موائد الإيمان (2) التَّعرُّض للنَّفحات الرُّبوبيَّة
موائد الإيمان
هي محاضرات للعلَّامة السَّيِّد عبد الله الغريفي، أُلقيت في أيَّام السَّبت خلال شهر رمضان المبارك 1438هـ، وقد تمَّ تفريغها من تسجيلات مرئيَّة، وتنسيقها بما يتناسب وعرضها مكتوبة للقارئ الكريم.
(2)
التَّعرُّض للنَّفحات الرُّبوبيَّة
أعوذ بالله السَّميع العليم من الشَّيطان الغوي الرَّجيم
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلينَ سيِّدنا، ونبيِّنا، وحبيبنا، وقائدنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الطَّيِّبين الطَّاهرين.
السَّلام عليكم أيُّها الأحبَّة جميعًا، ورحمة الله وبركاته.
النَّفحات رحمة
جاء في الحديث عن النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) – كما هو مذكور في بعض مصادر الحديث – أنَّه (صلَّى الله عليه وآله) قال: “إنَّ لربكم في أيَّام دهركم نفحاتٍ، فتعرَّضوا له لعلَّه يصيبكم نفحة منها، فلا تشقون بعدها أبدا” (ميزان الحكمة2/1051، محمَّد الريشهري).
النَّفحات دفعات استثنائيَّة من الرَّحمة الإلهيَّة.
النَّفحات الرَّبانية هي رحمة الله تعالى، لا يخلو منها زمان، ولا مكان.
في كلِّ آنةٍ من آناتِ الزَّمان.
رحمة الله موجودة في كلِّ مكان.
النَّفحات الاستثنائيَّة
لا يوجد زمان، لا يوجد مكان، لا توجد حالة تخلو من رحمة الله تعالى، لكن هناك استثناءات للرَّحمة نسمِّيها نفحات!
نسمِّيها هِبات ربانيَّة روحانيَّة.
هذه حالات استثنائيَّة غير الحالات الطَّبيعيَّة للرَّحمة.
أوَّلًا: النَّفحات الزَّمانيَّة
1- نفحات ليلة الجمعة
يعني: مثلًا في ليلة الجمعة توجد لله تعالى نفحات قد لا توجد في غير ليلة الجمعة، فتَعَرَّضُوا لها.
يعني: اطلبوا هذه النَّفحات.
2- نفحات يوم الجمعة
توجد في يوم الجمعة نفحات ربَّانيَّة!
3- نفحات الأسحار
في الأسحار نفحات ربَّانيَّة لا توجد في غير الأسحار، تَعَرَّضوا لهذه النَّفحات، واطلبوها.
4- نفحات شهر رمضان
في شهر رمضان نفحات ربَّانيَّة لا توجد في غير شهر رمضان.
5- نفحة ليلة القدر
في ليلة القدر نفحات لا توجد في غير ليلة القدر.
6- نفحة أوقات الصَّلاة
توجد في أوقات الصَّلاة نفحات لا توجد في غير أوقات الصَّلاة.
ثانيًا: النَّفحات المكانيَّة
توجد في المساجد نفحات لا توجد في غير المساجد، هذه نفحات!
“إنَّ لربِّكم في أيَّام دهركم نفحات، فتعرضوا له” (ميزان الحكمة2/1051، محمَّد الريشهري).
اطلبوا هذه النَّفحات، احرصوا على أنْ تدركوا هذه النَّفحات.
مفاتيح نفحات الرَّحمة
هناك مفاتيح لنفحات الرَّحمة الإلهيَّة – حسبما جاء في الرِّوايات -، فكيف نطلب تلك النَّفحات؟
اطلبوها!
