام عقيدة ونظام، والنظام في الإسلام يمتد لكل مساحة الحياة فأحكام الشريعة شاملة متكاملة، تغطي جميع حاجات الإنسان ومنذ ان تأسس الكيان الإسلامي في عهد الرسالة كان الإسلام هو الحاكم، وكانت الشريعة هي أساس النظام.
ورغم انحرافات الكيانات الحاكمة في مراحل لاحقة، فقد استمر عنوان الإسلام هو الحاكم وان كان بالصورة التي أرادتها أنظمة الحكم المنحرفة، واستمرت الشريعة الإسلامية هي أساس النظام في كل المجالات وان كانت بالصورة التي أرادتها الكيانات المتسلطة، وبقي الوضع هكذا إلى آخر أيام الدولة العثمانية التي تدعي أنها تمثل الخلافة الإسلامية، وبعد سقوط الدولة العثمانية، وخضوع بلدان المسلمين إلى هيمنة الغزو الكافر تغيرت الأوضاع، فلم يعد عنوان الإسلام هو الحاكم، ولم تعد الشريعة هي أساس الأنظمة، وتشكلت دول متعددة في بلدان المسلمين، ووضعت حدود وحواجز، وسنت قوانين برعاية وأشراف بريطانيا وفرنسا وكان لهما النصيب الأوفر في اقتسام التركة العثمانية واستمرت الهيمنة الكافرة على بلدان المسلمين…
وفي ظل هذه الهيمنة انتهى دور الإسلام ودور الشريعة على مستوى الحكم والنظام وأن بقي هذا الدور حاضراً بنسبة ما في حياة المسلمين، وحتى لا تتمرد الشعوب الإسلامية على أنظمة الحكم التي صنعها المستعمر الكافر، وضعت هذه الصيغة الشكلية (الإسلام دين الدولة) واستمرت هذه الشكلية حتى بعد ما سمي بالاستقلال والتحرر…
(والإسلام دين الدولة) عنوان كان الهدف منه تدجين شعوب الأمة الإسلامية وإيهامها بأنّ الإسلام لازال هو الحاكم، وفي حين لا نجد لذلك أي مصداقية لا في هيمنة الاستعمار الكافر المباشرة، ولا في ظل الاستقلالات الوهمية الزائفة، هكذا سرق الإسلام من الأمة، وسرقت أحكام الشريعة، وعوض عنها بقوانين وضعية مستوردة تصطدم في كثير من الحالات مع أحكام الشريعة الإسلامية وهذا واضح لا يحتاج إلى برهان…
نعم بقيت مساحة محدودة خاضعة لأحكام الشريعة، لم يتجرأوا على اقتحامها لأنها تمس أعراض الناس وشئونهم الشخصية، فخوفاً من غضبة الشعوب الإسلامية تجنبوا اقتحام هذه المساحة والتي تسمى مساحة (الأحوال الشخصية) والتي تعنى بتنظيم شئون الزواج والطلاق، والوصايا والمواريث وتركوا ذلك للمحاكم الشرعية حسب إنتماءاتها المذهبية…
وهكذا بقيت أحكام الأحوال الشخصية خارج (مشروع السرقة الكبيرة) التي مارسها المستعمر الكافر، بالتعاون مع الأنظمة الحاكمة التي صنعت على عين هذا المستعمر.
وأخيرا بدأ السطو على هذه المساحة الصغيرة المتبقية من أحكام الشريعة…
كيف بدأ هذا السطو؟
ابتداء هذا السطو تحت شعار (تقنين الأحوال الشخصية)، وهذا التقنين يجب أن يتم عبر المؤسسات المدنية والمتمثلة في ما يسمى بالمجالس التشريعية المعنية أو المنتخبة، وعقدت عدة مؤتمرات لمعالجة قضية الأحوال الشخصية، ووضعت مجموعة مشروعات لتقنين الأحوال الشخصية.
ورغم إصرار الكثير من المؤتمرات على ضرورة إخضاع هذا التقنين لأحكام الشريعة الإسلامية، وعدم السماح لمؤسسات التشريع المدنية أن تبتعد عن أحكام الشريعة، فهناك أصوات أخرى ارتفعت في العديد من المؤتمرات، وانطلقت عبر وسائل الإعلام، ومن خلال المنتديات والمحاضرات هذه الأصوات تطالب بإلغاء بعض أحكام الشريعة الإسلامية باعتبارها لا تنسجم مع ضرورات العصر، واستبدالها بقوانين مطبقة في الغرب، فسمعنا دعوات تطالب بإلغاء نظام الميراث الذي يمايز بين الرجل والمرأة، وبإلغاء بعض أحكام الزواج والطلاق الثابتة في الشريعة، وبتعديل نظام القيمومة الذي نص عليه القرآن، وبإقرار نظام التبني المحرم في الإسلام، وبإباحة مسألة الإجهاض، وغير ذلك من الأمور التي تتنافى صراحة مع أحكام الشريعة الإسلامية الثابتة.