كيف نطلب النَّفحات الإلهيَّة؟، هذه الهِبات الاستثنائيَّة من الرَّحمة الإلهيَّة، هذه الدُّفعات الرَّبانيَّة الاستثنائيَّة للرَّحمة الإلهيَّة، كيف نطلبها؟
كيف نتعرَّض لها؟
أيُّها المؤمنون، أنتم في شهرٍ تزدحم فيه نفحات الرَّحمة، فتعرَّضوا لهذا النَّفحات، وإنَّ التَّعرُّض لنفحات الله سبحانه له مفاتيح:
المفتاح الأوَّل: الإكثار من ذِكْر الله تعالى
من مفاتيح الرَّحمة الإلهيَّة الإكثار من ذِكْر الله تعالى.
أكثروا من ذِكْر الله سبحانه، لعلَّكم تصادِفون تلك اللَّحظات ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (سورة آل عمران: الآية191).
إذًا، أكثروا من ذِكْر الله سبحانه، فأنت ماشٍ اذْكُر الله (عزَّ وجلَّ).
وأنت جالس اذْكُر الله سبحانه.
وأنت مستلقٍ على فراشك اذْكُر الله تعالى.
في أي خطوة من خطواتك اذْكُر الله العظيم.
فلعلَّك في لحظة من لحظات الذِّكر تصادف هذه النَّفحة، فلا تشقى بعدها أبدًا.
نحن لا ندري هذه النَّفحات متى تكون؟، لكن إذا واظبنا على ذِكْر الله سبحانه، لعلَّنا نصادف في لحظة من لحظات الذِّكر نفحة من نفحات الرَّحمة الإلهيَّة، فلا نشقى بعدها أبدًا، هذا مفتاح، والمسألة سهلة!
ذِكْر الله سبحانه سهل!
وحاوِلْ أنْ يكون الذِّكرُ ذِكرًا ينطلق من عقل، من قلب، من نيِّة صادقة، مِن توجُّه صادق إلى الله تعالى، هذا الذِّكر هو مفتاح من مفاتيح الرَّحمة الإلهيَّة.
كما جاء في الحديث: “بذِكْر الله تستنزل الرَّحمة” (عيون الحكم والمواعظ، الصَّفحة188، علي بن محمَّد الواسطي اللَّيثي).
المفتاح الثَّاني: الإخلاص في الدُّعاء
من مفاتيح الرَّحمة الإلهيَّة الإخلاص في الدُّعاء، ففي الحديث – كما في البحار -: “تعرض للرَّحمة، وعفو الله بحسن المراجعة، واستعن على حسن المراجعة بخالص الدُّعاء، والمناجاة في الظُّلم” (ميزان الحكمة2/1050، محمَّد الريشهري)
• “في الظُّلم”: في اللَّيل، في الأسحار.
المناجاة في الأسحار مهمَّة، إذا كان النَّاس نِيام، وحتى لو كنتَ مُستلقيًا على فراشك، أو كنت نائمًا واستيقظت في لحظة من لحظات اللَّيل، فناجِ اللهَ تعالى، ادْعو الله سبحانه، اذْكر الله (عزَّ وجلَّ).
لا تفوِّت هذه الفرصة!
لربما الواحد منَّا يكون نائمًا وغير راغبٍ في أداءَ الصَّلاة، ولكنَّه قد يستيقظ في لحظة من لحظات اللَّيل، ويمكنه القيام بالذِّكر، فليذكرْ اللهَ سبحانه، وليعوِّد لسانَه على ذِكْر الله تعالى.
ما إنْ يستيقظ، وينقلب على فراشه، فليذكر الله (عزَّ وجلَّ)، فلعلَّ في لحظة مِن لحظات الذِّكر في جوف اللَّيل تصادف نفحة من نفحات الله سبحانه، فلا تشقى بعدها أبدًا.
المفتاح الثَّالث: طاعة الله سبحانه
من مفاتيح الرَّحمة الإلهيَّة طاعة الله سبحانه وتعالى.
لحظة الطَّاعة قد تكون فيها نفحاتٌ.
وأنت طائِع لله (عزَّ وجلَّ)، وفي لحظة طاعتك لله سبحانه قد تمرَّ بك نفحات:
أنت في صلاة.
أنت في معاملة.
أنت تمشي في الشَّارع.
الطَّاعة مفتوحة، فليس معنى الطَّاعة لا بدَّ أنْ تكون في صلاةٍ.
أو لا بدَّ أنْ تكون وقت قراءة القرآن فقط.
لا، فأنت تمشي في الشَّارع حافظًا عينك من النَّظر المحرَّم أنت في طاعة الله!
ما دمت في هذه اللَّحظات في طاعة الله سبحانه، فهي لحظات النَّفحات الإلهيَّة.
قد تمرُّ بك في هذه اللَّحظة نفحة إلهيَّة، فلا تشقى بعدها أبدًا!، ولذلك الإنسانُ يحرص أنْ يكون – دائمًا – على طاعة الله تعالى، فما دام في طاعة الله تعالى فهو مغمور بنفحات الله (عزَّ وجلَّ) سواء كان في البيت، أم في الشَّارع، أم في المكتب، أم في أيِّ موقع من مواقع الحياة.
فما دام في طاعة الله تعالى، فهو في غمرة من غمرات الرَّحمة الإلهيَّة.
المفتاح الرَّابع: مراقبة الذَّنب، وخوف الرَّبِّ
من مفاتيح الرَّحمة مراقبة الذَّنب، وخوف الرَّبِّ
كما في الحديث: “رحم الله عبدًا راقب ذنبه وخاف ربه” (عيون الحكم والمواعظ، الصَّفحة261، علي بن محمَّد الواسطي اللَّيثي).
فمن مفاتيح الرَّحمة هذه النقطة، ويجدر الانتباه لها كثيرًا.
إذا كنتم تريدون شآبيب الرَّحمة تنزل عليكم من الله سبحانه، ارحموا عباد الله.
القلب الذي يرحم النَّاس هو محطٌّ لرحمة الله تعالى.
ارحم النَّاس، ودعْ قلبك رحيمًا على النَّاس.
أنت في محطِّ الرَّحمة الإلهيَّة ما دمت تعيش قلبًا عطوفًا رحيمًا على عباد الله (عزَّ وجلَّ).
في الحديث: “مَن لم يرحم النَّاس منعه الله رحمته” (عيون الحكم والمواعظ، الصَّفحة428، علي بن محمَّد الواسطي اللَّيثي).
إذا لا توجد في قلبك رحمة للنَّاس، فلا تتوقَّع الرَّحمةَ من الله تعالى.
إذا كنت تريد رحمةً من الله (عزَّ وجلَّ) ارحم الناس.
فكونوا الرُّحماء في هذا الشَّهر.
استنفروا رَحَمَات الله سبحانه وتعالى.
فليرحم الزَّوج زوجته – هي الأضعف عادةً -.
ولترحم الزَّوجة زوجها – أيضًا -، ﴿… وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً …﴾ (سورة الرَّوم: الآية21).
المطلوب من الزَّوج أنْ يرحم زوجته.
والمطلوب من الزَّوجة أنْ ترحم زوجها.
وليرحم الأبُ أولاده.
وليرحم الأولاد آباءَهم.
وليرحم الجارُ جاره.
وليرحم الأخُ أخاه.
وليرحم القويُّ الضَّعيفَ.
وليرحمْ الرَّاعي الرَّعيَّة، هنا رحمة الحاكم!
الحاكم مطلوب منه أنْ يرحم رعيَّته كما جاء في عهد أمير المؤمنين (عليه السَّلام) إلى مالك الأشتر حينما وَلَّاه على مصر: “…، وأَشْعِر قلبَّك الرَّحمة للرَّعيَّة، …” (نهج البلاغة3/84، خطب الإمام علي عليه السَّلام).
دع قلبك عطوفًا على رعيَّتك، وعلى شعبك، فهؤلاء أبناؤك.
الشَّعب أبناء للحاكم، فمطلوب من الحاكم أنْ يجعل قلبه مملوءًا بالعطف والرَّحمة، “…، وأشعر قلبك الرَّحمة للرَّعيَّة، والمحبَّة لهم، واللُّطف بهم، ولا تكونَّن عليهم سبُعًا ضاريًا تغنم أَكْلهم، فإنَّهم صنفان: إمَّا أخ لك في الدِّين، وإمَّا نظير لك في الخَلْق، …” (نهج البلاغة3/84، خطب الإمام علي عليه السَّلام).