لا أريد هنا أن أذكر شواهد من بيانات وتصريحات صادرة عمن يسمين أنفسهن ناشطات في الدفاع عن حقوق المرأة يطالبن صراحة بتطبيق القوانين الغربية في مجال حقوق المرأة وفي مجال الأحوال الشخصية.
إن مسألة حقوق المرأة مسألة في حاجة إلى وقفات ووقفات سوف أتناولها – إن شاء الله تعالى – في لقاءات أخرى.
إنه من المؤسف جدا أن نسمع في مجتمعات المسلمين من يدعوا إلى استيراد قوانين تتنافى مع الإسلام، وهذه القوانين – وخصوصا فيما يتصل بقضايا المرأة والأسرة – قد أثبت فشلها في مواطنها الأصلية فهل أن وضع المرأة في الغرب ووضع الأسرة في الغرب يشكل النموذج الذي يجب أن يحتذى، أوضاع المرأة وأوضاع الأسرة في الغرب أوضاع كارثية وهذا ما يصرح به المنصفون من مفكرين ومثقفين غربين، فإلى متى تبقى بعض النساء المأسورات لشعارات الغرب الكاذبة يمارسن لغة الاستغراب والتغرب في أوساط المسلمين… قبل أكثر من سنة تقريبا قرأت في إحدى الصحف المحلية مقالا لإحدى النساء البحرينيات تدعوا فيه المرأة العربية والخليجية على وجه الخصوص إلى استلهام نضال المرأة التونسية ممثلة في حركات منظماتها النسائية، وأشادت بقانون الأحوال الشخصية الذي أصدره الحبيب بور قيبة، وإن من يقرأ قانون الأحوال الشخصية التونسي يجد فيه تجاوزات صارخة لأحكام الشريعة الإسلامية ومن جملة مواد هذا القانون إباحة الإجهاض، هذا هو إنجاز النضال الطويل للمرأة التونسية والذي تدعو كاتبة المقال إلى استلهامه وتتمنى للمرأة العربية الخليجية على وجه الخصوص أن تكون قد قطعت أشواطها الطويلة في الوصول إلى هذا الإنجاز الكبير بيد أن الوقت قد داهمنا وسوف أتابع الحديث – بإذن الله – في اللقاء القادم إلا أنني انبه الأخوة المؤمنين إلى نقطة هامة وهي أن العلماء الأفاضل أعلنوا رفضهم الشديد لتدخل المجلس النيابي أو مجلس الشورى في شئون الأحوال الشخصية لما يترتب على ذلك من نتائج خطيرة جدا، والعلماء يدعون كل المؤمنين إلى الوقوف معهم في هذا الرفض، ونأمل أن لا يضطرنا الموقف إلى دعوة الناس إلى المسيرات والإعتصامات لمواجهة هذا التدخل الذي يحاول أن يطال قضايا أغراضنا فيما هي أحكام الزواج والطلاق والأنساب والتي يجب أن تكون خاضعة لرأي الشريعة ومقرراتها الثابتة وليس إلى مداولات ومناقشات وتصويتات من لا يملكون صلاحية التشريع الفقهي.
سوف نلقي الأضواء اكثر في حديثنا القادم إن شاء الله تعالى…
الدعم والمساندة للشعب العراقي:
وفي الختام أذكركم بإخوانكم المؤمنين في العراق فلا زالت صرخات الاستغاثة تصلنا منهم، فكونوا معهم بأرواحكم وقلوبكم ومشاعركم وأموالكم وبكل ألوان الدعم المساعدة والإغاثة فكل طفل يموت، وكل امرأة تبحث عن ما يستر بدنها، وكل شيخ كبير يهدده الجوع، وكل مريض لا يجد دواء، وكل إنسان في العراق يستغيث وكل أسرة حائرة تبحث عن مأوى هذا كله يتحمله كل القادرين مسئوليته أمام الله تعالى يوم الحساب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.