هؤلاء النَّاس، وهذا الشَّعب، إمَّا إخوانك في الدِّين، وإمَّا نظير لك في الخَلْق، فهم بشر مثلك!
الرَّحمة تصنع أوطانًا
هكذا تصنع الرَّحمة أوطانًا، تملؤها المحبَّة، والصَّفاء، والوفاء، والتَّآلف، والتَّسامح، والاعتدال، والسَّلام، والأمان، أوطانًا لا تعرف الكراهية، والشَّحناء، والبغضاء، والغَدْر، والخِيانة، والتَّخاصم، والتَّعصُّب، والتَّطرُّف، والعنف، والإرهاب.
إذا سادت الرَّحمة تصبح الأوطان في أمان.
السِّياسة في منظور الإمام الحسن المجتبى (عليه السَّلام)
ونحن نعيش في ذِكرى ميلاد الإمام السِّبط الحسن المجتبى (عليه السَّلام)، أذكر لكم هذه الكلمة للإمام الحسن المجتبى (عليه السَّلام) وهو يعرف السِّياسة.
ما هو معنى السِّياسة؟
هل هي بالمنظور الذي نحن الآن نفهمه للسِّياسة؟
السِّياسة في منظور الإمام الحسن، ما هي؟
ما هي أبعاد السِّياسة؟
ما هي مكوِّناتها؟
يقول الإمام (عليه السَّلام) في تعريف السِّياسة، هي: “أنْ ترعى حقوق الله، وحقوق الأحياء، وحقوق الأموات، …” (الرَّوائع المختارة من خطب الإمام الحسن (عليه السَّلام)، الصَّفحة118، السَّيِّد مصطفى الموسوي).
مساحات السِّياسة عند الإمام الحسن (عليه السَّلام)
هذه السِّياسة في منظور الإمام الحسن (عليه السَّلام)، لها ثلاث مساحات:
المساحة الأولى: أنْ ترعى حقوق الله
الله تعالى له حقوق عليك، فحاول أنْ تحافظ على هذه الحقوق التي هي لله (عزَّ وجلَّ) عليك.
هذا وعي السِّياسة، وهذا فهم السِّياسة أنْ ترعى حقوق الله.
المساحة الثَّانية: أنْ ترعى حقوق الأحياء
النَّاس الذين تعيش معهم في المجتمع.
البشر الذين تعايشهم لهم حقوق، فحافظ على هذه الحقوق.
المساحة الثَّالثة: أنْ ترعى حقوق الأموات
الأموات الذين فارقتهم وفارقوك، والذين سبقوك، ومضوا إلى رحاب ربِّهم لهم حقوق أيضًا، وليس فقط الأحياء لهم حقوق!
السِّياسة في منظور الإمام الحسن (عليه السَّلام) تحمي حتَّى حقوق الأموات، ليس فقط تحمي حقوق الأحياء!!
فسياستنا اليوم إذا سترتقي في عملها ستحاول أنْ ترفع شعار الدِّفاع عن حقوق الأحياء من البشر!
أمَّا السِّياسة في منظور الإمام الحسن (عليه السَّلام)، ففيها حماية حتَّى لحقوق الأموات ليس فقط الأحياء.
هذا الذي يهتمُّ بحقوق الأموات، فمن باب أولى يهتمُّ بحقوق الأحياء.
إذًا هناك حقوق لله تعالى، وحقوق للأحياء، وحقوق للأموات.
ثمَّ بدأ الإمام الحسن (عليه السَّلام) يفصِّل هذه الحقوق.
فما هي؟
ما هي حقوق الله تعالى؟
ما هي حقوق الأحياء؟
ما هي حقوق الأموات؟
أوَّلًا: حقُّ الله تعالى
“فأمَّا حقوق الله، فأداء ما طلب، والاجتناب عمَّا نهى” (الرَّوائع المختارة من خطب الإمام الحسن (عليه السَّلام)، الصَّفحة118، السَّيِّد مصطفى الموسوي).
هذا حقُّ الله سبحانه، الطَّاعة.
1- أطع الله فيما أمرك.
2- واجتنب عمَّا نهاه عنك.
هذا حقُّ الله تعالى.
الله تعالى لا يريد منك شيئًا إلَّا الطَّاعة.
أنْ تطيعه فيما أمرك، وأنْ تتجنَّب عمَّا نهاك عنه.
فإذا أطعت الله (عزَّ وجلَّ) في ذلك، فقد أدَّيت حقَّ الله.
أمرك بالصَّلاة، فصلِّ.
أمرك بالإحسان إلى النَّاس، فأحسِن إلى النَّاس.
أمرك بالعدل، فاعدل بين النَّاس.
نهاك عن الظُّلم، فلا تظلِم.
نهاك عن الغِيْبة، فلا تَغْتَب.
نهاك عن الكذب، فلا تكذب.
حقوق الله تعالى هي – بالتَّالي – حقوق البشر.
الله (عزَّ وجلَّ) لا يستفيد من طاعتك.
طاعتك ما ينتفع بها الله تعالى.
بل أنت الذي تنتفع بالطَّاعة، والبشر هم ينتفعون من الطَّاعة، وإلَّا فالله تعالى ليس له مصلحة بطاعتك!
فما الذي سيستفيده من طاعتك؟!
المهمُّ أنَّك أنتَ المستفيد، فلا تقصِّر في طاعتك له.
فبطاعتك ستنال جنَّةً، وثوابًا، ولطفًا إلهيًّا.
والطَّاعة لله (عزَّ وجلَّ) – بالتَّالي – هي خير لكلِّ النَّاس، خيرٌ للبشر، خيرٌ للمجتمعات.
فحينما أقول لك لا تظلم فهذا لمصلحة البشر، ولمصلحتك.
حينما يقول لك لا تغتب هذا لمصلحتك، ولمصلحة البشر.
إذًا، هذه “…، حقوق الله، فأداء ما طلب والاجتناب عمَّا نهى، …” (الرَّوائع المختارة من خطب الإمام الحسن (عليه السَّلام)، الصَّفحة118، السَّيِّد مصطفى الموسوي)
ثانيًا: حقوق الأحياء
ما هي حقوق الأحياء؟
“وأمَّا حقوق الأحياء، فهي أنْ تقوم بواجبك نحو إخوانك” (الرَّوائع المختارة من خطب الإمام الحسن (عليه السَّلام)، الصَّفحة118، السَّيِّد مصطفى الموسوي).
السِّياسة في منظور الإمام الحسن (عليه السَّلام) علاقات اجتماعيَّة.
توجد وظيفة اجتماعيَّة، فمطلوب منك أنْ تمارسها.
كيف تشكِّل علاقاتك مع النَّاس؟
بدءًا من علاقاتك مع زوجتك.
وعلاقاتك مع أولادك.
وعلاقاتك مع جارك.
وعلاقاتك مع أهل قريتك.
وعلاقتك مع أهل وطنك.
وعلاقتك مع كلِّ أفراد الأمَّة.
وعلاقتك مع العالم.
هذه هي السِّياسة.
فالسِّياسة في الإسلام تنظِّم العلاقات، وتصوغ العلاقات صياغة من أرقى أنماط الصِّياغات.
اليوم لو نفتش في كلِّ أنظمة العالم، في أنظمة الحقوق في العالم، وفي المنظومة الحقوقيَّة في العالم فهي لا ترقى إلى الحدِّ الأدنى من مستويات الحقوق في الإسلام!
إذًا السِّياسة فيها حقوق لإخوانك.
توجد هناك منظومة علاقات بينك وبين النَّاس يجب أنْ تنتظم.
الحقُّ الأوَّل: القيام بالواجب تجاه إخوانك
“وأمَّا حقوق الأحياء، فهي أنْ تقوم بواجبك نحو إخوانك”” (الرَّوائع المختارة من خطب الإمام الحسن (عليه السَّلام)، الصَّفحة118، السَّيِّد مصطفى الموسوي).
هذه العلاقات الاجتماعيَّة، الحقوق الاجتماعيَّة.
الحقُّ الثَّاني: عدم التَّواني عن خدمة أمَّتك
“ولا تتأخَّر عن خدمة أمَّتك” (الرَّوائع المختارة من خطب الإمام الحسن (عليه السَّلام)، الصَّفحة118، السَّيِّد مصطفى الموسوي).
هنا ارتقى الإمام (عليه السَّلام) إلى مسؤوليَّة أخرى!
هنا مسؤوليَّة تجاه الأمَّة ككلٍّ!
في الحقِّ السَّابق تحدَّث عن حقوق النَّاس: حقِّ جارك، وحقِّ أخيك، وحقِّ أهل قريتك، وحقِّ النَّاس، فهذه حقوق أفراد، لكن المجتمع ككلٍّ له حقوق.
المجتمع ككلٍّ، ككيانٍ، والوطن ككيانٍ له حقوق.
والأمَّة كأمَّة لها حقوق.
والدِّفاع عن مقدَّسات الأمَّة هذا حقٌّ ليس للأفراد، هذا حقٌّ للأمَّة.
الدِّفاع عن مقدَّسات الأمة هذا ليس حقًّا للأفراد، هذا حقٌّ للأمَّة.
عندما أطالب بتحرير القدس هذا ليس حقًّا لأفراد، هذا حقٌّ للأمَّة، وحقٌّ للمسلمين، وحقٌّ لكلِّ الأجيال.
انظر فإنَّ الإمام (عليه السَّلام) حينما يحدِّد الحقوق، ينتقل من حقوق أفراد إلى حقوق كيانات، إلى حقوق أنظمة، إلى حقوق وُجودات.
فالأمَّة ككلٍّ لها حقوق، كالدِّفاع عن المقدَّسات، ومواجهة التَّحديات التي تواجه الأمَّة، وحماية وحدة الأمَّة، وأمن الأمَّة، فهذا حق ليس للأفراد، بل هو حقٌّ للجميع، وبالتَّالي ينعكس على الأفراد.
إنَّ المطلوب منَّا هو أنْ نحافظ على وحدة الأمَّة، ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (سورة الأنبياء: الآية92)، وفي آية أخرى: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ (سورة المؤمنون: الآية52).
إذًا هذا الحقُّ ليس حقَّ أفرادٍ، صحيح أنَّه ينعكس على الأفراد – وهو خير، وبركة -، ولكنه حقَّ أمَّة، وحقَّ مجتمع، وحقَّ وطن.
إذًا الإمام (عليه السَّلام) يقول: أنْ تقوم بهذه الحقوق تجاه الأحياء.
أنْ تقوم بواجبك نحو إخوانك.
هذه وظيفة اجتماعيَّة وحقُّ أفراد.
الحقُّ الثَّالث: الإخلاص لوليِّ الأمر متى ما أخلص لأمَّته
“ولا تتأخَّر عن خدمة أمَّتك، وأنْ تخلص لولي الأمر ما أخلص لأمَّته” (الرَّوائع المختارة من خطب الإمام الحسن (عليه السَّلام)، الصَّفحة118، السَّيِّد مصطفى الموسوي).
مفهوم سياسيٌّ راقٍ جدًّا ينظِّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم!
الشَّعب يجب أن يخلص للحاكم، ولكن متى؟
إذا أخلص الحاكمُ لشعبه.
إذا أدَّى الحاكمُ وظيفته تجاه شعبه.
عندها مطلوب منك أنْ تخلص إليه، وإلَّا المطلوب منك:
أنْ تنصح.
أنْ ترشد.
أنْ تقول الكلمة الهادية.
أنْ تقول الكلمة النَّظيفة.
لا يوجد عامل أقوى من تعزيز الثِّقة بين الحاكم والمحكوم؛ لإعداد وخَلْق الاستقرار في الأوطان، فمتى اهتزَّت العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فحينئذٍ تضطَّرب أوضاع الأوطان.
ما الذي يخلق الاستقرار في الأوطان؟
لا شكَّ هو تعزيز الثِّقة بين الحاكم والمحكوم.
وكيف تتعزَّز الثِّقة بين الحاكم والمحكوم؟
إذا احتضن الحاكمُ همومَ شعبِهِ، وآلامَ شعبِه، وجراحات شعبِه، فمن الطَّبيعيِّ أنْ الأمَّة، وأنَّ الشَّعب سيبادل عندئذٍ الاحتضانَ باحتضانٍ، والحبَّ بحبٍّ، والتَّعاطف بتعاطفٍ، هذه علاقة.
الإمام الحسن (عليه السَّلام) يرسم علاقة بين الرَّاعي والرَّعية، فمتى كان الرَّاعي، ومتى كان ولي الأمر مخلصًا لأمَّته، فالأمة مطلوب منها حينئذٍ أنْ تخلص لولي الأمر.
ثالثًا: حقوق الأموات
ثمَّ في الأخير ينتقل الإمام (عليه السَّلام) إلى حقوق الأموات.
السِّياسة في منظور الإمام الحسن (عليه السَّلام) ليس للأحياء فقط، بل حتَّى للأموات!
ما هو حقُّ الميت عليك؟
ليس المقصود حقَّ أمواتك الخاصِّين فحسب، بل أموات المؤمنين، وأموات المسلمين.
الحق الأوَّل: ذِكر خيرات الأموات
“وأمَّا حقوق الأموات، فهي أنْ تذكر خيراتهم” (الرَّوائع المختارة من خطب الإمام الحسن (عليه السَّلام)، الصَّفحة118، السَّيِّد مصطفى الموسوي).
اذكروا أمواتكم بخير، “أنْ تذكر خيراتهم”.
الحقُّ الثَّاني: التَّغاضي عن مساوئ الأموات
“…، وتتغاضى عن مساوئهم” (الرَّوائع المختارة من خطب الإمام الحسن (عليه السَّلام)، الصَّفحة118، السَّيِّد مصطفى الموسوي).
لا داعي لنبش تاريخ الميت، ومساوئه، وعيوبه وهو في قبره.
إنَّنا هنا لا نتحدَّث عن طغاة ومجرمين، فمثل هؤلاء – الطُّغاة، والمجرمين – يجب أنْ يُذكروا، ويبقوا عِبرة للتَّاريخ!
فلا تقل: لا تذكروا يزيدَ، ولا تذكر فلانًا، ولا فلانًا!
فمثل هؤلاء يجب أنْ يُذكروا؛ لأنَّهم طغاة، والقرآن الكريم ذَكَر الطُّغاة، ودوَّن حديثًا عنهم، وعن الفراعنة، وعن الجَبَابرة، وعن المنحرفين، وعن الفسَّاق.
الحديث هنا هو النَّهي عن تناول الحالات الفرديَّة – لا الطَّاغوتيَّة – كأنْ يُقال: واللهِ، إنَّ فلانًا من النَّاس لا يُشكِّل شيئًا!
ولا يُشكِّل وجودًا.
لا داعي للقول: إنَّه في يوم من الأيَّام عمل كذا، أو ظلم، أو اعتدى!
لقد مضى إلى سبيل ربِّه.
فإذا كان هناك جانب من الخير، فاذكُرْه، وإلَّا فاسترْ معايبه، ومساوئَه، ولا تنبشها، فإنَّ له ربًّا سيُحاسبه.
هل سيزيدك نبش قبر فلان – نبش سيرة فلان، وكشف عورته، وكشف مساوئه – شيئًا؟!
إذًا، اتركه لربِّه، فإنَّ له ربًّا سيحاسبه.
هذه مجموعة حقوق.
هذه مجموعة معانٍ، ومضامين ذَكَرها الإمام الحسن (عليه السَّلام) في كلمته حينما عرَّف لنا السِّياسة.
أكتفي بهذا القَدَر من الحديث، وأترك المجال لأسئلتكم.